
وأما موسى ـ عليه السلام ـ فلا نعلم عن حياته ـ حسب الأسفار الخمسة من التوراة ـ إلَّا قتاله وقيادته في الحرب وبسالته فيها، أما النواحي الأخرَى من حياته ـ كالحقوق في أمور الدنيا، والفرائض والواجبات ـ ؛ فلا نتبيّنها بوضوح وجلاء؛ لذلك يتعذّر علَى المرء أن يتّخذ منها أسوة في أعماله، ومَن يحاول أن يقف علَى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوج وزوجه والولد ووالده، وشروط الصداقة بين الصَّديقَين، وأساليب الهدنة بين الفريقَين المتقاتلَين، وكيف ينفق المرء أمواله وفيمَ ينفقها، وكيف يعامل اليتامَى والفقراء والمساكين؛ فإن مَن يحاول معرفة ذلك من سيرة موسى ـ عليه السلام ـ ؛ فسيرَى أن صحيفة حياته قد خَلَت من ذكر هذِهِ الأمور، مع أن موسى كان له زوج وإخوة وأقارب، ولا ريب أن موسى كان يعاشرهم أحسن معاشرة؛ فكان خير زوج لأهله، وأفضل أخ لإخوته، وأوفَى صديق لأصدقائه، والأسوة به في ذلك كله مرغوب فيها محمود أثرها، لكن كتبهم الَّتِي استعرَضَت سيرته خالية من ذلك.
والتاريخ لم يطرُق سمعه شيء عن هذِهِ الأنباء من حياة موسى ليتسَنَّى للناس أن يتَّخذوا منها أسوة في الحياة.
حياة عيسى عليه الصلاة والسلام والعلاقات الإجتماعية:
وكانت لعيسى ـ عليه السلام ـ أُمّ، والإنجيل يخبرنا بأنه كان له أخ وأخت، بل إنه كان له والد أيضًا ـ كما يكون لعامّة الأبناء آباء وأمهات ـ ! لكنّ قصة حياته لا تدلّنا علَى كيفية معاملته لذويه، وكيف كان يعاشرهم، مع أن الدنيا معمورة بالإخوة والخِلّان وذوي القربَى ـ وستبقَى حافلة بهم ـ ، وقد اعتنَت الدِّيانات بحقوق هؤلاء وأولئك، وفَرَضَت كثيرًا من فرائضها المتعلِّقة بحقوق الأسرة والعائلة، وحثَّت علَى القيام بتلك الفرائض. إن عيسى ـ عليه السلام ـ عاش عيشة المغلوبين المحكومين؛ فلا غرو إذَا لم نجد في حياته مثالًا من واجبات الحاكم الغالِب. ولم يكن له ـ عليه السلام ـ زوجة؛ لذلك لا نرَى في حياته مثالًا لما ينبغي أن يتبادله الزوج والزوجة من واجبات وحقوق، خصوصًا وأن الَّذِي بين الزوجين من الصِّلَة أوثق وأشدّ من الَّذِي بين الأولاد وآبائهم؛ كما جاء في سِفْر التَّكوين من التوراة أنّ هذِهِ الدنيا معظم سكانها يعيش عيشة الزواج والمناكحة؛ فليس له في حياة عيسى ـ عليه السلام ـ مثال. وإن العالم الَّذِي يحتاج سكانه في حياتهم إلَى أسوة تامة ليعلموا كيف تكون الرابطة بين الزوج وزوجه، وبين الصديق وأصدقائه، والأب وبنيه، والمقاتل وأعدائه، والهُدنة بين المتحاربين وكيف تنعقد؛ لا يستطيع أن يجد له أسوة في حياة مَن لا يجد لهذه الأمور ذِكرًا في سيرته.
ولو أن الناس في أيامنا هذِهِ آثَروا التأسِّي بحياة عيسى ـ عليه السلام ـ ، وأرادوا أن يعيشوا كما عاش؛ لكان مصيرها الخراب ، ولتحولت إلى مقابر للموتى بدلا من أن تكون معمورة يعيش فيها الإنسان، ولتوقفت كل عجلات الرقي والتطور والازدهار، ولما أمكن لأروبة المسيحية أن تتنفس ولو لحظة من الوقت.
(من محاضرات السيد سليمان الندوي في السيرة النبوية)
تعليقات