اليوم :4 December 2024

أبو الريحان البيروني رحمه الله

أبو الريحان البيروني رحمه الله

Image
أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، فيلسوف ومؤرخ ورحالة وجغرافي ولغوي وشاعر، وعالم في الرياضيات والطبيعيات والصيدلة. وعلى الرغم من اطلاعه الواسع على مختلف مجالات المعرفة في عصره، فإن اهتمامه كان مركزاً أكثر على الرياضيات والفلك. ويعدّه أعلام المستشرقين من العباقرة المسلمين العالميين الواسعي الاطلاع.

اسمه ونسبه:
محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي.
البيروني بلغة خوارزم تعني الغريب أو الآتي من خارج البلدة. وقال السيوطي هو بالفارسية: البراني, سمي به لكونه قليل المقام بخوارزم وأهلها يسمّون الغريب بهذا الاسم.
قال ياقوت الحموي : هذه النسبة معناها البراني، لأن بيرون بالفارسية معناه براً، وسألت بعض الفضلاء عن ذلك فزعم أن مقامه بخوارزم كان قليلاً، وأهل خوارزم يسمون الغريب بهذا الاسم، كأنه لما طالت غربته عنهم صار غريباً، وما أظنه يراد به إلا أنه من أهل الرستاق يعني أنه من براً البلد.

خوارزم:
منطقة إسلامية في جنوبي بحر (آرال) أو (بحر خوارزم) هي نهاية حوض نهر (جيحون) وكانت عاصمتها مدينة الجرجانية وقد لعبت خوارزم دورا هاما في التاريخ الإسلامي وكان منها عدد كبير من فحول العلماء منهم القاسم بن الحسين الخوارزمي وسراج الدين أبو بكر السكاكي وأبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي وغيرهم .

وقيل في سبب تسمية هذا المكان:
أن ملك الشرق في القديم قد غضب على أربعمائة رجل من أهل مملكته وخاصة حاشيته , فأمر بطردهم إلى موضع منقطع عن العمارات بحيث يكون على مائة فرسخ منها , و بعد مدة مديدة بعث الملك أقواماً يعطونه خبرهم، فلما ساروا إليهم وجدوهم أحياءً قد بنوا لأنفسهم كخاخات وأبنية, ورأوهم يصيدون السمك ويتقوتون به وإذا ثم حطب كثير. فلما رجعوا إلى الملك أعلموه بذلك، قال: فما يسمون اللحم قالوا: خوار، قال: والحطب، قالوا: رزم، قال: فإني قد أقررتهم بتلك الناحية وسميتها خوارزم، وأمر أن يحمل إليهم أربعمائة جارية تركية فإلى اليوم قد بقي فيهم شبه من الترك.
إسم قصبتها الكبرى كاث، ومن مدنها: الهيطلية، غردمان ، وإيخان، أرذخيوه، نوكفاغ، كردر، مدكمينيه.

فتح خوارزم:
فُتح خوارزم زمن حجاج بن يوسف.  وفاتح خوارزم هو قتيبة بن مسلم .

مولده:
ولد (أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني) في شهر ذي الحجة سنة 362هـ/ 3 من سبتمبر 973م، في إحدى ضواحي خوارزم، وهي مدينة (كاث) التي توجد مكانها حاليا بلدة صغيرة تابعة لجمهورية أوزبكستان، وكانت مدينة (خوارزم) مركزًا عظيمًا من مراكز الثقافة الإسلامية، ازدادت شهرتها بعد انهيار الخلافة الإسلامية في بغداد.

نشأة البيروني:
نشأ (البيروني) في الجو الذي يحث على طلب العلم ويدفع إلى التعلم، فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه والحديث النبوي الشريف، وفي رحلاته خالط التجار الهنود واليونانيين وغيرهم، فتعرف على طباعهم، وتعلّم لغتَهم، فاتسع إدراكه وازدادت خبرته وتعمقت تجاربه.
ولا تُعرف تفاصيل كثيرة عن حياة البيروني في طفولته، وإن كان لا يختلف في نشأته عن كثير من أطفال المسلمين، حيث يُدفعون إلى من يعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودراسة شيء من الفقه والحديث وهو ما تستقيم به حياتهم. ويبدو أنه مال منذ وقت مبكر إلى دراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا، وشغف بتعلّم اللغات، فكان يتقن الفارسية والعربية، والسريانية، واليونانية.

أساتذة البيروني:
التقى أبو الريحان بمعلم أعشاب استطاع أن يتعلم منه شيئًا عن تحضير النباتات الطبية، وأن يعرف أسماء النباتات، الأمر الذي دفعه إلى الاهتمام بالعلوم الطبيعية.
وتمكن (أبو الريحان) من أن يتصل بأبي نصر منصور بن علي، وكان عالمًا كبيرًا في الرياضيات والفلك، فأطلعه على هندسة إقليدس، وفلك بطليموس، فأصبح العالم الشاب أبو الريحان مؤهلاً لدراسة الفلك، كما اكتسب دراية كبيرة بالعلوم الهندسية والفلك والمثلثات من أبي الوفاء العالم الفلكي الشهير وصاحب مرصد بغداد.
 درس الرياضيات على يد العالم منصور بن عراق (970 – 1036) وعاصر ابن سينا (980 – 1037) و ابن مسكوويه (932 – 1030) الفيلسوفين من مدينة الري الواقعة في محافظة طهران . تعلم اللغة اليونانية و السنسكريتية خلال رحلاته و كتب باللغة العربية و الفارسية.

إسهاماته العلمية:
يعترف للبيروني بإسهام في مختلف العلوم، ففي مجال علم الأرض وضع نظرية لاستخدام امتداد محيط الأرض، وقد أوردها في آخر كتابه "الإسطرلاب". وتضمنت بحوثه ومؤلفاته في هذا الميدان نظريات وآراء حول قدم الأرض و عمرها وما اعتراها من ثورات وبراكين وزلازل وعوامل تعرية. وله نظريات حول تكوين القشرة الأرضية، وما طرأ على اليابسة والماء من تطورات خلال الأزمنة الجيولوجية. وله بحوث في حقيقة الحفريات، وكان يرى أنها لكائنات حية عاشت في العصور القديمة. وما توصل إليه في هذا الصدد أقره علماء الجيولوجيا في عصرنا الحالي.
وبحث في الوزن النوعي، وقدر بدقة كثافة 18 نوعاً من الأحجار الكريمة والمعادن، وتوصل إلى أن سرعة الضوء أكبر من سرعة الصوت، كما شرح كيفية عمل الينابيع الطبيعية والآبار الارتوازية بناء على مبدأ هيدروستاتيكي.
وكان البيروني ألمع علماء زمانه في الرياضيات كما يعترف بذلك"سمث" في الجزء الأول من كتابه "تاريخ الرياضيات". وبجانب ذلك اشتغل بالفلك، وبحث في هيئة العالم وأحكام النجوم، ووضع طريقة لاستخراج مقدار محيط الأرض تعرف عند العلماء الغربيين باسم " قاعدة البيروني" ؛ ووصف ظواهر الشفق وكسوف الشمس وغير ذلك من الظواهر الطبيعية بجانب إشارته لدوران الأرض حول محورها. كما كان ملمًا بعلم المثلثات، وهو من الذين بحثوا في التقسيم الثلاثي للزاوية.

مؤلفات البيروني:
ترك البيروني مؤلفات عديدة، تزيد عن مائة وخمسين كتاباً.
ومن أشهر مؤلفاته:
 ـ "القانون المسعودي في الهيئة والنجوم"، ألفه البيروني سنة (421هـ/1030م) بطلب من "مسعود بن محمد الغزنوي". وهو كتاب ضخم يشتمل على 143 باباً تناول فيه مختلف موضوعات الفلك والرياضيات. و طبع الكتاب في حيدرآباد بالهند.
ـ "كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم"، يبحث هذا الكتاب الحساب، والهندسة، والجبر، والعدد، والفلك. وقد كتبه البيروني على شكل سؤال وجواب، ووضحه بالأشكال والرسوم. وقد ترجمت معظم كتبه إلى اللغات الفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، ونشرت في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وقد رحل البيروني إلى الهند وأقام فيها بضع سنين، نتج عنها كتابه ، والمعروف بـ (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) أودع فيه نتيجة دراساته من تاريخ وأخلاق وعادات وعقائد وآداب وعلوم الهند، ومن جملتها ما كان عندهم من المعرفة بصورة الأرض.
ويصف المستشرق (روزن) هذا الكتاب بأنه "أثر فريد في بابه، لا مثيل له في الأدب العلمي القديم أو الوسيط، سواء في الغرب أم في الشرق".
وغير كتابه السابق كان للبيروني أيضًا كتب أخرى كثيرة ومهمة في ضروب مختلفة من العلم؛
ففي الجغرافيا ألَّف: تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض، وتحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن.
أمَّا في التاريخ؛ فله: تصحيح التواريخ، والآثار الباقية عن القرون الخالية.
وفي الفلك كان له مؤلفات عديدة، مثل: الاستشهاد باختلاف الأرصاد، واختصار كتاب البطليموس القلوذي، والزيج المسعودي، والاستيعاب لوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب، وتعبير الميزان لتقدير الأزمان، وقانون المسعودي في الهيئة.
وفي الرياضيات أُثِرَ عن البيروني مؤلَّفات عِدَّة؛ كاستخراج الكعاب والأضلاع وما وراءه من مراتب الحساب، وكتاب الأرقام.
ورغم اهتمامه بالعلم فإنه كان ذا باعٍ طويل في الأدب؛ لذا كتب شرح ديوان أبي تمام، ومختار الأشعار والآثار.
وفوق كل ذلك كان له مؤلَّفات عديدة في الفلسفة، مثل: كتاب المقالات والآراء والديانات، ومفتاح علم الهند، وجوامع الموجود في خواطر الهنود، ورسالة في الميكانيكا والأيدروستاتيكا وغير ذلك العشرات من المؤلَّفات الضخمة…
و كتب رسالة في معرفة سمت القبلة, كما اخترع جهازًا خاصًا يبين أوقات الصلاة بكل دقة وإتقان.
وبهذه المؤلفات يكاد البيروني يكون قد ألَّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره؛ فقد كتب في الرياضيات والفلك والتنجيم والحكمة والأديان والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والأحياء والصيدلة…

من ملامح شخصيته:
كان – رحمه الله – مع الفسحة في التعمير وجلالة الحال في عامة الأمور مكباً على تحصيل العلوم منصباً إلى تصنيف الكتب يفتح أبوابها، ويحيط بشواكلها وأقرابها ولا يكاد يفارق يده القلم، وعينه النظر… وكان حسن المحاضرة، طيب العشرة , خليعاً في ألفاظه , عفيفا في أفعاله، لم يأت الزمان بمثله علماً وفهماً.
وأما نباهة قدره وجلالة خطره عند الملوك:
أراد شمس المعالي قابوس بن وشمكير أن يستخلصه لصحبته ويرتبطه في داره، على أن تكون له الإمرة المطاعة في جميع ما يحويه ملكه، ويشتمل عليه ملكه، فأبى عليه ولم يطاوعه، ولما سمحت قرونته بمثل ذلك أسكنه في داره، وأنزله معه في قصره. ودخل خوارزمشاه يوماً وهو يشرب على ظهر الدابة فأمر باستدعائه من الحجرة فأبطأ قليلاً فتصور الأمر على غير صورته، وثنى العنان نحوه ورام النزول، فسبقه أبو الريحان إلى البروز وناشده الله ألا يفعل فتمثل خوارزمشاه:
العلم من أشرف الولايات … يأتيه كل الورى ولا ياتي

رحلاته:
أجبرت الاضطرابات والقلاقل التي نشبت في خوارزم البيروني على مغادرتها إلى "الري" سنة (384هـ= 994م)، وفي أثناء إقامته بها التقى بالعالم الفلكي "الخوجندي" المتوفى سنة (390هـ= 1000م) وأجرى معه بعض الأرصاد والبحوث، ثم عاد إلى بلاده وواصل عمله في إجراء الأرصاد، ثم لم يلبث أن شد الرحال إلى "جُرجان" سنة (388هـ= 998م) والتحق ببلاط السلطان قابوس بن وشمكير، الملقب بشمس المعالي، وكان محبًّا للعلم، يحفل بلاطه بجهابذة العلم وأساطين المعرفة، وتزخر مكتبته بنفائس الكتب، وهناك التقى مع "ابن سينا" وناظَرَه، واتصل بالطبيب الفلكي المشهور أبي سهل عيسي بن يحيى المسيحي، وتتلمذ على يديه، وشاركه في بحوثه.
 وظل البيروني في جرجان محل تقدير وإجلال حتى أطاحت ثورة غاشمة ببلاط السلطان قابوس سنة (400 هـ= 1009م) فرجع إلى وطنه بعد غياب، واستقر في مدينة "جرجانية" التي أصبحت عاصمة للدولة الخوارزمية، والتحق بمجلس العلوم الذي أقامه أمير خوارزم مأمون بن مأمون. وكان يزامله في هذا المجمع العلمي الرئيس ابن سينا، والمؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه.
عرف أمير خوارزم قدر البيروني فأحله منزلة عالية، واتخذه مستشارًا له، وأسكنه معه في قصره، وظل في معيته سبع سنوات، واصَلَ في أثنائها بحوثه في الفلك حتى استولى السلطان محمود الغزنوي على خوارزم وضمها إلى مُلكه، فانتقل إلى بلاطه، ورحل معه إلى بلاده سنة (407هـ= 1016م).

شهرته:

وتعود شهرة البيروني الحقيقية إلى مؤلفاته الغزيرة التي تظهر علمه الوافر ونبوغه الفكري بالإضافة إلى انتمائه الديني الواضح في كل كتابته التي يزينها دائما بآيات من القرآن الكريم. ويظهر انتماؤه إلى الإسلام ولغة القرآن بقوله في مقدمة كتابه الصيدلة في الطب : "ديننا والدولة عربيان توءمان.
و كان لمؤلَّفاته اليد الطُّولى في صناعة أمجاد عصر النهضة والثورة الصناعية في العالم الغربي؛ فقد حدَّد بدقة خطوط الطول وخطوط العرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وسبق في ذلك جاليليو وكوبرنيكوس، إضافةً إلى اكتشافاتٍ أخرى عديدة.
شهد له الناس في الشرق والغرب بعلمه وفضله، وأشاد الناس في كل مكان باكتشافاته ومؤلفاته، وحفر اسمه بحروف من نور على صفحات التاريخ !!

البيروني و ابن سينا:
كان أبو الريحان البيروني على اتصال بابن سينا الذي كان من أشهر علماء عصره وكثرت الرسائل بينهما في خدمة العلم، فأعجب به ابن سينا إعجابًا شديدًا واستمرت رسائلهما حوالي خمس سنوات يتبادلان الرأي حول قضايا علمية كثيرة.

عبقرية البيروني:
ويعد البيروني أبا الصيدلة العربية في العالم الإسلامي، فقد كتب عن الصيدلة كتبًا عديدة جعلته يحتل هذه المكانة المهمة في تاريخ الطب الإسلامي، وقد سجل البيروني في كتبه كثيرًا من فوائد النباتات الطبية والعقاقير والأدوية، كما كتب كتابًا أسماه (الصيدلة في الطب) وتجمعت لدى البيروني معلومات جغرافية كثيرة وضعها في كتاب سماه (نهاية الأماكن) وأثبت فيه أشياء لم تكن معروفة من قبل مثل:
أن وادي السند كان في العصور القديمة حوض بحر قديم كوّنته الرواسب التي حملها النهر.
وقال البيروني بدوران الأرض، وأنكر أن تكون الأرض مسطحة، وأنشأ مرصدًا خاصًّا به، وافترض أن الأرض ربما هي التي تدور حول الشمس، كما قال: إن الأزمان الجيولوجية تتعاقب في صورة دورات زمانية، كما اهتم البيروني أيضًا بدراسة التكوين الطبقي للصخور والأنهار والمحيطات، وابتكر نظامًا خاصًّا لرسم الخرائط رسمًا مجسمًا، وللبيروني جهود علمية طيبة في الترجمة عن لغات أخري مثل: اللغة الهندية والفارسية .. وغيرها، وقد قام بترجمة اثنين وعشرين كتابًا إلى اللغة العربية أهمها: ترجمة كتاب (أصول إقليدس) وكتاب (المجسطي) لبطليموس الفلكي.. وغيرهما.
 وكان البيروني مفكرًا وفيلسوفًا إسلاميًّا؛ فهو يرى أن طلب العلم هو أسمى هدف للحياة البشرية، وأن مطالب الحياة تستلزم مراعاة أداء الفرائض الدينية والتمسك القوي بالدين الإسلامي، لكي تساعد الإنسان المسلم في تصريف الأمور، وتمييز الخير من الشر والصديق من العدو، وكان البيروني يقدر آراء العلماء الذين سبقوه ويسجلها في كتبه بأمانة وموضوعية، ويُرجع الفضل إلى أهله، كما كان يحترم تقاليد الشعوب الأخرى وعاداتها، وطرائقها في التفكير والمعيشة، ويظهر تسامح البيروني ومرونة عقله ونزاهته وموضوعيته في تقديره لعلوم اليونان والهنود والفرس.. وغيرهم.
وقد أولى البيروني عناية كبيرة لعلم الجبر فدرس مؤلفات محمد بن موسى الخوارزمي وفهمها فهما تاما ، وأضاف إليها الكثير من التعليقات ، كما درس المعادلة الجبرية ذات الدرجة الثالثة وطورها بحلوله الهندسية والتحليلية. وحل المعادلة المشهورة في القرون الوسطى (س3 = 1 3س)، وحصل على نتيجة مرضية لجذورها مقربة للغاية إلى ستة منازل عشرية. واشتهر ببرهان القانون المعروف بجيب الزاوية مستخدما المثلث المستوى.
وفي حقل الكيمياء اتفق البيروني مع الكندي في رفض ادعاء القائلين بإمكانية تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب ، وأنكر سعيهم وراء الإكسير. وقد انصبت اهتماماته على دراسة عدة صناعات كانت قائمة في زمنه، كطلاء الأواني الفخارية، وتحضير الفولاذ المعد لصنع السيوف ، واستخلاص الزئبق من الزنجفر. وعرف بعض الطرائق الكيمياوية الهامة كالتصعيد، والتسامي، والتقطير، والتشميع، والترشيح إضافة إلى تحضير عدد من المركبات الكيمياوية.

من شعره:
مدح أبا الفتح البستي:
مضى أكثر الأيام في ظلّ نعمةٍ … على رتبٍ فيها علوت كراسيا
فآل عراقٍ قد غذوني بدرهم … ومنصور منهم قد تولّى غراسيا
وآخرهم مأمون رفّه حالتي … ونوّه باسمي ثم رأس راسيا
ولم ينقبض محمود عني بنعمة … فأقنى وأغنى مغضياً عن مكاسيا
عفا عن جهالاتي وأبدى تكرماً … وطرّى بجاهٍ رونقي ولباسيا
عفاء على دنياي بعد فراقهم … وواحزني إن لم أزر قبر آسيا
ولما مضوا واعتضت منهم عصابةً … دعوا بالتناسي فاغتنمت التناسيا
وخلَفت في غزنين لحماً كمضغةٍ … على وضمٍ للطير للعلم ناسيا
فأبدلت أقواماً وليسوا كمثلهم … معاذ إلهي أن يكونوا سواسيا

وله:
ومن حام حول المجد غير مجاهدٍ … ثوى طاعماً للمكرمات وكاسيا
وبات قرير العين في ظلّ راحةٍ … ولكنّه عن حلّة المجد عاريا

وله في التجنيس:
فلا يغررك مني لين مسّي … تراه في دروسي واقتباسي
فإني أسرع الثقلين طراً … إلى خوض الرّدى في وقت باس

ومنه:
أتأذنون لصبٍّ في زيارتكم … إن كان مجلسكم خلواً من الناس
فأنتم الناس لا أبغي بكم بدلاً … وأنتم الراس والإنسان بالرّاس
وكدكم لمعالٍ تنهضون بها … وغيركم طاعم مسترجع كاسي
قال الصفدي : شعر جيد، ويا عجبا كل العجب من نظم مثل هذا الرجل هذا النظم إذ ليس هذا فنّه ولا عرف به، ذلك فضل الله.

أقوال العلماء فيه:
ذكره محمد بن محمود النيسابوري فقال: له في الرياضيات السبق الذي لم يشق المحضرون غباره، ولم يلحق المضمرون المجيدون مضماره، وقد جعل الله الأقسام الأربعة له أرضاً خاشعة، سمت له لواقح مزنها، واهتزت به يوانع نبتها، فكم مجموع له على روض النجوم ظله، ويرفرف على كبد السماء طله.
و قال عمر كحالة في معجم المؤلفين – (ج 8 / ص 241) :
محمد بن احمد البيروني ، الخوارزمي (أبو الريحان): حكيم، رياضي، فلكي، طبيب، أديب، لغوي، مؤرخ.
وقال البيهقي: زادت تصانيفه على حمل بعير.
وقال أحمد تمام:
كان البيروني عالمًا فذا، متعدد الجوانب، غزير الإنتاج، عظيم الموهبة عميق الفكر، فهو مؤرخ محقق وجغرافي مدقق، وفلكي نابه، ورياضي أصيل، وفيزيائي راسخ، ومترجم متمكن، بلغ من إعجاب الأوروبيين به أن قال عنه المستشرق سخاو: "إن البيروني أكبر عقلية في التاريخ"، ويصفه آخر بقوله: "من المستحيل أن يكتمل أي بحث في التاريخ أو الجغرافيا دون الإشادة بأعمال هذا العالم المبدع".
ولم يلق البيروني تقديرًا من المسلمين فحسب، بل إن الأوربيين كانوا يرون أن البيروني أكبر عقلية علمية في التاريخ، وأنه من أعظم العلماء الذين ظهروا على مر العصور، وأن اسمه يجب أن يوضع في لوحة الشرف التي تضم أكابر العلماء، وأنه من المستحيل أن يكتمل أي بحث في الرياضيات أو الفلك أو الجغرافيا أو المعادن أو العلوم الإنسانية، دون الإقرار بإسهاماته العظيمة في كل علم من تلك العلوم.
وأطلق عليه المستشرقون تسمية بطليموس العرب.
عرَّفه جورج سارتون في كتابه (مقدمة لدراسة تاريخ العلم) بقوله عنه: "كان رحّالة وفيلسوفًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا، وجغرافيًّا، وعالمًا موسوعيًّا، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم". ووصفه المستشرق الألماني سخاو بقوله: "أعظم عقلية عرفها التاريخ".
وقد أشاد بمكانة البيروني العلمية كبار مؤرخي العلم، وأنشئت باسمه جامعة في (طشقند) عاصمة جمهورية أوزبكستان الإسلامية تقديرًا لمآثره العلمية، كما اختير من بين (18) عالمًا إسلاميًّا أطلقت أسماؤهم على بعض معالم القمر.

من أقواله:
قال: جل خطر الملوك عن المجازاة بالانتقام.
ـ ليس للملك أن يحسد إلا على حسن التدبير والسياسة.
ـ الملك أقل الناس خوفاً من الفقر، وأكثر الناس خطراً وقرباً إلى الهلاك، فليس له أن يبخل ويجبن، فإن ما قل عنده لا يكثر، وما كثر لا ينعدم.
ـ المن يبطل إحسان المحسن.
ـ العاقل من استغنى بتدبير اليوم(عن تدبير الغد) لا تحقر الأمر الصغير، فللأمر الصغير موضع ينتفع به، وللأمر الكبير موقع لا يستغنى عنه.
ـ من كفاه التأديب بالكلام لا يؤدب بالسوط والسيف.
ـ مدارسة أخلاق الحكماء والعلماء تحيي السنة الحسنة، وتميت البدعة (السيئة).
ـ السنن الصالحة علامات الخير والحق. لكل يوم أمر حاضر، ولكل غد ما فيه يحدث .

في بلاط الغزنويين:
عاش البيروني في "غزنة" (كابول الآن) مشتغلا بالفلك وغيره من العلوم، ورافق السلطان محمود الغزنوي في فتوحاته الظافرة في بلاد الهند، وقد هيأ له ذلك أن يحيط بعلوم الهند، حيث عكف على دراسة لغتها، واختلط مع علمائها، ووقف على ما عندهم من العلم والمعرفة، واطلع على كتبهم في العلوم والرياضيات، ودرس جغرافية الهند من سهول ووديان وجبال وغيرها، إضافة إلى عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها المختلفة، ودوّن ذلك كله في كتابه الكبير "تحقيق لما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".
وبعد تولي السلطان مسعود بن محمود الغزنوي الحكم خلفًا لأبيه سنة (421هـ= 1030م)، قرب إليه البيروني، وألحقه بمعيته، وأحاطه بما يستحق من مكانة وتقدير، حتى إنه عندما كتب موسوعته النفيسة في علم الفلك أطلق عليها "القانون المسعودي في الحياة والنجوم" وأهداها إلى السلطان مسعود الذي أحسن مكافأته، فبعث إليه بحمل فيلٍ من القطع الفضية، غير أن البيروني اعتذر عن قبول الهدية؛ لأنه يعمل دون انتظار أجر أو مكافأة، وظل البيروني بعد رجوعه من الهند مقيمًا في غزنة منقطعًا إلى البحث والدرس حتى توفاه الله.

وفاته :
وفي رجب سنة 440هـ/ 1048م توفي البيروني، وكانت وفاته ختام حياة حافلة لرجل حكيم وعظيم، وفي وفاته يحكي أبو الحسن علي بن عيسى فيقول: دخلتُ على أبي الريحان وهو يجود بنفسه، فقال لي: كيف قلتَ لي يومًا في حساب الجدّات الفاسدة؟ فقلت له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة؟ قال: يا هذا، أودِّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، أَلاَ يكون خيرًا من أن أخلِّيها وأنا جاهل بها؟ فأعدتُ ذلك عليه وحفظ، وعلّمني ما وعد، وخرجت من عنده، وأنا في الطريق فسمعت الصراخ عليه !!
ومات البيروني وشيعه كبار رجال العلم ومحبوه ممن تتلمذوا على يديه،. وكان ذلك في غزنة في (3 من رجب 440هـ= 12 من ديسمبر 1048م).
رحم الله ذلك العالم المسلم الكبير بقدر ما قدم للإنسانية من علم ومعرفة.

الكاتب: الشيخ عبد الحميد جمعة

**************************

من مصادر الدراسة:
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم – المقدسي (ج 1 / ص 104)
البلدان – اليعقوبي (ج 1 / ص 28)
تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية لابن كثير – (ج 1 / ص 486)
معجم الأدباء – لياقوت الحموي(ج 2 / ص 316)
تتمة صوان الحكمة – ظهير الدين البيهقي(ج 1 / ص 13)
اسلام اون لاين
تاريخ قصة الاسلام 
الصفدي: الوافي بالوفيات. (ج 4 / ص 467)
معجم المؤلفين / عمر كحالة ـ (ج 8 / ص 241).

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات