- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

حقوق العباد والأديان السابقة

mizan10ديانة (بوذا): أما بوذا فإنه منذ هجر أهله وعياله إلَى الصحاري والغابات؛ لم يرجع قط إلَى خَليلته الَّتِي كانت حبيبة إلَى قلبه، ولم ير ولده الوحيد مرةً أخرى، وترك خِلَّانه وأحباءه؛ فخفف عن كاهله أعباء الحُكْم، وارتضى الموت آخر وسيلة له إلَى النجاة؛ فكان الأجل المحتوم الغاية القصوَى للحياة البشرية عنده. فمَن ذا الَّذِي يرضَى بأن يتخذ من حياة بوذا أسوة في هذِهِ الدنيا؛ الَّتِي لا بقاء لها ولا عمران إلَّا بالحياة الاجتماعية والروابط العمرانية والأواصر الإنسانية، ولا بُدّ فيها من رَاعٍ يرعَى رعيّته، وصديق يألف صديقه، ووالد يُشفق علَى ولده، وأُمّ تحن علَى فَلذة كبدها ؟! وهل في حياة بوذا شيء من ذلك يكون به أسوة للجميع ـ من الرهبان الَّذِين انقطعوا للآخرة، إلَى الآباء ذوي العِيال، وأصحاب الضياع والمزارع والمصانع والأموال ـ ؟ كلَّا ثم كلَّا؛ لم تكن سيرة بوذا قط أسوة للهناء العائلي، ولا لأهل الصناعات والمتاجر، ولو اتَّخذ أتباع بوذا قدوة لهم من حياة بوذا؛ لما قامت لهم هذِهِ الدول في الصين واليابان وسيام وتبت وبورما، ولما عمّرت للتجارة في بلادهم سوق، ولا دبّت الحياة في صناعاتهم ومصانعهم. ولو اختار أهل تلك البلاد سيرة متبوعهم سيرة لهم وساروا عليها؛ لأقفرت الأرض العامرة، وتحوّلت إلَى صحاري قاحلة، ولأصبحت المدن خرابًا أو أرضًا جرداء !

الدين الموسوي:
وأما موسى ـ عليه السلام ـ فلا نعلم عن حياته ـ حسب الأسفار الخمسة من التوراة ـ إلَّا قتاله وقيادته في الحرب وبسالته فيها، أما النواحي الأخرَى من حياته ـ كالحقوق في أمور الدنيا، والفرائض والواجبات ـ ؛ فلا نتبيّنها بوضوح وجلاء؛ لذلك يتعذّر علَى المرء أن يتّخذ منها أسوة في أعماله، ومَن يحاول أن يقف علَى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوج وزوجه والولد ووالده، وشروط الصداقة بين الصَّديقَين، وأساليب الهدنة بين الفريقَين المتقاتلَين، وكيف ينفق المرء أمواله وفيمَ ينفقها، وكيف يعامل اليتامَى والفقراء والمساكين؛ فإن مَن يحاول معرفة ذلك من سيرة موسى ـ عليه السلام ـ ؛ فسيرَى أن صحيفة حياته قد خَلَت من ذكر هذِهِ الأمور، مع أن موسى كان له زوج وإخوة وأقارب، ولا ريب أن موسى كان يعاشرهم أحسن معاشرة؛ فكان خير زوج لأهله، وأفضل أخ لإخوته، وأوفَى صديق لأصدقائه، والأسوة به في ذلك كله مرغوب فيها محمود أثرها، لكن كتبهم الَّتِي استعرَضَت سيرته خالية من ذلك.
والتاريخ لم يطرُق سمعه شيء عن هذِهِ الأنباء من حياة موسى ليتسَنَّى للناس أن يتَّخذوا منها أسوة في الحياة.

حياة عيسى عليه الصلاة والسلام والعلاقات الإجتماعية:
وكانت لعيسى ـ عليه السلام ـ أُمّ، والإنجيل يخبرنا بأنه كان له أخ وأخت، بل إنه كان له والد أيضًا ـ كما يكون لعامّة الأبناء آباء وأمهات ـ ! لكنّ قصة حياته لا تدلّنا علَى كيفية معاملته لذويه، وكيف كان يعاشرهم، مع أن الدنيا معمورة بالإخوة والخِلّان وذوي القربَى ـ وستبقَى حافلة بهم ـ ، وقد اعتنَت الدِّيانات بحقوق هؤلاء وأولئك، وفَرَضَت كثيرًا من فرائضها المتعلِّقة بحقوق الأسرة والعائلة، وحثَّت علَى القيام بتلك الفرائض. إن عيسى ـ عليه السلام ـ عاش عيشة المغلوبين المحكومين؛ فلا غرو إذَا لم نجد في حياته مثالًا من واجبات الحاكم الغالِب. ولم يكن له ـ عليه السلام ـ زوجة؛ لذلك لا نرَى في حياته مثالًا لما ينبغي أن يتبادله الزوج والزوجة من واجبات وحقوق، خصوصًا وأن الَّذِي بين الزوجين من الصِّلَة أوثق وأشدّ من الَّذِي بين الأولاد وآبائهم؛ كما جاء في سِفْر التَّكوين من التوراة أنّ هذِهِ الدنيا معظم سكانها يعيش عيشة الزواج والمناكحة؛ فليس له في حياة عيسى ـ عليه السلام ـ مثال. وإن العالم الَّذِي يحتاج سكانه في حياتهم إلَى أسوة تامة ليعلموا كيف تكون الرابطة بين الزوج وزوجه، وبين الصديق وأصدقائه، والأب وبنيه، والمقاتل وأعدائه، والهُدنة بين المتحاربين وكيف تنعقد؛ لا يستطيع أن يجد له أسوة في حياة مَن لا يجد لهذه الأمور ذِكرًا في سيرته.
ولو أن الناس في أيامنا هذِهِ آثَروا التأسِّي بحياة عيسى ـ عليه السلام ـ ، وأرادوا أن يعيشوا كما عاش؛ لكان مصيرها الخراب ، ولتحولت إلى مقابر للموتى بدلا من أن تكون معمورة يعيش فيها الإنسان، ولتوقفت كل عجلات الرقي والتطور والازدهار، ولما أمكن لأروبة المسيحية أن تتنفس ولو لحظة من الوقت.

(من محاضرات السيد سليمان الندوي في السيرة النبوية)