مولده:
ولد محمد بن عبد الله (الحاكم النيسابوري) في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الأول، سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة ، بنيسابور. طلب هذا الشأن في صغره بعناية والده وخاله، وأول سماعه كان في سنة ثلاثين، وقد استملى على أبي حاتم بن حبان في سنة أربع وثلاثين وهو ابن ثلاث عشرة سنة.
ولحق الأسانيد العالية بخراسان والعراق وما وراء النهر، وسمع من نحو ألفي شيخ، فإنه سمع بنيسابور وحدها من ألف نفس، وارتحل إلى العراق وهو ابن عشرين سنة، فقدم بعد موت إسماعيل الصفار بيسير.
شيوخه:
أخذ القراءة عرضاً عن أحمد بن إسماعيل الصرام, وأبي بكر محمد بن العباس بن الإمام بخراسان. وأبي عيسى بكار بن محمد ببغداد, وأبي علي النقار بالكوفة, ومحمد بن الحسين بن أيوب النوقاني, وأبي الحسن محمد بن محمد بن الحسن الكازري.
وتفقه على أبي سهل الصعلوكي.
وبرع في فنون الحديث وأتقن الفقه للشافعي .
ومن أساتذته أيضا: والده، ومحمد بن علي المذكر، ومحمد بن يعقوب الأصم، ومحمد بن يعقوب الشيباني ابن الاخرم، ومحمد بن أحمد بن بالويه الجلاب، ومحمد بن أحمد بن سعيد الرازي صاحب ابن واره، ومحمد بن عبد الله بن أحمد الصفار، وصاحبي الحسن بن عرفة: علي بن الفضل الستوري، وعلي بن عبد الله الحكيمي، وإسماعيل ابن محمد الرازي، ومحمد بن القاسم العتكي، و محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي الجمال، ومحمد بن المؤمل الماسرجسي، وأحمد بن محمد بن عبدوس العنزي، و بكر بن محمد المروزي الصيرفي، وحسان بن محمد الفقيه، وعلي بن حمشاد العدل، ومحمد بن صالح بن هانئ، وعثمان بن أحمد الدقاق البغدادي، وعبد الله بن درستويه ، وخلق غيرهم.
تلاميذه:
له تلاميذ كثيرون منهم : الدارقطني وهو من شيوخه، وأبو الفتح بن أبي الفوارس، وأبو العلاء الواسطي، ومحمد بن أحمد بن يعقوب، وأبو ذر الهروي، وأبو يعلى الخليلي، وأبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو صالح المؤذن، والزكي عبدالحميد البحيري، ومؤمل بن محمد بن عبدالواحد، وأبو الفضل محمد بن عبيدالله الصرام، وعثمان بن محمد المحمي، وأبو بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي، وخلق سواهم.
رحلاته:
ورحل إلى العراق سنة 341 هـ وحج، وجال في بلاد خراسان وما وراء النهر، وفي سنة 359 هـ ولي قضاء نيسابور، ولُقّبَ بالحاكم لتوليه القضاء مرة بعد مرة، ثم اعتزل منصبه ليتفرغ للعلم والتصنيف، تولى السفارة بين ملوك بني بويه وبين السامانيين فأحسن السفارة.
ثناء العلماء عليه:
قال عنه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: وكان من أهل العلم والحفظ والحديث…وقد كان من أهل الدين والأمانة والصيانة والضبط والتجرد والورع…
قال الحافظ الذهبي: قرأت على أبي علي بن الخلال: أخبركم جعفر بن علي، أخبرنا السلفي، أخبرنا إسماعيل بن عبد الجبار، سمعت الخليل بن عبد الله الحافظ ذكر الحاكم وعظمه، وقال: له رحلتان إلى العراق والحجاز، الثانية في سنة ثمان وستين، وناظر الدارقطني، فرضيه، وهو ثقة واسع العلم، بلغت تصانيفه قريبا من خمس مئة جزء، يستقصي في ذلك، يؤلف الغث والسمين.
قال أبو حازم عمر بن أحمد العبدويي الحافظ: سمعت الحاكم أبا عبد الله إمام أهل الحديث في عصره يقول: شربت ماء زمزم، وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف.
قال أبو حازم: أقمت عند أبي عبد الله العصمي قريبا من ثلاث سنين، ولم أر في جملة مشايخنا أتقن منه ولا أكثر تنقيرا، وكان إذا أشكل عليه شيء، أمرني أن أكتب إلى الحاكم أبي عبد الله، فإذا ورد جواب كتابه، حكم به، وقطع بقوله.
قال ابن طاهر: سألت سعد بن علي الحافظ عن أربعة تعاصروا: أيهم أحفظ ؟ قال: من ؟ قلت: الدار قطني، وعبد الغني، وابن مندة، والحاكم.
فقال: أما الدار قطني فأعلمهم بالعلل، وأما عبد الغني فأعلمهم بالأنساب، وأما ابن مندة فأكثرهم حديثا مع معرفة تامة، وأما الحاكم فأحسنهم تصنيفا.
وقال الذهبي رحمه الله في “العبر في خبر من غبر”: – (ج 1 / ص 180)
النيسابوري، الحافظ الكبير… قرأ القراءات على جماعة، وبرع في معرفة الحديث وفنونه، وصنّف التصانيف الكثيرة، وانتهت إليه رئاسة الفن بخراسان، لا بل في الدنيا…
وقال ابن الجزري في كتابه القيم (غاية النهاية في طبقات القراء):
كان إماماً ثقة صدوقاً إلا أن في مستدركه أحاديث ضيعفة.
وقال عمر كحالة في معجم المؤلفين:
… محدث، حافظ, مؤرخ.
نسبته إلى التشيّع والرَّفض:
ذكر الحافظ الذهبي، عن ابن طاهر: أنه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي، عن أبي عبد الله الحاكم، فقال: ثقة في الحديث، رافضي خبيث.
قال الذهبي: قلت: كلا ليس هو رافضيا، بل يتشيع.
جاء في الإنصاف في مسائل الخلاف ج1 ص41.
فقد طعن عليه من عدة جهات وهي:
أ- التشيع ، وقد اتهمه بذلك أبو بكر الخطيب في تاريخه …
ب- الرفض على حد اصطلاحهم ، وقد اتهمه بذلك أبو إسماعيل الأنصاري حيث قال : ثقة في الحديث، رافضي خبيث، وقال بشأنه إبن طاهر المقـدسي: كان شديد التعصب للشيعة في الباطن ، وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة، وكان منحرفاً غالياً عن معاوية وأهل بيتـه، يتظاهر به ولا يعتـذر به.
ج- انحرافه عن معاوية، وقد نسبه إليه إبن طاهر المقدسي، ونقله أيضاً السبكي حيث قال : … فسمعت أبا الفتح إبن سمكويه بهراة يقول : سمعت عبد الواحد المليحي يقول : سمعت أبا عبد الرحمن السّلمي يقول : دخلت على أبي عبد الله الحاكم وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد ، من أصحاب أبي عبد الله بن كرَّام، وذلك أنهم كسروا منبره، ومنعوه من الخروج فقلت له: لو أخرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثاً لاسترحت من هذه الفتنة. فقال: لا يجيء من قلبي، يعني معاوية.
وتهمته بالتشيع وكذا الرفض على حد تعبيرهم لاشك في بطلانها وعدم صحتها وذلك:
أولاً: لأن المعروف من حال الحاكم أنه من السنة وأعلامهم، بل ومن كبار أئمتهم وقد وصفه عدة منهم أنه كان أعلم أهل الحديث في الدنيا في عصره، وليس بالإمكان أن ينسب إليه ذلك إلا بدليل ظاهر أو أن يطلعوا على حقيقة ما في قلبه، وهذا الأمر مما لا سبيل إليه ، ومن هنا فقد دافع السبكي عنه بعد أن بين ظاهر ما عليه من إتباع مذهب السنة وأنه في الاعتقاد من الأشاعرة بأنه لا يقبل بعد ما عليه من الظاهر أن ينسب إليه ذلك لامتناع الإطلاع على الباطن ، ومن جملة ما ذكره في الرد على ابن طاهر المقدسي قوله : ثم أنى له إطلاع على باطن الحاكم حتى يقضي عليه بأنه كان يتعصب للشيعة باطناً.
وأما بالنسبـة لتصنيفه كتاباً في مناقب سيـدة نسـاء العالمين فمـا وجه دلالته على التشيع إذا كان يقول بمناقب عائشة وغيرها ، وهل يطلب أن يكون الإنسان غير مقر بمناقبها حتى يكون من أهل السنة ، ثم إن عددا كبيراً من محدثي السنة صنفوا في فضائلها عليها الصلاة والسلام منهم الحافظ أبي حفص بن شاهين والحافظ جلال الدين السيوطي وغيرهما .
وأما بالنسبة لتصنيفه كتاباً في حديث الغدير ، فبعد كون الحديث معتبراً أو متواتراً عند عدد كبير من الحفاظ ، فما هو وجه الدلالة فيه على التشيع خصوصا إذا كان الدافع هو دافع علمي بحت وهو جمع الطرق بعد كثرتها وتفرقها كما فعل ذلك الذهبي حيث صنف كتاباً مستقلاً بهذا الشأن ، وكذا الحافظ أبو جعفر بن جـرير الطبري والحافظ العراقي صاحب ألفيـة الحـديث المشهورة والحافظ الدارقطني وغيرهم …
(نقلا عن شبكة الشيعة العالمية)
ويؤكد بعض الباحثين على أن موقف الحاكم رحمه الله من معاوية رضي الله عنه ، لا يبلغ درجة الرفض، ولكن تشيعه أشبه ما يكون بتشيع أهل الكوفة، كوكيع, والأعمش، وتشيع بعض كبار علماء أهل السنة ، كالنسائي وابن عبد البر وابن جرير الطبري ، والفرق بينه وبين الرفض كبير، فالأول أصحابه لا يقدحون في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا في عثمان رضي الله عنه، ويقدمون الشيخين رضي الله عنهما في الفضل والخلافة، ويقدمون عثمان رضي الله عنه في الخلافة ونقطة الخلاف الوحيدة بينهم وبين أهل السنة الخلص أنهم يقدمون عليا رضي الله عنه على عثمان في الفضل ، وهذا وإن كان مما يخالف فيه هؤلاء إلا أنه لا يوجب تفسيقاً أو تضليلاً ، وإنما الذي يوجب الفسق والتضليل هو تقديم علي رضي الله عنه في الفضل أو الخلافة على الشيخين رضي الله عنهما ، أو تقديمه رضي الله عنه على عثمان في الخلافة لا الفضل كما نبه إلى ذلك شيخ الإسلام ، وأما الثاني فهو مذهب خبيث يقتضي الطعن في الشيخين رضي الله عنهما وعثمان رضي الله عنه والقدح في إمامتهم وهو الذي يوجب التفسيق والتضليل.
وقد تكلم التاجُ السبكي على ذلك في ترجمته للحاكم حين ترجم له في طبقاته وجعل لذلك فصلاً عنون له بقوله : ” ذِكرُ البحثِ عما رُمي به الحاكم من التشيع …
قال السبكي : ” وقد رُمي هذا الإمام الجليل بالتشيع وقيل : إنَّه يذهب إلى تقديم عَلِيٍّ من غير أن يطعن في واحد من الصحابة رضي الله عنهم ؛ فنظرنا فإذا الرجل : محدثٌ لا يُختلفُ في ذلك . وهذه العقيدة تَبْعُدُ على محدِّث ؛ فإن التشيع فيهم نادر ، وإن وجد في أفراد قليلين .
ثم نظرنا مشايخه الذين أخذ عنهم العلم ؛ وكانت له بهم خصوصية فوجدناهم من كبار أهل السنة ومن المتصلبة في عقيدة أبي الحسن الأشعري كالشيخ أبي بكر بن إسحاق الصبغي ، والأستاذ أبي بكر بن فورك ، والأستاذ أبي سهل الصعلوكي ، وأمثالهم . وهؤلاء هم الذين كان يجالسهم في البحث ، ويتكلم معهم في أصول الديانات ، وما يجري مجراها.
ثم نظرنا تراجم أهل السنة في “تاريخه” ؛ فوجدناه يعطيهم حقهم من الإعظام والثناء مع ما ينتحلون ؛ وإذا شئت فانظر ترجمة أبي سهل الصعلوكي ، وأبي بكر بن إسحاق ، وغيرهما من “كتابه” ولا يظهر عليه شيء من الغمز على عقائدهم . وقد استقريتُ فلم أجد مؤرخاً ينتحل عقيدة ، ويخلو كتابه عن الغمز ممن يحيد عنها : سُنّةُ الله في المؤرخين ، وعادته في النقلة ، ولا حول ولا قوة إلا بحبله المتين.
ثم رأينا الحافظ الثبت : أبا القاسم بن عساكر أثبته في عداد الأشعريين الذين يُبَدّعون أهل التشيع ، ويبرءون إلى الله منهم ؛ فحصل لنا الريب فيما رُمِيَ به هذا الرجل على الجملة.
ثم نظرنا تفاصيله: فوجدنا الطاعنين يذكرون أن محمد بن طاهر المقدسي ذكر أنَّه سأل أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري عن الحاكم أبي عبد الله ؛ فقال : “ثقة في الحديث رافضي خبيث” (!) , وأن ابن طاهر هذا قال : ” إنَّه كان شديد التعصب للشيعة في الباطن ، وكان يظهر التسنُّنَ في التقديم والخلافة ، وكان منحرفاً غالياً عن معاوية , وأهل بيته يتظاهر به , ولا يعتذر منه” (!).
فسمعت أبا الفتح ابن سمكويه بهراة يقول: سمعت عبد الواحد المليحي يقول: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عبد الله الحاكم – وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كرام – وذلك أنهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج فقلت له: “لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثاً لاسترحت من هذه الفتنة”.
فقال: “لا يجيء من قلبي – يعني معاوية -“.
وإنَّه قال أيضاً : سمعت أبا محمد بن السمرقندي يقول : بلغني أن “مستدرك الحاكم” ذكر بين يدي الدارقطني ؛ فقال : نعم يُستدرك عليهما “حديث الطير”.
فبلغ ذلك الحاكم ؛ فأخرج الحديث من الكتاب.
هذا ما يذكره الطاعنون وقد استخرتُ الله كثيراً ، واستهديته التوفيقَ وقطعتُ القول : بأنّ كلام أبي إسماعيل , وابن الطاهر لا يجوز قبولُه في حق هذا الإمام ؛ لما بينهم من مخالفة العقيدة ؛ وما يرميان به من التجسيم أشهرُ مما يُرمَى به الحاكم من الرفض ! ولا يغرنَّك قولُ أبي إسماعيل – قبل الطعن فيه – أنَّه : ثقةٌ في الحديث ؛ فمثل هذا الثناء يُقدِّمه من يريدُ الإزراءَ بالكبار قبل الإزراء عليهم ؛ ليوهم البراءةَ من الغرضِ ؛ وليس الأمرُ كذلك .
والغالب على ظني أن ما عُزِيَ إلى أبي عبد الرحمن السُّلمي كذبٌ عليه ؛ ولم يبلغنا أن الحاكم ينالُ من معاوية ؛ ولا يُظن ذلك فيه . وغاية ما قيل فيه : الإفراط في وَلاءِ عَلِيّ رضي الله عنه ، ومقامُ الحاكم – عندنا – أَجَلُّ من ذلك .وأمَّا ابنُ كَرَّام : فكان داعيةً إلى التجسيم ؛لا يُنكر أحدٌ ذلك . ثُمَّ إن هذه حكاية لا يحكيها إلا هذا الذي يُخالف الحاكمَ في المعتقد ؛ فكيف يَسَعُ المرءَ – بين يدي الله تعالى – أن يقبل قوله فيها ، أو يعتمد على نقله !؟ ثُمَّ أنّى له اطلاعٌ على باطن الحاكم ؛ حَتَّى يقضي بأنه كان يتعصب للشيعة باطناً .
وأما ما رواه الرواة عن الدارقطني – إن صح – فليس فيه ما يُرمي به الحاكمُ ؛ بل غايته أنَّه استقبح منه ذكر “حديث الطير” في “المستدرك” وليس هو بصحيح فهو يكثر من الأحاديث التي أخرجها في “المستدرك” واستُدرِكت عليه .
ثم قول ابن طاهر: إن الحاكم أخرج “حديث الطير” من “المستدرك” فيه وقفة ؛ فإن “حديث الطير” موجود في “المستدرك” إلى الآن ؛ وليته أخرجه منه ؛ فإن إدخاله فيه من الأوهام التي تُستقبح ثم لو دلّت كلمة الدارقطني على وضعٍ من الحاكم ؛ لم يُعتدَّ بها ؛ لما ذكر الخطيب في “تاريخه من أن الأزهري حدثه أن الحاكم ورد بغداد قديماً فقال : ذُكِرَ لي أن حافظكم – يعني الدارقطني – خرّج لشيخ واحد خمسمائة جزء ؛ فأروني بعضها ! فحُمل إليه منها ؛ وذلك مما خرّجه لأبي إسحاق الطبري , فنظر في أول “الجزء الأول” حديثاًً لعطية العوفي ؛ فقال : استفتح بشيخ ضعيف ؛ ثُمَّ رمى الجزء من يده ، ولم ينظر في الباقي !
فهذه كلمةٌ من الحاكم في الدارقطني تقابلُ كلمةَ الدارقطني فيه , وليس على واحد منها فضاحةٌ ؛ غير أنَّه يؤخذ منهما : أنَّه قد يكون بينهما ما قد يكون بين الأقران .
وقد قدمنا في الطبقة الأولى في ترجمة أحمد بن صالح أن كلام النظير في النظير – عند ذلك – غير مقبول ولا يوجب طعناً على القائل , ولا المقول فيه ، وحققنا في ذلك جملة صالحة ، وذلك كله بتقدير ثبوت الحكاية ، وأن فيها تعريضاً من الدارقطني بغمز الحاكم بسوء العقيدة ، ولا يُسلََّمُ واحدٌ من الأمرين؛ وإنما فيها عندنا الغمز من كتاب “المستدرك” ؛ لما فيه مما يُستدرك ! وهو غمزٌ صحيحٌ .
وحكا شيخنا الذهبي كلام ابن طاهر وذيَّل عليه أن للحاكم “جزءاً في فضائل فاطمة” ؛ وهذا لا يلزم منه رفضٌ ولا تشيعٌ ، ومن ذا الذي ينكر فضائلها رضي الله عنها ؟!
فإن قلت : فهل ينكر أن يكون عند الحاكم شيء من التشيع ؟
قلت : الآن حصحص الحق ؛ والحق أحق أن يُتبع .
وسلوك طريق الإنصاف أجدر بذوي العقل من ركوب طريق الاعتساف …
وأفضل من صنف الصحابة هو الحاكم النيسابوري، فهو يرى أن الصحابة ينقسمون إلى اثنتي عشرة درجة:
1- قوم تقدم إسلامهم بمكة كالخلفاء الأربعة.
2- الصحابة الذين أسلموا قبل تشاور أهل مكة في دار الندوة.
3- مهاجرة الحبشة.
4- أصحاب العَقَبة الأولى.
5- أصحاب العَقَبة الثانية وأكثرهم من الأنصار.
6- أول المهاجرين الذين وصلوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم بقباء قبل أن يدخل المدينة.
7- أهل بدر.
8- الذين هاجروا بين بدر والحُديبية.
9- أهل بيعة الرضوان في الحُديبية.
10- من هاجر بين الحُديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص.
11- مسلمة الفتح الذين أسلموا بعد فتح مكة.
12- صبيان وأطفال رأوا النبي صلى الله عليه و سلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرهما.
مصنفاته:
قال الحافظ الذهبي: وقد شرع الحاكم في التصنيف سنة سبع وثلاثين، فاتفق له من التصانيف ما لعله يبلغ قريبا من ألف جزء.
منها على سبيل المثال:
الأربعون في الحديث, الإكليل في الحديث, تراجم الشيوخ, السياق في ذيل تاريخ نيسابور, فضائل العشرة المبشرة, فوائد الشيوخ, كتاب المبتدأ من اللآلي الكبرى, المدخل إلى الصحيح, المستدرك على الصحيحين في الحديث, مناقب الإمام الشافعي, مناقب الصديق رضي الله عنه.
فقد حقق فضيلة الشيخ المحدث د.علي رضا بن عبد الله كتاباً نادراً للحاكم أبي عبد الله النيسابوري صاحب ” المستدرك ” لم يطلع عليه الذهبي ؛ ولا ابن حجر !
إنه كتاب : ” فضائل فاطمة الزهراء ” !
وقد حصل الشيخ علي رضا على نسخة فريدة للكتاب من تركيا ؛ وقام بتحقيقها تحقيقاً علمياً مع مقدمة مهمة …
وفاته:
توفي في نيسابور في 3 من صفر 405 هـ: 2 من أغسطس 1014م، عن أربعة وثمانين سنة.
قال الذهبي: روى أبو موسى المديني: أن الحاكم دخل الحمام، فاغتسل، وخرج.
وقال: آه.
وقبضت روحه وهو متزر لم يلبس قميصه بعد، ودفن بعد العصر يوم الأربعاء، وصلى عليه القاضي أبو بكر الحيري.
قال الحسن بن أشعث القرشي: رأيت الحاكم في المنام على فرس في هيئة حسنة وهو يقول: النجاة، فقلت له: أيها الحاكم ! في ماذا ؟ قال: في كتبة الحديث.
وصف الكتاب ومنهجه:
رأى الإمام الحاكم أن أهل البدع قد أثاروا شائعة بأنه لم يصح من النصوص الحديثية إلا ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وبالتالي فلا زالت بعض أصول الدين مفتقرة إلى نصوص صحيحة تَثْبُتُ بها، واتخذوا ذلك ذريعة للطعن في الدين.
وثارت حمية الصدق في قلب الإمام الحاكم، فشمَّر عن ساعده المبارك؛ ليؤلف كتابه “المستدرك”.
موضوع كتاب المستدرك وطريقة ترتيبه:
…الكتاب يذكر بعض الأحاديث مرتبة على ترتيب الجوامع ؛ أي أنه يضم أحاديث الأحكام وغير أحاديث الأحكام ، ورتبه على نفس الترتيب الفقهي المعروف عموماً ، ويرى أنها صحيحة على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما ، ولم يخرجاها في كتابيهما. وأحاديث أخرى يرى أنها مستوفية للشروط العامة للصحة من اتصال السند وثقة الرواة وعدم الشذوذ وعدم العلة.
وربما أورد في كتابه بعض الأحاديث التي لا يرى أنها صحيحة ، ولكنه أوردها لبعض الاعتبارات ، كالأحاديث الستة التي أوردها في البيوع وصرح بخروجها عن شرط الكتاب كما تقدم.
واستخرج من هذا الدرب نصوصاً كثيرة، بلغت(8956) ثم رتبها على الكتب، مبتدأً بـ ” كتاب الإيمان “، وختمها بـ ” كتاب الأهوال “، وشرع يفحصها وينقحها ويهذب مادة الكتاب، لكن المنية عاجلته بعد بلوغه قدر ربع الكتاب، فصار الكتاب لا يعبر عن النقد الحقيقي للإمام الحاكم.
واطلع الأئمة على مواضع من الكتاب ضعيفة النصوص، بل بعض نصوص الكتاب موضوعة أو باطلة، لكنها مما لم تجري عليه يد المؤلف بالبحث أو التمحيص.
ومن ثم فقد اعتنى جماعة من أهل العلم بالكتاب؛ لاستكمال ما بدأه المؤلف؛ لأن الاعتماد عليه بهذه الصورة أصبح لا يجدي.
على أن مادة الكتاب قد سلم منها الكثير الطيب، وربما لا يصل بعض ذلك إلى شرط الشيخين لكنه لا ينزل عن حد القبول، وربما كان إسناده الذي خرجه به المؤلف به علة أو ضعف، لكن له من الشواهد والمتابعات في غير كتاب الحاكم ما ينهض به وينقله إلى دائرة المقبول.
– والمؤلف ربما كرَّر نصاً في موضعين أو أكثر من الكتاب، بنفس السند أو بإسناد مغاير ـ كل ذلك يفعل ـ لكن هذا مرده إلى ما وضع النص تحته من التراجم، فالمؤلف لا يفوته الاستدلال بالنص الواحد على قضايا مختلفة، تكثيرًا لدلالة النص, وهذا مذهب معروف عند أهل السنة والجماعة من قديم.
– وقد يخرج المؤلف النص بسند، ثم يعقبه بسند آخر، أو أكثر من سند، وهذا إنما يفعله غالبًا إذا كان بالسند وجه من وجوه الضعف.
– وكل سند يخرجه، ويكون في نقده على شرط الشيخين أو أحدهما، فهو يعقبه بالتنصيص على ذلك.
وبعد فهذا الكتاب جهد مشكور من مؤلفه ـ رحمه الله ـ صد به كيد أهل البدعة، وربما لو أن المقادير أمهلته لخرج على الدنيا بكتاب رائع يتمشى مع إمامته التي ظهرت من خلال ما بقي من كتبه. وبالله التوفيق.
سبب الخلل الذي وقع في أحاديث المستدرك:
وهنا كلام نفيس للشيخ المعلمي اليماني رحمه الله ، في التنكيل (1/457) يقول فيه:
والذي يظهر لي في مواقع في (( المستدرك )) من الخلل أن له عدة أسباب :
الأول : حرص الحاكم على الإكثار وقد قال في خطبه (( المستدرك )) : (( قد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على الألف جزء أو أقل أو أكثر كلها سقيمة غير صحيحة )) فكان له هوى في الإكثار للرد على هؤلاء .
الثاني : أنه قد يقع حديث بسند عال أو يكون غريبا ، مما يتنافس فيه المحدثين فيحرص على إثباته ، وفي (( تذكرة الحفاظ )) (2 /270) (( قال الحافظ أبو عبد الله الأخرم استعان بي السراج في تخريجه على (( صحيح مسلم )) أتحير من كثرة حديثه وحسن أصوله ، وكان إذا وجد الخبر عاليا ، يقول : لا بد أن يكتبه (( يعني في المستخرج )) فأقول : ليس من شروط صاحبنا يعني مسلما فشفعني فيه ، فعرض للحاكم نحو هذا ، كلما وجد عنده حديثا يفرح بعلوه أو غرابته اشتهى أن يثبته في المستدرك .
الثالث : أنه لأجل السببين الأولين ولكي يخفف عن نفسه من التعب في البحث والنظر لم يلتزم أن لا يخرج ما له علة وأشار إلى ذلك ، قال في الخطبة : (( سألني جماعة … أن أجمع كتابا : يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها ولا سبيل إلى إخراج مالا علة له فإنهما رحمهما الله لم يدعيا ذلك لأنفسهما )) ولم يصب في هذا فإن الشيخين ملتزمان أن لا يخرجا إلا ما غلب على ظنهما بعد النظر والبحث والتدبر أنه ليس له علة قادحة ، وظاهر كلامه أنه لم يلتفت إلى العلل البتة .
الرابع : أنه لأجل السببين الأولين توسع في معنى قوله : (( بأسانيد يحتج … بمثلها )) ، فبنى على أن في رجال الصحيحين من فيه كلام فأخرج عن جماعة يعلم أن فيهم كلاما ، ومحل التوسع أن الشيخين إنما يخرجان لمن فيه كلام في مواضع معروفة :
أحدها : أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام لا يضره في روايته البتة كما أخرج البخاري لعكرمة .
الثاني : أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده ، ويريان أنه يصلح لأن يحتج به مقرونا أو حيث تابعه غيره ونحو ذلك .
ثالثها : أن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه ، أو برواية فلان عنه، أو بما سمع منه بعد اختلاطه ، أو بما جاء عنه عنعنة وهو مدلس ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس ، فيخرجان للرجل حيث يصلح ولا يخرجان له حيث لا يصلح ، وقصر الحاكم في مراعاة هذا وزاد فأخرج في مواضع لمن لم يخرجا ولا أحدهما له بناء على أنه نظير من قد أخرجا له ، فلو قيل له : كيف أخرجت لهذا وهو متكلم فيه ؟ لعله يجيب بأنهما قد أخرجا لفلان وفيه كلام قريب من الكلام في هذا ولو وفى بهذا لهان الخطب ولكنه لم يف به فأخرج لجماعة هلكى .
الخامس : أنه شرع في تأليف ( المستدرك ) بعد أن بلغ عمره اثنتين وسبعين سنة وقد ضعفت ذاكرته ، وهذا ما أشار إليه أيضا الحافظ رحمه الله ، واعتذر به عما وقع للحاكم من أوهام ، وكان فيما يظهر تحت يده كتب أخرى يصنفها مع (المستدرك) وقد استشعر قرب أجله فهو حريص على إتمام ( المستدرك ) وتلك المصنفات قبل موته ، فقد يتوهم في الرجل يقع في السند أنهما أخرجا له ، أو أنه فلان الذي أخرجا له ، والواقع أنه رجل آخر ، وقد رأيت له في (المستدرك) عدة أوهام من هذا القبيل يجزم بها فيقول في الرجل : قد أخرج له مسلم – مثلا – مع أن مسلما إنما أخرج لرجل آخر شبيه اسمه ، يقول في الرجل : فلان الواقع في السند هو فلان بن فلان . والصواب أنه غيره ، وقد علق الشيخ الحميد حفظه الله على هذا السبب ، بما يفيد بأن الحاكم رحمه الله ، أملى المستدرك ، كما سبق من كلام راويه ، سنة 373 هـ ، وعلى هذا يكون عمره حينئذ 50 عاماً ، لا 72 عاماً ، كما ذكر المعلمي رحمه الله.
وللحافظ رحمه الله ، إعتذار آخر عما وقع للحاكم من أوهام ، وهو أن المنية عاجلته قبل أن يبيض وينقح كتابه ، فأملى الربع الأول منه ، ثم أدركته المنية فلم يكمل الباقي ، ومما يؤيد هذا القول :
أن عدد الأحاديث المنتقدة في الربع الأول 160 حديثاً ، بينما عددها في باقي الكتاب 1000 حديث ، وهو عدد كبير ، ولا شك مقارنة بالعدد الأول.
أن البيهقي رحمه الله لايصرِّح بالتحديث إلا فيما أخذه عن الحاكم في الربع الأول فقط من كتابه.
وممن تكلم عن تصحيح الحاكم رحمه الله ، فأجاد ، شيخ الإسلام رحمه الله ، حيث قال : ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه صحيحا، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه ، وإن كان الصواب أغلب عليه ، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه ، بخلاف أبى حاتم بن حبان البستي ، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً ، وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث ، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع ، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم.
وتكلم عنه أيضا ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، فقال : وقد صنف في الصحيح مصنفات أُخر بعد صحيحي الشيخين ، لكن لا تبلغ كتابي الشيخين ، ولهذا أنكر العلماء على من استدرك عليهما الكتاب الذي سماه المستدرك ، وبالغ بعض الحفاظ فزعم أنه ليس فيه حديث واحد على شرطهما (وهو بهذا يشير إلى كلام أبي سعيد الماليني رحمه الله ) ، وخالفه غيره وقال : يصفو منه حديث كثير صحيح ، والتحقيق : أنه يصفو منه صحيح كثير على غير شرطهما ، بل على شرط أبي عيسى ونحوه ، وأما على شرطهما فلا.
عناية أهل العلم بالمستدرك:
كما أن أهل العلم قد اعتنوا بهذا الكتاب تلخيصًا واستدراكًا وتعقيبًا؛ ومن هؤلاء:
أ – الحافظ الذهبي، له كتاب ” تلخيص المستدرك “, وهو مطبوع في دراسة جامعية.
ب – الحافظ ابن الملقِن، له كتاب ” النكت اللطاف في بيان الأحاديث الضِّعاف المخرجة في مستدرك الحافظ النيسابوري ” ذكره سزگين في تاريخ التراث العربي.
جـ – الحافظ العراقي له أمالي على المستدرك سماه ” المستخرج على المستدرك ” مطبوعة بمكتبة السنة بالقاهرة، سنة 1410هـ
د- ضمنه الحافظ ابن حجر العسقلاني أطرافه في كتابه العظيم : إتحاف المهرة .
هـ – سبط ابن العجمي له حواش على ” تلخيص المستدرك ” السَّابق الذكر، ذُكر في ذيل تذكرة الحفاظ ص: 314.
و – وجمع الحافظ الذهبي, منه: جزءاً من: الموضوعات يقارب: مائة حديث.
ز – ” توضيح المدرك في تصحيح المستدرك ” لجلال الدين: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي, ذكره في : ( فهرست مؤلفاته ) في: فن الحديث.
ح – وللعلامة الألباني : بغية الحازم في فهرسة مستدرك الحاكم.
ط- وللشيخ مقبل بن هادي الوادعي كتاب: ” رجال الحاكم في المستدرك “.
رحم الله الإمام أبا عبدالله الحاكم النيسابوري , وجزاه خيراً.
الكاتب: أبو محمد البلوشي
************************************
من مصادر البحث:
“العبر في خبر من غبر- الذهبي – (ج 1 / ص 180)
الإنصاف في مسائل الخلاف ج1 ص41.
معجم المؤلفين عمر كحالة – (ج 10 / ص 238)
غاية النهاية في طبقات القراء – ابن الجزري ـ (ج 1 / ص 358)
منتديات البيضاء أمين عبد الرحمن بن فيصل سعيدي.
الإنصاف في مسائل الخلاف ج1 41. شبكة الشيعة العالمية.
.wikipedia. الموسوعة الحرة.
موقع قصة الإسلام.
تعليقات