من ذكريات العلامة المفتي محمد تقي العثماني؛

عشرة أيام في اليابان

عشرة أيام في اليابان

وصلتني رسائل متتابعة من قبل المسلمين القاطنين في بلاد اليابان لعقد مؤتمرات وحفلات تهدف إلى معالجة بعض القضايا الشائكة التي يواجهها مسلمو اليابان والتي تتعلق بالمسائل التجارية والمعاملات الشرعية والأمور الدينية والإصلاحية، وهذا الطلبات المتكررة جعلني ألبّي دعوتهم وأشق الرحال إلى اليابان، وأمكث هناك لمدة عشرة أيام، لكي أطلع على أمور المسلمين وأسعى لمعالجة قضاياهم في المعاملات والمسائل الشرعية والدينية.
تهيأت للسفر في أيام اختبارات الفصل الثاني من السنة الدراسية لدار العلوم كراتشي ، وتحركت في غرة جمادى الأولى 1429هـ الموافق لـ 8 من شهر مايو 2008م على متن طائرة شركة “ايرويز” إلى (بانكوك، عاصمة مملكة تايلاند) ومن هناك أخذت طائرة أخرى قاصدا اليابان، وفي اليوم التالي هبطت الطائرة الساعة الرابعة في مطار ناريتا الدولي بمدينة (طوكيو).
استقبلني في المطار زميلي الأخ الفاضل آصف مع جماعة من الإخوة منهم الشيخ سلمان التهانوي والشيخ أنس والأخ عتيق. يبعد مطار ناريتا عن المدينة المركزية 60 كيلومترا. كان محل الإقامة في مدينة (ابينا)، وكانت المسافة بينها وبين المطار ساعتين ونصف، وفي الطريق جاء وقت المغرب فأدينا المغرب بالقرب من المدينة الصناعية (يوكاهاما)، ولهذه المدينة جسر كبير بطول كيلومترات يمر على البحر والمدينة، ويعد من روائع هذه المدينة ومناظرها البهيجة، ويقع تحت الجسر منتزهٌ ومرأب، توقفنا هناك للمغرب، وقد بني تحت هذا الجسر جسور أخرى تمر عليها السيارات إلى جهات مختلفة. ورؤية هذا المنظر يثير الإعجاب والروعة. كان الطقس لطيفا حيث جلب إلى قلوبنا وأجسامنا النشاط والبهجة. وصلنا الليلة مقر إقامتنا، والذي كان يقع في الطابق الثالث من مبنى تقع في ضاحية جميلة من مدينة (أبينا)، كان المضيف هوالأخ حامد والذي أسس هناك شركة بيع وشراء السيارات، وبنى في الطابق الثالث من هذا المبنى منزلا رائعا مع توفير جميع وسائل الراحة، وقد بنى بإزاء هذا البيت مسجدا مكونا من ثلاثة طوابق، وهو مسجد معروف بـمسجد مدينة (أبينا). واستجاروا موقفا للسيارات بجانب المسجد ، ومع العلم أن مبلغ البناء في (اليابان) باهظ جدا، وقد أنفق لبناء هذا المسجد الذي لا تزيد مساحته عن 200 مترا ما يقارب 700 ألف روبية. أدينا العشاء في هذا المسجد، وبعد الصلاة ألقيت كلمة مختصرة أمام الحضور.
كان اليوم التالي هو يوم الجمعة، وقد طلب مني خطبة الجمعة، جاء المسلمون لأداء الصلاة من نواحي بعيدة وقد امتلأت الطوابق الثلاثة للمسجد من المصلين، خطبت باللغة الأردية وترجمت مباشرة إلى اللغة الإنجليزية والألمانية، وبعد الصلاة التقيت بالمسلمين الذين جاؤوا من أمكنة بعيدة، وتبادلت معهم الحديث حول قضاياهم ومسائلهم الدينية.
وبعد المغرب جائني بعض مسؤولي المراكز التجارية واالدعاة الناشطين منهم الشيخ سليم الرحمن الذي يقوم بمهام المدير التنفيذي للمركز الإسلامي بمدينة (طوكيو)، وهو خريج دار العلوم ندوة العلماء وله نشاطات واسعة في هذا المركز منذ سنوات، وأيضا التقيت بالشيخ سلمان التهانوي نجل زميلنا الفاضل الشيخ المقرئ أحمد ميان التهانوي، الذي يتولى أمر التعليم والتدريس ويتصدى لمسائل المسلمين وحل قضاياهم في هذه المدينة. وكذلك التقيت بالأخ إبراهيم أوكوبو ـ حديث العهد بالإسلام ـ ، وهو من الناشطين في حقل الدعوة، ويحظى باحترام كبير عند عامة المسلمين. والأخ إبراهيم قد ترجم كتاب (فضائل أعمال) إلى اللغة اليابانية وما زال كتاب “فضائل صدقات” (تأليف الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي) قيد الترجمة، وقد تكلم عن قضايا المسلمين في هذا البلد وعما يعانونه في اليابان من المشاكل، وقال: نسبة خريجي المسلمين من المراكز العلمية المعتبرة قليلة جدا، وهذه القلة ليست لها علاقات وروابط وجلسات، لذلك يواجه المسلمون مشاكل في تشخيص الحلال والحرام. وقد اقترح أن تتشكل لجنة متكونة من العلماء والناشطين في المجتمع يتساندون ويتعاونون في حل قضايا المسلمين ويشرفون على مسائلهم، وأن تكون لهم علاقات مع علماء باكستان ليتمكنوا من حل المسائل المستجدة والمستحدثة في ضوء توجيهاتهم وإرشاداتهم. وقد أشاد الشيخ سليم الرحمن والشيخ سلمان التهانوي بهذه الخطوات، وتم اتخاذ الخطوات الأولية لتشكيل هذه اللجنة خلال فترة تواجدنا هناك.
وبعد صلاة العشاء كان من المقرر إلقاء كلمة من طرفي أمام عامة الناس، وقد جاؤوا من أمكنة بعيدة للمشاركة في هذا الحفل الإصلاحي، وكون عامة الناس من طبقة التجار لذا جعلت محور خطابي هو سورة “ألهاكم التكاثر”، وتكلمت في ضوء هذه السورة عن آفات التجارة بالتفصيل، وطلبت منهم في الأخير أن يخططوا لتربية أبناءهم تربية دينية، ويعنوا بهذه الناحية عناية خاصة، ويعطوا من أوقاتهم لهذه الغاية، وأن الطريقة العملية هي الالتحاق بأعمال ونشاطات جماعة الدعوة والتبليغ، كما اقترحت أن يجتمع أعضاء الأسرة في الليل قبل النوم ويتدارسوا كتابا دينيا، واقترحت ثلاثة كتب دينية مهمة وهي كتاب “فضائل أعمال” للشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، “حياة المسلمين” لحكيم الأمة العلامة أشرف علي التهانوي، و”أسوه رسول أكرم” لشيخنا الدكتور عبد الحي العارفي.
وفي صباح اليوم التالي نظّم المضيف الأصلي الأخ حامد جلسة استغرقت ساعات للمسائل المتعلقة بشركته التجارية (كوئين تكس)، وهذه الشركة تصدّر سيارات إلى بلاد مختلفة على نطاق واسع، ولها سمعة جيدة في هذا المجال. والأخ حامد تاجر باكستاني ملتزم بالضوابط الشرعية، ويجتهد أن تكون معاملاته التجارية موافقة مع الأحكام الإسلامية، ولا يشوبها شائبة الحرام. وقد عقد هذه الجلسة بحضور موظفيه وعملاءه في الشركة، وشرح أعماله التجارية بالتفصيل، ثم طرح بعض الأسئلة والمسائل المتعلقة بتجارته، فأجبت عنها بالتفصيل، وبيّنت لهم أحكام الزكوة، وفي الأخير سُجّلت هذه الأحكام والمسائل المطروحة وصودق عليها كأصول مقررة للشركة، واستغرقت هذه الجلسة التي كانت متعلقة بالمسائل المعقدة والغامضة إلى وقت الظهر.
المسلمون يمثلون أقلية في البلاد غير الإسلامية، وتعليم أبناء المسلمين وتربيتهم الدينية في مثل هذه البلاد هي من الأمور التي يجب أن تولى لها الأهمية البالغة، لذلك أحرص على تشجيع فكرة تأسيس المراكز الدينية الإسلامية في مثل هذه البلاد حتى يحتفظ أبناء المسلمين بعقائدهم والمبادئ الإسلامية، وقد أسس المسلمون جمعيات لهذا الهدف في أمريكا وأوربا ولكن لا توجد مثل هذه البرامج الهادفة والمبادرات البناءة في اليابان، لذلك كنت ألح على تأسيس مثل هذه المراكز في كل اجتماع ومؤتمر، وحذرتهم من أن إهمال التربية الدينية سيصهر أبناء المسلمين في بوتقة التعاليم غير الإسلامية في المراكز العامة، ويحرم الناشئة المسلمة من التعاليم الدينية والتربية الإسلامية.
وقد تم تأسيس مكتب إلى جانب مسجد “أبينا”، يتلقى فيه حوالي 70 طالب دروس القرآن والأحكام الدينية، ويرغب القائمون على هذا المكتب بتبديله إلى إلى مدرسة دينية متكاملة. وفي يوم الأحد بعد الظهيرة انعقدت جلسة مع تلاميذ هذا المكتب وأولياءهم، قرأ بعض التلاميذ سورا وأدعية مأثورة ما أدخل في قلبي سرورا بالغا وحمدت الله سبحانه وتعالى على بدء هذه الخطوة المباركة، وقد قلت لأولياء التلاميذ بأن تعليم الأبناء وتربيتهم الدينية فرض على الوالدين، لذلك يجب أن تخصوا وقتا لأداء هذه الفريضة في بيوتكم، وتعلّموا أولادكم دينهم وأحكامهم.
وبعد العصر عقد الشيخ سليم الرحمن مؤتمرا في المركز الإسلامي بمدينة (طوكيو) جمع فيه مسؤولي الجمعيات والمراكز وقد حضر فيه ناشطون وعاملون في مجالات مختلفة من مدينة (طوكيو) وضواحيها. قابلنا الحضور وتبادلنا أطراف الحديث حول مسائل مختلفة.

دخول الإسلام في اليابان
دخل الإسلام في اليابان مؤخرا، إذ ليست لدينا وثائق تشير إلى دخول مسلم في هذا البلد في صدر الإسلام والقرون السابقة، والوثائق التي وصلتنا تشير إلى أن خليفة الإمبراطورية العثمانية السلطان عبد الحميد هو أول من أرسل وفدا في عام 1890م بهدف إيجاد الرابطة الودية بين البلدين من خلال سفينة “أرطغرل” ويبدو أن هدف السلطان كان استعراض أوضاع اليابان لنشر الدعوة الإسلامية في تلك الخطة.
تركت هذه القافلة الودية أثرا طيبا في بلاد اليابان، وفي الحقيقة بذرت بذور الإسلام في هذه البقعة، لكن للأسف تعرضت هذه القافلة الودية إلى عاصفة بحرية عند العودة، وغرقت سفينتهم التي كانت تقل 609 راكبا، ولم ينج منهم إلا 69 فردا، وقد وقعت هذه الحادثة في سواحل مدينة كوشيموتو في ظلمة الليل، فبادر سكان تلك المدينة اليابانيون إلى إنقاذهم ومساعدتهم، وقد أمر ميجي ـ إمبراطور اليابان آنذاك ـ بمداواة الجرحى وإيصالهم مع الناجين الآخرين إلى تركيا، ولذكرى شهداء هذه الحادثة وضع “ذكرى أرطغرل” وفي كل عام يحتفلون بذكرى هذه الحادثة.
وقد صدم أهل اليابان بهذه الفاجعة وحزنوا على الغرقى حزنا شديدا، وفجع الصحافي توراجيروياما ـ البالغ من عمره 24 سنة ـ من هذه الحادثة بشدة، فطاف بلاده لجمع التبرعات لأسر الشهداء، وتقلب في أكثر المدن اليابانية وجمع مبلغا كبيرا، وطلب من وزير الشؤون الخارجية أن ترسل هذه التبرعات إلى تركيا، ولكن الوزير ـ تقديرا لهذه الجهود ـ أبى إلا أن يحملها الصحافي بنفسه، فسافر (توراجيروياما) إلى تركيا والتقى هناك بوزير الشؤون الخارجية للدولة العثمانية في إستانبول، وقدّم هذا المبلغ ـ في احتفال عظيم عقدته الحكومة ـ إلى وزير الأمور البحرية للدولة العثمانية ليتم تقسيمها بين أسر ضحايا سفينة ارطغرل.
ثم طلبه السلطان عبد الحميد واقترح عليه أن يمكث في تركيا لمدة سنتين يعلّم ضباط الجيش العثماني اللغة اليابانية، فقبل هذا الاقتراح، وتعلم اللغة التركية خلال تعليمه أفراد الجيش اللغة اليابانية، ثم بدأ بالتحقيق حول الإسلام وبعد مدة اعتنق الإسلام، وزاد كلمة (شينغتسو) ـ الذي معناه في اللغة اليابانية الهلال ـ إلى اسمه، وتفيد بعض الدراسات أن توراجيروياما غيّر اسمه إلى عبد الجليل؛ لأنه كان يكتب هذا الاسم في أواخر الرسائل التي يكتبها إلى أسرته. وإن كان موضوع تاريخ ورود الإسلام في اليابان يحتاج إلى دراسات عميقة إلا أن التحقيقات التي توصلنا إليها تفيد أن (توراجيروياما) رحمه الله تعالى أول مسلم ياباني، الذي توفي سنة 1957م عن 91 عاما.
يقال أسلم ياباني آخر كان اسمه (كوتارو يامائوكا) بعد حادثة غرق سفينة أرطغرل عام 1909م، وعرف باسم (عمر يامائوكا)، وقد أدى فريضة الحج أيضا. وفي نفس هذا التاريخ ذهب رجل ياباني آخر باسم (مباجيرو اريكا) إلى مدينة (مومباي) الهند وتأثر هناك بالمسلمين وأسلم، وغيّر اسمه إلى أحمد أريكا، وقد تحمس هذان الرجلان لنشر الإسلام في اليابان وأسلم بفضلهما عدد آخر من أهل اليابان.
بعد اندلاع الثورة البلشفية في روسيا والمجازر التي ارتكبها الشيوعيون بحق المسلمين في لتركستان وتاجيكستان وقزاقستان والقرغيزيا؛ هاجر عدد كبير من مسلمي هذه البلاد إلى دول العالم، وطائفة منهم هاجرت إلى اليابان. وبدخول المسلمين المهاجرين في اليابان بدأت نشاطاتهم الاجتماعية والدعوية في هذه البلاد، ودخل بفضل جهودهم الدعوية عدد كبير من اليابانيين في الإسلامِ. ثم هاجر من مسلمي الهند والصين والممالك الواقعة في جنوب آسيا عدد لا بأس بهم إلى اليابان، مكثوا للإقامة الدائمة فيها. وقد بنى المسلمون أول مسجد لهم في مدينة (كوبه) عام 1935م، ثم بنوا عام 1938 م مسجدا آخر في (طوكيو )بمساعدة مع متبرعين غير المسلمين، وفي نفس العام بني مسجد في (ناكويا)، وفي عام 1977م بني مسجد في مدينة (اوزاكا).
وإثر اندلاع الحرب العالمية الأولى وسّعت اليابان علاقتها الدبلوماسية والتجارية مع البلاد الإسلامية، ثم أهمية النفط (الذي تعتبر الكثير من البلاد الإسلامية من أكبر مصدّريها) في مجال التقدم الصناعي والتقني ، جعلت اليابان ترتبط بالبلاد الإسلامية أكثر فأكثر، وتوسّع علاقاتها الودية معها، وهذه العلاقات الودية ساعدت على تكثيف الروابط بين الطرفين ما أفضى إلى سرعة انتشار الإسلام في اليابان. ثم بادر المسلمون إلى تشكيل لجان ومؤسسات إسلامية هادفة، وترجم القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية مع عدد من الكتب الإسلامية، وفي عام 1966م أسِّس “المركز الإسلامي الدولي” وفي عام 1974م اندمج هذا المركز مع “المركز الإسلامي في اليابان”.
“المركز الإسلامي في اليابان” يقوم بأعماله تحت رعاية هيئة رئيسية يضم أعضاءه من نخب المسلمين في مختلف البلاد الإسلامية بما فيها الدول العربية وباكستان وتركيا. وعامة يتلقى الدعم المالي من السعودية ورابطة العالم الإسلامي والإمارات المتحدة العربية ودولة قطر. وقد نشر المركز عشرات من الكتب والكتيبات إلى اللغة اليابانية عدا القرآن الكريم. ويتولى المركز أيضا مسؤولية إرسال الحجاج إلى بيت الله الحرام، وقد يعقد المسؤولون حفلات للخطابة والمحاضرة لعامة الناس، فيها التعريف بالإسلام وتعليم المبادئ الأساسية للإسلام.
إضافة إلى نشاطات المركز الإسلامي تقوم جماعة الدعوة والتبليغ منذ عام 1956م بنشاطات إصلاحية ودينية ملموسة، وقد أحرزت بفضل الله تقدما كبيرا في هذا المجالِ، ويقع مركز الدعوة والتبليغ في (ساي تاما) ( Saitama) الواقعة في ضواحي مدينة (طوكيو)، وقد اشتروا هناك منزلا وبنوا مسجدا، ومن هنا ينطلق أصحاب الدعوة والتبليغ إلى أنحاء شتى ويشرفون على أعمالهم الدعوية والإصلاحية.
وفي عام 1961م شكّل طلاب الدول العربية وباكستان والإندونيسيا وتركيا وغيرها من البلاد الإسلامية الدارسون في اليابان “جمعية مسلمي اليابان” في جامعات اليابان. في عام 1974م أرسل الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وفدا إلى اليابان، وقد استجار الوفد مبنى لنشاطات هذا المركز، ثم اشترى الأمير خالد بن عبد العزيز قطعة من الأرض لهذا المركز، وبنى على هذه القطعة الأمير أحمد بن عبد العزيز مبنى ذات ستة طوابق للمركز، وفي عام 1982م افتتح هذا المبنى كمقر رئيسي لهذا المركز.
ويتولى الدكتور صالح السامرائي رئاسة المركز الإسلامي، وقد كان في سفره خلال إقامتي في اليابان، والشيخ سليم الرحمن يتولى الأمور التنفيذية وإجراء النشاطات الدعوية لهذا المركز، وقد عقد جلسة في هذا المركز حضره كبارالدعاة ومسؤولو الجمعيات والمؤسسات وأئمة المساجد وممثلو الجمعيات الطلابية، كما شارك بعض التجار ومسؤولو المراكز التعليمية من (طوكيو) و (يوكوهاما) وضواحيهما بشوق ورغبة، وقد استمرت هذه الجلسة إلى صلاة المغرب، طُرح فيها أيضا توصيات واقتراحات في موضوعات مختلفة وبالأخص في مجال تربية الطلاب الجامعيين وأبناء المسلمين وتعليمهم.
أدينا صلاة المغرب في مسجد طوكيو الواقع بالقرب من المركز الإسلامي، وقد بني هذا المسجد عام 1938م، وخلال أحداث الحرب العالمية الثانية تهدمت المباني الواقعة بجوار المسجد، وبقي المسجد سالما إلا أن الزلازل المتكررة والسيول الجارفة أدت تساقط جدرانه، وخلال رحلتي في 1997م 11 عاما (1997م)عندما ذهبت إلى اليابان رأيت المسجد مهجورا لا يصلى فيه إلا أن أهله كانوا جازمين إلى إعادة بناءه، ولكن بفضل الله تعالى قد أعيد بناءه وفق تصميمات معمارية جديدة، وتقام فيه نشاطات دينية ودعوية تحت رعاية دولة تركيا. وقد اجتمع بعد صلاة المغرب عدد من المسلمين في قاعة الطابق السفلي للمسجد لاستماع الخطابة، وكان الحضور عدا مسلمي باكستان من بلاد السعودية، مصر، تركيا، الأندونيسيا، سريلانكا، وماليزيا. ونزولا عند رغبتهم ألقيت الكلمة باللغة الإنجليزية ، واستغرقت ساعة ونصفا، وبعد صلاة العشاء ضُيِّف جميع المشاركين، وخلال العَشاء كانت لي مفاوضات ولقاءات مع بعض المشاركين، ثم رجعت إلى مستقري.

جبل فوجي في اليابان
وفي اليوم التالي نظّم المضيفون برنامجا سياحيا وتنزهيا إلى جبل فوجي (فوجي سان)، وهذا الجبل يعتبر أعلى قمة في اليابان، ويعد من روائع هذه البلاد ومن أماكنها الجميلة، وعرف كرمز من رموز اليابان، ولجماله وحسنه نال الشهرة في العالم. ويقع هذا الجبل على ساحل المحيط الهادي، ويبلغ ارتفاعه 3776مترا، وتبقى قمته المخروطية المميزة مغطّاة بالثلج على مدار السنة، ونصفه السفلي مغطى بالنباتات والخضراوات مما جعله مزيجا من اللونين الأخضر والأبيض ما زاد في جماله وبهاءه. وجود خمس بحيرات في سفح الجبل يزيد من رونق الجبل وجاذبيته. يقال للجبل في اللغة اليابانية “ياما” لذلك يطلق على هذا الجبل في اللغة اليابانية “فوجي ياما”، وفي اللغة اليابانية القديمة (Ainu) تعني كلمة فوجي “الحياة الأبدية”، ولعل هذا هو السر في أن الناس يقدّسون هذا المكان، وقد بنوا على قمته معبدا، ويتسلقه المتدينون من اليابانيين في فصل الصيف مشيا على الأقدام، ويعدون ذلك عبادة.
صاحبني في هذا البرنامج السياحي الأخ آصف، الأخ طارق والشيخ سلمان التهانوي. تحركنا من مقرنا إلى جبل فوجي، وفي الطريق مررنا على مناظر رائعة وبهيجة تسحر العين، يمكن رؤية قمة الجبل المخروطية المغطاة بالثلج من بعيد، وعلى القرب من الجبل تتفرع الطرق إلى جهات مختلفة من الجبل حيث المناظر الخلابة، وقد قطعنا طريقا مؤدية إلى قمة الجبل، وللوصول إلى قمة الجبل ينبغي عبور مدارج مختلفة، لكل مدرج منظر ساحر متميز عن غيره، قطعنا هذه المدارج إلى أن وصلنا إلى الدرجة السادسة حيث ينتهي الشارع، وكان انتهاء الشارع في مكان يمكّن الناس من تسلق الجبل بالأقدام. كانت القمة البيضاء والوادي الخضراء تمثلان أروع المناظر وأبهجها، وكان الطقس يقترب إلى درجة الصفر، وكانت السحب المتراكمة تلامسنا وتمر بنا. تمتعنا لحظات بهواء الجبل، ثم أذنّا هناك وأقمنا صلاة الظهر.
وقد شاهدت كثيرا من المناطق الجبلية في العالم كالهند، وإندونيسيا، والسويسرا، والنرويج، وأستراليا، ونيوزلند، وغيرها من البلاد الأخرى، ودولتنا باكستان أيضا تتمتع بمناطق جبلية كثيرة، ولكل من هذه المناطق ـ مع اختلاف مناخها وهواءها، واختلاف الحياة المعيشية واختلاف الثقافات فيها ـ جاذبيتها ومناظرها الخلابة ومشاهدها الفاتنة البديعة، وقد تكون المسافة بين هذه المناطق الجبلية آلاف الأميال، تفصل بينها بحار واسعة مع تمايز الطقس والمناخ واختلاف الطبيعة الجغرافية للمناطق، وتفاوت أخلاق الناس وميولهم ورغباتهم، ولكنها مع هذه الروائع والخصائص المتميزة يبدو بينها قواسم مشتركة وهي أنها مع اختلافها تنادي بلسان واحد أن وراء هذا الخلق قدرة واحدة، صنعها يد واحدة، وهو الله الواحد الذي أتقن كل شيء.
وعند العودة توقفنا على المدرج الثالث، وكان الأخ طارق قد أتى بالطعام الباكستاني الذي أعده أهل بيته وتم تسخينه في الكافتيريا مما لا شك فيه أن الحصول على الطعام الحلال في هذا الجبل الثلجي كان بمثابة نعمة كبيرة، تناولنا هذا الطعام اللذيذ، ثم تحركنا.
ولهذه السلسلة الجبلية قمة أخرى يقال لها “هاكون” (Hakone)، كانت تبعد عنا بـ 80 كيلومترا. تحركنا نحو “هاكون”، وعلى الطريق أخذت قسطا من الراحة من خلال نومة القيلولة لدقائق. ثم لما فتحت عيني فوجئت بمناظر في غاية من الروعة والجمال، في جانب الأيمن ينظر إلى جبال شامخات مخضرة، محفوفة بالأشجار مختلفة الألوان، وفي جانب الأيسر تجد بحيرات ذات ماء زلال يتخلل بينها جبال صغيرة، تجول فيها زوارق بيضاء كأنها إوزّ في هيئتها وتركيبها. وللجولة في هذه القمة ركبنا قاطرة كهربائية معلقة، عبرت القاطرة الجبال والأشجار والبحيرات إلى أن بلغت قمة الجبال. وصلت درجة الحرارة على قمة الجبل إلى درجة التجمد، وقد جعل الهواء الثلجي كل شيء متجمدا. ولكني شاهدت قدرة الله هناك حيث كان يتصاعد البخار من القمة في هذا الهواء الثلجي. ويوجد هناك بركان توقف بعد آخر فورانه عام 1707م. وفي قمة الجبل عين ينبع منه ماء ساخن، وقد يبلغ درجة حرارة الماء إلى حد أن البيضة لو ألقيت فيه تغلي ويسود قشرها من شدة الحرارة. ومشهور بين الناس أن البيض المسلوق من هذا العين يقوّي جدا. وهناك خرافة أخرى حول البيض المسلوق من هذا الماء وهو أن من أكله يزاد في عمره عشر سنوات. أدينا صلاة العصر على قمة الجبل ثم رجعنا إلى مقرنا.

في مدينة توياما
وفي يوم الثلاثاء كان برنامجنا إلى مدينة (توياما)، صحبني الأخ آصف والأخ عتيق. قبل الظهر كانت لنا جلسة مختصرة مع عملاء شركة (كوين تكس). ثم غادرنا بعد الظهر من مطار (هندا) إلى (توياما)، وبعد ساعة هبطت الطائرة في مطار توياما.
تعتبر (توياما) مدينة صناعية وزراعيةِ، تقع على سفح سلسلة من الجبال وعلى ساحل بحر اليابان، وهي عاصمة محافظة (توياما). (ياما) تعني الجبل باللغة اليابانية، والمراد من (توياما) عشرة جبال. تبلغ مساحة محافظة توياما 1642 ميلا، وهي منطقة جبلية ذات أودية وبحيرات كثيرة، لذلك يكثر فيها إنتاج الأرز هناك بكثرة، وتقوم هذه المحافظة بتزويد الطاقة الكهربائية لأنحاء البلد، كما توجد فيها مصانع للملابس والمواد الكيمياوية، وميناءها التجاري يحظى بعناية كبيرة.
وأما أهمية المدينة بالنسبة لنا فإنها مدينة يقطنها 200 مسلم، وأكثرهم باكستانيون، وكلهم يسكنون تقريبا في ضواحي متقاربة لا تبعد أكثر من 3 كيلومترات. يزاولون مهنة التجارة، حيث يشترون سيارات من اليابان ويصدّرونها إلى الخارج، ومن ميناء (توياما) يصدّرونها إلى روسيا، ومن روسيا إلى أوربا.
وقد بنى المسلمون مسجدا في وسط المدينة، دعيت لإلقاء كلمة في ذلك المسجد عند المغرب. وكان مضيفو هذه الجلسة الأخ امتياز، والأخ حماد، والأخ رضوان، والأخ اياز.
وقد أعربت عن فرحي وسروري ونوّهت بدور المسلمين الباكستانيين في تجارة السيارة وتصديرها إلى خارج اليابان، وأن نمو تجارتهم وتقدمهم في هذا المضمار لهو من فضل الله وكرمه، وأن هذه النعمة والبهجة تقتضي شكر الله تعالى، وأداء الشكر يكون بأن لا تكون هذه الأعمال التجارية مانعة عن العمل بأحكام الله تعالى، وقد وصف الله تعالى التجار بقوله:( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)).
وكلما نمت التجارة يزداد اهتمام الإنسان بها وانجذابه لها، ويخيَّل إليه أن معيار التقدم والرقي يكمن في وفرة المال والتجارة. ولا شك أن المقصود من المال هو إيجاد سبل الرفاهية والراحة في الإنسان ولكن هذا المال قد يسبب انعدام الراحة والسكون من الإنسان، وينسى الإنسان بسبب انغماسه في أمور التجارة الغاية الأساسية من المال ألا وهو الراحة والسكون. ولكن لو راعى المرء نطاق حدود الله ولم تلهه التجارة والبيع عن ذكر الله وأداء الفرائض فإنه تحصل له الغاية من تجارته وهو السكون والطمأنينة والرفاهية. وقد أوصيتهم أن يركزوا جهودهم على تربية أبناءهم وأسرهم، ويعطوا قسطا من أوقاتهم لهذه الغاية، ويؤسسوا لتعليم أبناءهم الديني المراكز الإسلامية والدينية والتربوية.

مدينة هيروشيما وزيارة متحف هيروشيما التذكاري للسلام
وفي يوم الخميس كان من المقرر السفر إلى (هيروشيما) حسب البرنامج المقترح من الأخ آصف، لذا غادرنا إلى مطار (هاندا) متجهين إلى (هيروشيما)، وبعد ساعة وربع هبطت الطائرة في مطار (هيروشيما)، كان المطار بعيدا عن المدينة، ركبنا الحافلة ووصلنا إلى المدينة بعد نصف ساعة، مظاهر المدينة في الوقت الحالي تأسر القلوب بسبب رونقها وبهائها، وهي ذات المدينة المنكوبة التي ألقت عليها أمريكا ـ لأول مرة في التاريخ البشري ـ قنبلة ذرية التي خلفت دمارا مروعا. وقد مضى على هذه الفاجعة 70 سنة وأعيد إعمار المدينة، وتقدمت تقدما باهرا ولكن بقي من آثار تلك الفاجعة أثران كتذكار وقد أخذنا سيارة لمشاهدتهما، كان سائق السيارة يحكي لنا عن هذه الفاجعة فيقول: إن المصابين الذين أصابتهم إشعاعات القنبلة ولم يلقوا حتفهم فإن أولادهم إلى يومنا هذا يصابون بنقص خَلقي ما في جسمهم. توقفت السيارة أمام مبنى متهدم ومنكوب، ولم ترمم الحكومة هذا المبنى إبقاء لذكرى هذه الفاجعة، وهو الآن على هيئته المتهدمة، ولم تزل الساعة المنصوبة على جدرانه باقية على حالها، وقد توقفت على الساعة الثامنة والربع صباحا وهي الساعة التي سقطت فيها القنبلة مما يشير إلى زمان وقوع هذه المأساة. وقد بنيت حول المبنى منتزهات، ونُصب داخل المبنى لافتتان مكتوب فيهما:
“في السادس من أغسطس 1945م انفجرت على الجسر أمام هذا المبني لأول مرة في التاريخ البشري قنبلة ذرية على ارتفاع 300 مترا مما خلف مائتي ألف قتيل، وهذا هو المبنى الوحيد الذي بقي من آثار الدمار التي خلفتها القنبلة الذرية، وإنما تركناه تذكارا حتى يعرف الجيل الجديد عن مدى الدمار الذي تتركه القنبلة الذرية فينتهوا عن مباشرة هذا العمل الوحشي”.
وقد أنشئ متحف باسم “متحف هيروشيما التذكاري للسلام” للحفاظ على بقايا آثار الدمار الذي خلفته القنبلة الذرية حتى يعتبر الناس برؤيتها ومشاهدتها، ويتحمسوا لتحكيم الروابط وتوثيق الأواصر، ويجتنبوا عن استعمال هذه الأسلحة الفتاكة.
وقد نصبت على جدران المبنى صورتان للمدينة، إحداهما تصوّر حال المدينة قبل انفجارالقنبلة الذرية حيث العمران والسعة والمباني إلى مدى بعيد، والثاني تصوّر حال المدينة بعد القصف حيث سُوّيت المباني بالأرض، وتحولت المدينة إلى خراب. وترى في الصورة أنه لم يبق حي إلى حد كيلومترين ونصف كيلومترا، والذين كانوا على مسافة أبعد وبقي فيهم رمق قد غشيهم الدخان المتصاعد. وترى فيها أيضا صورة الطائرة (B29) التي ألقت هذه القنبلة على المدينة، وتشاهد فيها صور المصابين الذين أصابتهم إشعاعات القنبلة. وترى فيها كيف تذوب لحوم الإنسان وتتساقط وغير ذلك. والخلاصة أن المتحف يقدّم نماذج مؤلمة عن هذه الفاجعة المهيبة.
وقد نشر تفصيل هذه الفاجعة “سيتي هال هيروشيما” بصورة كتاب في خمس مجلدات وأربع آلاف صفحة باللغة اليابانية عام 1971م، تحت عنوان ” آرشيف فاجعة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما”، كان يباع مقتبسات منه في كتيّب فاشتريناه.
إن فاجعة إلقاء القنبلة الذرية بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، أما لماذا ألقت أمريكا القنبلة على هيروشيما، قد أجيب عنه في هذه الرسالة، وقد جاء في هذا الكتيب أن الحرب قد أنهكت اليابان عسكريا جدا، وأمريكا فقد أصيبت بالملل من هذه الحرب وأرادت أن تنهيها بأي شكل من الأشكال، وقد كان أمامها طريقان: إما إرسال جيش بري بالاستعانة من الاتحادية الروسية وتشن حملة كبيرة على اليابان، وتجبر اليابان على رمي السلاح مقابل إبقاء النظام الملوكي لو خضعت للشروط. أو أن تهزم اليابان بإلقاء القنبلة الذرية عليها، واختارت أمريكا الطريق الثاني نظرا إلى أنها أقل كلفة وخوفا من أن تبسط روسيا نفوذها إذا تم طلب الاستعانة من جيوشها، وطبقا لما جاء في هذا الكتيب فإن أمريكا اختارت هذه المدينة لإلقاء القنبلة دون غيرها لأن هذه المدينة كانت خالية من المسجونين الأجانب.
وعلى كل، طبقا لما جاء في هذه الرسالة حلقت طائرة أمريكية ليلا في 5 أغسطس عام 1945م على سماء مدينة هيروشيما واستهدفتها بالقنبلة العادية مرات، وهدأت الأوضاع في الصباح، وخرج الناس للتكسب والتسوق، فجأة أعلن المذيع بأن ثلاثة من طائرات العدو وصلت (سايجو)، فإذا بالقنابل صُبت عليهم، وحدث انفجار عظيم وتبعه زلزال مهيب، وأصبح الجو حارقا، ولم يبق شيء إلا هلك. ألقت طائرة باسم (انولاجي) القنبلة الذرية على هيروشيما الساعة الثامنة والنصف صباحا، انفجرت القنبلة على ارتفاع 576 مترا، ونتج عن ذلك انفجار يعادل حوالي13000 طن ، ثم صاحبه موجة حرارة شديدة جدا (حوالي 3980 درجة مئوية) وجميع الذين كانوا على بُعد واحد ونصف كيلومتر من مركز الانفجار لقوا حتفهم بل قد ماتوا جميعا، وتحولوا إلى فحم أسود، وتدمرت المباني إلى مسافة كيلومترين ونصف بالكامل، وكان من جملة المباني المتهدمة مبنى شركة ميتسوبيشي الصناعية . والذين شاهدوا الحادثة عن بعد يقولون بأن سماء هيروشيما كانت غير السماء والشمس كانت غير الشمس، قد غشي السماء دخان غليظ، وارتفع لهيب النار من الأرض على هيئة العمود، وأصبحت أجساد الناس ملقاة على الشوارع، وبعض النساء الحوامل قد انتفخت بطونهن وقذفت أطفالهن من بطونهن موتى.، وكثير من الناس ألقوا أنفسهم في البحر للنجاة، ولكن بسبب الانهيارات الأرضية انشقت دوامة مهيبة ابتعلت الناس عن آخرهم، ثم طفا النهر هذه الأجساد، وغشيته الأجساد بالكامل.
وبعد خمس عشرة دقيقة من حادث الانفجار أمطر بَرَد أسود لمدة أربع ساعات وربع، وكل من أصابه البرد سقط أشعاره وأصبح أصلع، والذين دخلت قطرات المطر في حلقهم أصيبوا بأمراض الأذن إلى ستة أشهر، ومن الساعة الحادية عشرة إلى الثانية ظهرا هبت عاصفة شديدة أطارت السقف وألقت الأجساد إلى مكان سحيق.
والذين كانوا على بعد كيلومترين ونصف إما جرحوا أو احترقت أجسامهم بسبب تعرضها للإشعاعات المنبثقة من القنابل، وذابت لحومهم، وكثير منهم أصيب بالحمى والإسهال والقيء، وأكثرهم لقوا حتفهم. تهدمت أكثر المستشفيات، ومات الأطباء، ولم تكن هناك الإمكانات اللازمة لمداومة الجرحى والمصابين، ومنظمات الإغاثة لم تكن تفي بالحاجة.
وتلاها بعد ثلاثة أيام إطلاق قنبلة ذرية على مدينة (ناجازاكي)، ولكن نظرا إلى أن هذه المدينة كانت أصغر من هيروشيما قد خلفت القنبلة الذرية خسائر أقل، وقتل فيها 49 ألف رجل، وجرح 25 ألف، وتهدمت 40% من المدينة.
وقد كنت أعرف عن فاجعة القنبلة الذرية، وكان لي اطلاع في هذه الناحية إلا أن رؤية هذه المناظر المهيبة جعلتني أدرك عمق هذه الفاجعة، ومدى خطرها على العالم البشري. والحقيقة أن إبادة هذا العدد الكبير بهذه الطريقة الوحشية والمروعة أمر يخالف العقل والأخلاق والتعاليم الدينية، وكان مقتضى العقل والتعاطف الإنساني أن يمتنع العالم عن صناعة هذه القنبلة المريعة، ويزيلها عن البسيطة، خاصة بعد أن شاهدوا الدمار الذي خلفته القنبلة حيث أبادت آلافا من المعمرين والأطفال والنساء والشباب في آن واحد، المأساة التي لم يوجد لها نظير في التاريخ البشري، ولكن مما يؤسف أن صانعيها بدل أن يظهروا الندامة ويزيلوا هذه القنبلة يتبجحون ويفتخرون بصناعتها ويرونها فضلا ومنة على البشرية، جاء في دائرة المعارف البريطانية (طـ 1950م) نقلا عن السياسي المعروف جرجيل” دائرة المعارف البريطانية:
“إن القنبلة التي ألقيت على مدينة هيروشيما في الحقيقة أنقذت ميليونا أمريكيا، لأنه لو لم تقدم أمريكا على هذا العمل لقتل في الحرب ميليونا أمريكيا”.
انظر يا للعجب كيف يبررون جرائمهم وبربريتهم؟!
منذ سنين وأمريكا والغرب يدعون أنهم يمانعون من زيادة القنابل الذرية، ولا يسمحون بصنعها، ومن خلال فرض معاهدات ملزمة تمنع الشعوب المستضعفة من إقدام هذا العمل، ولكن هل من الإنصاف أن يسمح لهم بالصناعة بقدر ما طاب لهم واستخدامها متى شاؤوا، ثم يُمنع الشعوب الأخرى التي تريد أن تصنعها للدفاع عن كيانها ووجودها، ويرموا بالإرهاب إذا أقدموا على ذلك؟!.
وإن من الواجب أن يُنقذ العالم من تبعات هذالسلاح المدمرة، إلا أن الخطوة الأولى والناجحة في هذه الناحية أن تقدم القوى العالمية على إزالة هذه القنبلة على مرآى ومسمع من العالم، ثم يمكن تصديق ادعاءاتهم بأنهم مخلصون لإنهاء هذه القنبلة، فما دام لم تكن هناك خطوة جادة من القوى العالمية لإنهاءها لن يمكن الرقابة عليها والتقليل من صناعتها. فإذا كان بلد يملك هذه القنبلة فعلى البلد الآخر أن يبادر إلى صناعتها للدفاع عن كيانها. وطبعا لو كانت اليابان لديها قنبلة ذرية لما اجترأت أمريكا للإغارة عليها بهذه الطريقة. فلو يريدون حقا أن ينهوا هذه القنبلة ويصونوا العالم من تبعاتها فلتبادر أمريكا والدول الكبرى أولا على إنهاءها وقمعها، أما أن يصنعوا ثم يمنعوا الشعوب الأخرى من صناعتها لن يتم إزالة هذه القنبلة من كوكب الأرض.

مدينة كوبه
غادرنا هيروشيما إلى مدينة (كوبه) عبر القطار السريع (Bullet trian) ويقال إنه أسرع قطار في العالم، حيث يفوق في سرعته عن قطار “يورو استار” الأوربي. بعد ساعة وصلنا (كوبه).
استقبلنا في المحطة الأخ حسن ضياء. وهذه المدينة لها أهميتها عند المسلمين، إذ فيها بني أول مسجد للمسلمين، وقد بناها المسلمون المهاجرون عام 1935م، أغلبهم مسلمو الهند، تولى ثلثي نفقة المسجد الحاج فيروز الدين أحد التجار الخيرين من الهند، كما تبرع الآخرون لإكمال المشروع، وشيدوا مسجدا رائعا وجميلا.
إمام وخطيب المسجد هو الشيخ محسن شاكر البيومي من خريجي الأزهر، قد استقبلنا بحفاوة ورحّب بنا، ولعله كان يعرفني من خلال كتبي ومؤلفاتي، وقد اصطحبنا في زيارة المسجد وقال عن تأسيس المسجد بأنه أسِّس عام 1935م وبقي على هيئته تلك إلى الآن ولم يرمَّم بعد، ولم يحدث أي ترميم وتغيير في هيكله وحتى في تبديل أبوابه. وهذا من عجائب قدرة الله تعالى حيث سويت بيوت أطراف المسجد بالأرض مرتين وأعيد بناءها ـ مرة بالقصف في الحرب العالمية الأولى ومرة بالزلزال الشديد ـ ولكن المسجد بقي سالما دون أن يعتريه أي نقص طوال هذه المدة الطويلة،وفي داخل المسجد نصبت صورة تحكي عن مشاهد الدمار الذي حل بالمدينة حيث تبدلت إلى خراب عند النوازل وبقاء المسجد سالما بفضل الله تعالى. وقد بنوا إلى جنب المسجد مركزا إسلاميا تقوم بإدارة البرامج الدعوية والتعليمية في أنحاء المدينة. وكان لمسلم باكستاني كافتيريا إلى جانب المسجد الذي دعانا لتناول الغداء في بيته، فأكلنا الطعام الحلال اللذيذ بكل شوق.

مدينة يوكوهاما الصناعية
أدينا صلاة العصر في جامع (كوبه) ثم تحركنا بالقطار نحو مدينة (يوكوهاما)، مرّ القطار عن مدينة (أوساكا) ووصل (يوكوهاما) بعد ساعتين ونصف بعد أن قطع 600 كيلومترا. يوكوهاما تقع على مقربة من مدينة (طوكيو)، وهي مدينة صناعية وتجارية، ذات موانئ تجارية كبيرة.
قبل مدة كان الناس يصلون في المصلى وكان للمدينة مصليان ولم يكن فيها مسجد، ولكن الآن بنوا مسجدا رائعا، القائمون على أمر المسجد قالوا عن سبب بناءه بأن شقيقي فضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني حفظه الله تعالى قبل قد أتى قبل مدة إلى هذه المدينة حين لم يكن فيها مسجد فدعا في المصلى لبناء مسجد، تقبل الله دعاءه وهيّأ أسباب البناء وكُمِّل هذا المشروع بفضل الله تعالى ومن ثم دعاء أخينا الشيخ الكريم. وقد طُلب مني أن أخطب في ذلك المسجد، ومع اعوزاز الوقت إلا أني قبلت طلبهم، فقررنا أن نذهب مباشرة إلى المسجد لأداء صلاة العشاء وأخطب بعد الصلوة مباشرة. استقبلني في محطة القطار الأخ سميع والإخوة الآخرون. أدينا العشاء في هذا المسجد، ثم خطبت لهم لمدة ساعة في ضوء الحديث النبوي “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له “. ومما قلت في ضوء هذا الحديث: إن الله وفقكم لبناء هذا المسجد وهذا العمل صدقة جارية لكم، وبقي الآن أن تبادروا إلى إنشاء مؤسسات تعليمية وتربوية لتعليم أبناءكم وتربيتهم حتى يتربى الجيل الجديد في محيط إسلامي. وقد ورّثنا آباءنا نعمة الإيمان، وللحفاظ على هذا الإيمان وتقويته في قلوب الجيل الجديد يتحتم عليكم أن تبرمجوا وتعيروا الناحية التعليمية والتربوية بعناية خاصة. وبعد الخطابة عدنا إلى مدينة (أبينا).
كان يوم الجمعة هو آخر يوم إقامتي في اليابان، على أني كنت في السفر يومين متتاليين لذا اختصرت برنامجي في هذا اليوم على إلقاء الخطبة يوم الجمعة، وأخذت قسطا من الراحة، وفي هذه المدة قمت بترجمة القرآن، وختمت بفضل الله تعالى سورة الحشر مع حواشيها.
قد دعانا مضيفنا الأخ حامد إلى بيته من أجل تناول العشاء، وهو يقيم في اليابان منذ عشرين سنة، وزوجته يابانية الأصل أسلمت حديثا، وقد أعدوا لنا طعاما يابانيا خاصا. وقد أخبرنا بأن الشعب الياباني يعيش حياة بسيطة، فهم يعتادون الأكل والنوم على الأرض، ويوضع الطعام على طاولات أرضية ويكون بأسفلها حفرة حفرة يمكن يمكن وضع الأرجل فيها من أجل التدفئة في أيام الشتاء. الناس يزاولون أعمالهم بأنفسهم، وحتى الأثرياء لا يوظفون الخدم لشؤون بيتهم مع مقدرتهم المادية على ذلك بل تقوم النساء بجميع أمور البيت كالتنظيف والطبخ وغيرها من الأعمال، ويقال إن النساء يربطن أولادهن على ظهورهن عند العمل.
بعد مأساة 1945م قطعت اليابان أشواطا واسعة في مجالات الصناعة والتقنية، ووصلت إلى أوج رقيها وازدهارها، وكان لهذا التقدم والرقي عوامل من أهمها: البساطة في شؤون الحياة، الجد والجهد، الحافظ على الوقت والاحتراز عن إهداره، الحمية والغيرة الوطنية التي تسربت فيهم بعد الفاجعة، تنظيم أعمالهم على أساس حوائجهم الوطنية، وغيرها من العوامل.
تعتبر اللغة اليابانية من أًصعب اللغات العالمية، والخط الياباني خط معقد للغاية، فاللغة الواحدة ثلاثة خطوط، يقال للخط الياباني القديم (كهانجي) وليس لهذا الخط حروف التهجي بل لكل لفظ هيئة خاصة. وتعلم اللغة هذا الخط يتطلب معرفة أشكال آلاف ألفاظ على حدة. وهناك خطان آخران تطورا مؤخرا، وهما (كهاته كانا) و(هركانا)، وتوجد فيهما حروف التهجي، ولكن عددها كثير، واللغة اليابانية مع هذه الخطوط الثلاثة رائجة. تكتب وتطبع جميع الكتب الدراسية اليابانية بهذه الحروف المعقدة.
يصيبنا شعور مزيج من الأسى والأسف عندما نقارن بين أوضاعنا في باكستان وأوضاع اليابان حيث نرى أن الأوصاف الحميدة التي هتف بها تعاليم القرآن الكريم والحديث النبوي قد تحلى بها غير المسلمين فقطعوا شوطا بعيدا في العلوم الدنيوية والتقنيات الحديثة، وأهملها المسلمون وتغافلوا عنها فتخلفوا عن ركب الحضارة الإنسانية، وحرموا الانتفاع بتراثهم. فكما قال الشاعر الأدري ما مفهومه:
(عمل الكافر بدستور المسلم وقانونه، فازدهر ونال القصور والرفاهية).
بعد هذه الجولة السريعة في اليابان غادرتها في 17 مايو إلى كراتشي من مطار (نريناي) طوكيو، وبعد 16 ساعة وصلت إلى كراتشي بسلامة وعافية ولله الحمد.

تعليقات

تعليق واحد لـ : “عشرة أيام في اليابان

  1. يقول مظفراحمد:

    الحمدلله بارك الله في حياتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات