اليوم :29 March 2024

الأنظمة والحكام

الأنظمة والحكام

من الأمور التي لا مفر منها للشعوب والحضارات في العالم، تأسيس أنظمة للحكم تتولى شؤون الرعايا والشعوب. كما أن الحياة الإجتماعية للبشر لم تعد تتصور بغير أنظمة الحكم في عالم متحضر، فالحكومة أو نظام الحكم نعمة إلهية كبيرة إضافة إلى أنها ضرورة اجتماعية. يذكر الله تعالى في القرآن الكريم على لسان سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام امتنانه على بني إسرائيل بإعطائهم هذه النعمة، فيخاطبهم ويقول “وإذ قال موسى لقومه يقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذا جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين” (مائدة: 20). تتبين من الآية المذكورة أن الحكومة من أعظم النعم الاجتماعية التي  يخص بها الله تعالى لقوم أو شعب من الشعوب.
ثم الحكومة وما فيها من القدرة والاختيارات أمانة إلهية هامة، كما أنها نعمة عظيمة فوضت إلى الحكام والملوك. إن الله تعالى يعطي هذه الأمانة إلى طائفة من الناس ويبتليهم كيف يعملون وينتفعون بهذه النعمة ويحفظونها. قال الله تعالى: “ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون” (يونس: 14).
من أهم وظائف الحكام التي أشارت إليها الأديان السماوية وتتفق عليها العقول البشرية، إقامة العدل وتثبيت أركان المساواة والأمن والخدمة للرعية. قال الله تعالى لنبيه داوود عليه السلام بعد أن أعطاه الحكم والخلافة في الأرض: “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ”.
إن التاريخ الإسلامي وكذلك التاريخ البشري شاهد على هذه الحقيقة أن الحكام والملوك، مهما اعتبروا الحكومة أمانة إلهية ومسؤولية عظيمة وجعلوا إقامة العدل والأمن وراحة الرعية في قائمة أعمالهم ونشاطاتهم ولم يقصروا من بذل جهودهم في الخدمة إلى شعوبهم ورعاياهم، أصبحوا أعزة كراما في أعين شعوبهم، وأحبتهم الرعية من سويداء قلوبهم، ويمنو بقائهم وعزتهم وكرامتهم، ولم يأل الرعية أيضا جهدا في الوفاء وإرادة الخير بهم، واعتبروا أي تضحية في سبيل ذلك سعادة ومفخرة لأنفسهم.
أجل! عندما يرى الرعية والشعب من حكامهم العدل والمساواة، ويجدوا مشاركة حرة وعزيرة في تأسيس الحكومة وتكوينها، ويطمئنوا بأن مطالباتهم توجد لها آذان صاغية في نظام الحكم ودوائره، وتتابع مشكلاتهم، ولا يتعرضون للتمييز والظلم من ناحية ولاة أمورهم، فتكون النتيجة أن النظام يحصل على عزة وكرامة في المستوى العالمي، ويقل أعدائه ويكثر أصدقائه، ولا يقدر أحد أن يطمح إلى ثروات هذا الشعب المادية والروحية؛ ومثل هذه الحكومات تصل إلى قوة رائعة ويصبح مثل هذه الأنظمة نماذج وقدوات للأنظمة والشعوب الأخرى ويضرب بها المثل في العدل والحضارة في التاريخ.
ولكن الحكام الذين يتخذون من الظلم  والعدوان والتمييز سياسة لهم بدل العدل، ويتبنون سياسات خاطئة مضيعة لحقوق المواطنة والثروات الشعبية والإنسانية بدل توفير الأمن والراحة للشعب. وبالابتعاد عن مبدأ الشورى والشعبية، يحتكرون القدرة في طبقة أو حزب خاص، ويكبتون أصوات المنتقدين والناصحين المطالبة بالحرية والعدالة ورفع المظالم، ويختمون على أفواههم بدل الاستماع لها، ويملأون السجون بالمنتقدين والمطالبين بالحرية، بل يبدلون بلادهم  سجونا عظيمة لشعوبهم.
فمثل هؤلاء الحكام يفقدون شعوبهم الراحة والأمن، ويكرههم شعوبهم قبل غيرهم. وهؤلاء الرؤساء بدل أن يقتدوا بسيرة الأنبياء والخلفاء الراشدين والحكام العادلين في التاريخ الإسلامي والالتزام بمبادئ الأخلاق، في الحقيقة جعلوا وصايا طغاة مثل  “ما كياولى” الفيلسوف والسياسي الإيطالي نصب أعينهم حيث قال: “على الحاكم أن يعلم بأن القسوة من الاسلحة الهامة للتمكين من السيطرة على الناس. والإيمان إن كان ضرورة تجدر الاشادة به، لكن الخداع والتزويروشهادة الزور والكذب والرياء وسائل ضرروية ومبررة لحفظ القدرة السياسية”.
هذه الفكرة ربت جبابرة ومستبدين أراقوا أزكى الدماء، وقتلوا آلافا من الأبرياء حفظا لقدرتهم. في عصرنا أيضا شجعت هذه الفكرة الكثير من رؤساء الأنظمة على أن لا يبالوا بارتكاب أصناف الجرائم من القتل والاختطاف والتعدي  والتشدد والإرهاب وممارسة أنواع من التعذيبات الروحية والجسمية المغايرة للأصول الأخلاقية والبشرية. هؤلاء حكام ينزل أولا اللعن من السماء عليهم ثم ينالهم لعن من في الأرض، وتحيط بهم ضجات المظلومين وآهاتهم من كل جانب، وفي النهاية ينقلبون في المستنقع الذي أوجدوه.
كانوا يحفرون البئر للمظلومين         لكن سقط أنفسهم في البئر متآوهين
إن كان التاريخ البشري والإسلامي مليئ بنماذج من مصير حكام مستبدين، ولكن ما حدث في  العالم العربي المعاصر يكفي للعبرة. الكثير من رؤساء العرب المعاصرين مع عقلية ثورية وصلوا إلى الحكم وكانوا أجانب تماما بالنسبة إلى التربية الإسلامية والتعليم الديني، وكانوا متأثرين بالأفكار الغربية.
هؤلاء بعد ما هدأت رياح الثورة في بلدانهم، ركّزوا مساعيهم على عدة أمور، منها:
1- تعميم الثقافة الغربية ومكافحة المشاعر الإسلامية والغيرة الدينية.
2- مكافحة الحركات الإسلامية وتضييق الخناق على النشاطات الدينية وفرض القيود السياسية والمدنية.
3- السعي لاكتساب تأييد سادتهم في الغرب أو الشرق والخدمة الصادقة لهم لمواصلة حياتهم السياسية واستمرار حكمهم المستبد.
هؤلاء الحكام لم يكن يبالون بأنهم يبتعدون عن الإسلام والقرآن الكريم بأعمالهم، ويبتعدون عن شعوبهم ويخونون إلى تاريخهم وثقافتهم. وقد أغمضوا أعينهم على هذه الحقيقة أيضا بأن هؤلاء الشعوب سينهضون يوما ضدهم، ولا تستمر سياساتهم الاستبدادية، ولا يجلب الظلم والخداع والتمييز إلا الخزي والفضيحة لهم.
اليوم حيث سقط بعض هؤلاء الحكام المستبدين، لا يذكرهم أي إنسان عاقل بالخير، بل ربما يلعنهم وينزجر من أسمائهم، ولا شك أن عذاب الآخرة والخزي القادم في ذلك اليوم أسوء بكثير. “كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانو يعلمون” (قلم:33)
السؤول المطروح هناك: لماذا لم يعتبر هؤلاء الحكام ورؤساء الأنظمة من التاريخ، ولم يتلقوا الدروس، وبل أصبح أنفسهم أسباب العبرة للحكام القادمين. ومن الغريب للغاية أن مع هذه العبر نرى البعض يواصلون منهجهم الاستبدادي في الحكم ويحكمون على شعوبهم بنفس السياسات التي أطاحت بأمثالهم.
للجواب على هذا السؤال نستطيع أن نشير إلى العوامل التالية:

1- تزيين الشيطان:

الشيطان خلق لابتلاء البشر، ومن نشاطات الشيطان تزيين الأعمال السيئة والقبيحة في أعين الناس. “وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون”. (أنعام:43)

2- الحرص الشديد للمال والمنصب:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِى غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ”. ( رواه الترمذي)

3-الغرور والتكبر:

من أقبح الخصال التي تمنع الإنسان من أن ينتبه إلى نصيحة الناصحين وانتقاد المنتقدين، هي الغرور والتكبر. يبين القرآن الكريم وصف من ابتلي بهذا المرض ويقول: “وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد. (بقرة: 205 -206)

4- البطانات السيئة والمستشارون الفاسدون:

يحاول المستشارون السيئون الفاسدون دائما أن يخفوا الحقائق عن الملوك والحكام، أو أن يبينوا لهم الحقائق مقلوبة مموهة، ويتقربوا إلى أصحاب القدرة والسلطة بالمدح والتقديس. فكم من الجرائم التي ارتكبها هذا الصنف الخائن، وكم أذاقوا الشعوب من الويلات والبلايا.

5- حب الدنيا والغفلة عن الآخرة:

يصف الله تعالى المحبين للدنيا وعبادها قائلا: “إن الذين لا يرجون لقائنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون. ( يونس:7)
ويقول القرآن الكريم عن فرعون، أحد  أعظم طغاة التاريخ: “واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون” .(قصص: 39)

6- عدم اليقين بقانون الجزاء وعواقب الظلم:

لا شك أن هذه الدنيا دار العمل وليست دار الجزاء، وإنما الحساب والعقاب يتحققان في الآخرة، ولكن من سنة الله في الأرض أن الظلم والطغيان عندما يبلغان إلى درجة عالية وتضيع حقوق الناس وترفع صيحات المظلومين وآهاتهم نحو السماء، يهتز عرش الرحمن، وسرعان ما تتبدل هذه الصيحات والضجات إلى نيران مدمرة وعواصف مهدمة تهدم قصور الكفر والاستبداد وتستأصل جذورها  وتبيدها. “فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. ( أنعام:45)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الكاتب: فضيلة الشيخ المفتي محمد قاسم القاسمي

التعريب: أبو عبد الله البلوشي

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات