اليوم :29 March 2024

نظرة إلى حياة الشيخ عبد العزيز ساداتي رحمه الله

نظرة إلى حياة الشيخ عبد العزيز ساداتي رحمه الله
sadatiفي اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1426 ق. فقدت منطقة بلوشستان الواسعة    علما شامخا وكوكبا أغرا ونجما لامعا ومشعلا وضاءا في سماء علمها، وهو سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز ساداتي رحمه الله، وكان لوفاته الأثر البالغ في النفوس، لما للفقيد رحمه الله من مكانة مرموقة وأعمال جليلة وحياة طويلة مليئة بالخير وبالبركة لأهل المنطقة.

هذه لمحة قصيرة عن حياته، رغبة في أداء بعض ما يجب لهذا العالم الفذ، الذي جمع بين العلم والعمل، وعاش غريبا، تاركا مظاهر الدنيا ومناصبها، بعيدا عن الترفع والشهرة.   

مولده وأسرته:
ولد رحمه الله وغفر له، سنة خمس وثلاثين بعد ثلاثمائة وألف 1335هـ، في قرية “كركين” في منطقة سرباز من بلوشستان.
نشأ في بيت العلم والفضل والتقى والصلاح، فتغذى بلبان العلم والإيمان، وتسلح بسلاح المعرفة والعقيدة السليمة منذ نعومة أظفاره، حتى آل أمره إلى أن صار مرجعا للعلماء وفقيها بارزا وعالما ذكيا في منطقته.
أبوه هو الشيخ الملا محمد صادق كان عالما فاضلا من السادات، قد هاجر من قرية “دزك” في مدينة سراوان إلى “سرباز” وقد أقبل في تلك القرية إلى التعليم والتربية وإرشاد العامة، فصار مرجعا للعام والخاص. لكن لما توفي أبوه الشيخ القاضي ملا سيد غلام محمد، في سراوان، عاد الملا محمد صادق مع أسرته وذويه ومن بينهم السيد عبد العزيز إلى “سراوان” على طلب من أهل “سراوان” لتولي مهام القضاء والأمور المذهبية في قرية “دزك”.
جديربالذكر أن قرية “دزك” المذكورة ظلت سنوات طويلة من مراكز الحكومة المحلية في بلوشستان. وقد كان أسس في هذه القرية الكبيرة مركز علمي كبيرعلى يد أجداد الشيخ ساداتي للتعليم والتربية الدينية وحل النزاعات الشعبية، وظل مأوى  لرجوع الناس إليه من المناطق المختلفة. و أقيم أول صلاة للجمعة في جامع هذه القرية المعروف بمسجد الجمعة، وهو مسجد قديم يمضي أكثر من ثمانمائة وخمسين سنة على تأسيسه. و قد قام أسلاف الشيخ ساداتي بإمامة الجمعة والجماعات في هذه المسجد، كما تولوا غيرها من الأمور المذهبية والقضاء وحل مشاكل الناس الدينية ونزاعاتهم في القرية.

رحلته للدراسة والتعلم:
إن ملامح الذكاء كانت بادية في وجه السيد عبد العزيز منذ نعومة أظفاره. ففي البداية ذهب إلى الشيخ الملا سيد شير محمد ، إمام وخطيب الجمعة في جامع “دزك”. وتلقى الدروس الإبتدائية في مكتب مسجد الجمعة الذي كان المكتب الوحيد والمركز العلمي الوحيد في ذلك الوقت في منطقة بلوشستان. ثم أخذ علوم الصرف والنحو والفقه وغيرها من الشيخ عبد الرحيم بزركزاده في قرية “زنكيان” (القرية التي تقع فيها الآن مدرسة دار العلوم زنكيان). وسافر كغيره من الطلبة للدراسات العالية وتعلم المزيد من العلوم إلى الهند. فوصل إلى دار الفيوض الهاشمي في منطقة سند، أولا. وسافر بعد ستة أشهر من هناك إلى “أجمير” ومن “أجمير” واصل رحلته التعلمية نحو “سهارنفور” فالتحق بمدرستها المعروفة “مظاهر العلوم”، وكانت “سهارنفور” من المدارس المعروفة والمشتهرة في الهند. فدرس فيها على كبار علماء الهند، أمثال المفتي سعيد أحمد والشيخ زكريا الكاندهلوي. ثم التحق لإكمال دراساته العالية إلى جامعة ديوبند المعروفة سنة 1359 هـ.ق.
في “ديوبند” درس على مجموعة من كبار علماء الهند وكبار أساتذتها أمثال الشيخ السيد حسين أحمد المدني رئيس جمعية علماء الهند، وشيخ الفقه والأدب مولانا إعزاز علي وحكيم الإسلام قاري محمد طيب القاسمي والشيخ إبراهيم البلياري  والشيخ مولانا أختر حسين. وقد التقى في هذه المدة بشخصيات بارزة من أهل الدعوة والتزكية وانتفع بتوجيهاتهم ونصائحهم أمثال الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي والشيخ العلامة أشرف علي التهانوي.
واستمرت رحلته لأجل التعلم قرابة عشر سنوات، وقيل إنه لم يعد في هذه المدة إلى بلاده ولم يراسل أهله ولم يرد على كتاب وصله مخافة أن يقل شوقه واشتياقة إلى التعلم، ومخافة أن يكون في تلك الرسائل أخبار تترك آثارا سلبية في دراسته، بل جمع الرسائل وتركها في صندوق ثم فتحها بعد التخرج وبدأ يقرأها رسالة رسالة، فكان يحمد الله مرة ويسترجع مرة أخرى.

العودة إلى البلاد:
لما حان يوم التخرج، ذلك اليوم الذي يغمر الفرح والسرور وجود جميع الطلبة إذ أنهم سيتخرجون من دراسة العلوم الشرعية، وتوضع عمامة التخرج على رؤسهم على يد رجل مجاهد مناضل وعارف من سلالة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الشيخ العلامة حسين أحمد المدني، حضر هذا الشاب بقلب حزين وعين مليئة بالدموع عند أستاذه. فلما رأى الأستاذ الحزن في وجه هذا التلميذ، قال له: آلان وقت الفرح والسرور، وليس وقت الحزن والهم. فأجابه السيد عبد العزيز: إني حزين من اقتراب موعد الفراق، ولو لم يكن حزني لوفاة الوالدة لما تركتكم والجامعة. فالشاب الذي ترك قبل عشر سنوات بلاده صفر اليدين من كنوز العلم والمعرفة، يعود اليوم  ومعه أحمال من العلم والمعرفة والتجارب الغالية والتوجيهات النافعة.
لما شاع خبر قدوم الشيخ ساداتي في المنطقة، ساد الفرح والسرور أهلها، شبابهم و شيوخهم، رجالهم ونسائهم، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر لحظة قدومه. وقد خرج الكثيرون لاستقباله على أقدامهم إلى خارج القرية. وقد ذهب الكثيرون من أقربائه وعشيرته إلى مدينة بنجكور (مدينة تقع حاليا في بلوشستان الباكستانية) لاستقبال شيخهم وعالمهم القادم من الهند.

أعماله ونشاطاته رحمه الله:
قد جعل رحمه الله الخدمة إلى الدين وإلى عباد الله، كهدفين أساسيين في حياته، فبعد أن استقر في المنطقة وقد صار مثل أسلافه مرجعا للناس، بدأت مرحلة جديدة من حياته وهي حياة النشاط والحيوية والخدمة إلى الخلق. فكان يقضي نهاره في خدمة الناس وتوجيههم، وليله في محراب العبادة والذكروالدعاء. بعد مضي مدة قصيرة من عودته، أراد أولا إعمار جامع “دزك” وأن يؤسس مدرسة بجانبه، لكنه بعد مشورة مع علماء المنطقة  ومطالبة من جانب الناس تولى رئاسة مدرسة “دارالعلوم زنكيان” التي كان يديرها “المولوي درمحمد” و”الملا محراب” بجد وسعي بالغين، وكانا مشتغلين بالتدريس فيها. فزادت المساعى والجهود التعليمية والتربوية بحضور الشيخ ساداتي، وذاع صيتها في الأنحاء، وتوجه عشاق العلم والمعرفة من شتى أنحاء البلاد إلى هذا المركز العلمي والديني. وقد اشتغل بأمر التعليم والتربية أساتذة بارعون في هذه المدة مثل الشيخ “عبد الكريم سعيدي بور” والشيخ “عبد الرحمن محبي” والشيخ “رحيم بخش بلوجزهي” في ضوء توجيهات الشيخ ساداتي ونصائحه الخالصة والمشفقة.

الإهتمام إلى الدعوة والتبليغ:
كان الشيخ ساداتي من المتأثرين والمعجبين بالدعوة والتبليغ، فكان لسماحته حضور مستمر ناشط في جميع شعب التبليغ والإرشاد. ومع كثرة المشاغل وأمور التدريس والتعليم فلم تكن  تفوته  مساعدة أمور الدعوة والتبليغ.
وقد قام إلى جولات دعوية إلى مناطق مختلفة من بلوشستان، كما أنه قام إلى رحلات مختلفة إلى مراكز الدعوة في باكستان، والتقى بكبار العلماء والدعاة، وكانت له صلة دائمة مع فضيلة الشيخ مفتي زين العابدين رحمه الله تعالى أحد كبار الدعاة في باكستان.

الجلوس لحل نزاعات الناس:
قد كان رحمه الله يقضي وقتا كبيرا في الإجابة عن المسائل الشرعية، وحل الإختلافات والنزاعات بين الناس. عندما كانت المنطقة تعاني من قلة العلماء، كان فضيلته من ناحية يجلس للإجابة عن مسائل الناس الشرعية ومن ناحية أخرى فقد شكل محكمة لأخذ حق المظلوم من الظالم، ولحل نزاعات الناس وإختلافاتهم.

التصدى للبدع والخرافات:
ربما تنمو البدع والخرافات في مجتمع يقل فيها العلماء الربانيون والدعاة المخلصون ويكون الناس فريسة لعلماء السوء وأهل البدع والخرافات، وقد نشر البعض من المبتدعة في بلوشستان البدع والخزعبلات والعقائد الخرافية، ولكن من الله على أهل هذه المنطقة بتربية علماء من أهل التوحيد الخالص الذين بفضلهم عاد التوحيد إلى المنطقة، وطويت بسط البدع والخرافات، وإنهم كانوا مجموعة من العلماء الذين تربوا في مكاتب الشاه ولي الله الدهلوي المحدث والمجدد الهندي المعروف، تلك المكاتب التي رفعت رايات التصدي للشرك والبدعة في شبه القارة الهندية. وقد كان الشيخ ساداتي من العلماء السابقين الذين رفعوا هذه الراية في إقليم بلوشستان الواسعة، رأية الجدال والكفاح ضد الفساد في العقائد والأعمال.

التصدي للنشاطات المعادية للشريعة الإسلامية:
يحكي رجل يعرف بالتدين من أهل “سروان” أنه كان يملك بيتا فاستاجره شباب لهم نزعات شيوعية، فذهبت يوما لأخذ منهم الأجرة فرايت أوراقا وإعلانات كثيرة طبعوها وهم يريدون توزيعها، فأخذت ورقة منها وسلمتها إلى رجل يعرف الكتابة فقرأها وكان فيها أن ثلاثة أشياء مشتركة بين الناس “الأرض والثروة والمرأة” فتكلمت في الموضوع مع عالم شاب من علماء المنطقة حول هذه النشاطات لكنه رجح السكوت قائلا: الحكومة معهم وليس في مقدورنا أن نقابلهم. فنهضت من عنده وذهبت إلى الشيخ ساداتي، ولما رأى تلك الورقة تغيرت وجهه وقال قم لنذهب إلى ذلك البيت. ثم ذهبنا مع مجموعة من رؤساء القبائل وقمنا بإحراق جميع ما كانت من الأوراق المليئة بالآراء المعادية لللإسلام والأخلاق.

الدعوة إلى الوحدة الإسلامية:
لا شك أن فضيلة الشيخ رحمه الله كان مهتما جدا بقضية تطهير العقائد والمعتقدات الدينية من البدع والخرافات والضلالات، وكان أكثر اهتماما بالنسبة إلى الوحدة الإسلامية والانسجام بين أبناء الأمة الواحدة، وقد بذل دائما جميع ما في وسعه للوصول إلى هذه المنشودة الغالية. وإن هذه الحقيقة لا تخفى على من لهم أدنى معرفة وصلة بحياة الشيخ رحمه الله.

صفاته رحمه الله:
الشجاعة والصرامة في بيان الحق
كان رحمه الله يتمتع بشجاعة فائقة في بيان الحق والحقيقة ولم يكن يخاف في ذلك لومة لائم ولم يكن يخاف  أحدا، لما أنه كان يبتغي رضى الله، فكان يقف في وجه الظالم الجائر حتى يستعيد منهم حق المظلوم.
وإليكم نماذج من شجاعته وصرامته:
إن النظام السابق قد جاء بسينما متنقلة إلى قرية “زنكيان” وكان يطلب من القرويين أن يشاهدوا برامج وتوجيهات في الزراعة والفلاحة. وبجانب ذلك أمروهم أيضا بمشاهدة أفلام من نشاطات الشاه ونظامه. وقد حذرهم الشيخ حول القضية ولكنهم لم ينتبهوا لتحذيرات الشيخ إلى أن  ذهب فضيلة الشيخ إلى المكان بنفسه مع عدد من الطلبة ومنع عن متابعة المزيد من مثل هذه الأفعال.
يحكى أن حاكم المدينة طلب مرة  من رؤساء القبائل أن يساعدوه في بناء تمثال الشاه ونصبه في المدينة؛ لكن الشيخ عارضهم في القضية مخاطبا الحاكم: إننا يا فخامة الرئيس كسرة للأصنام ولسنا صانعيها. وإن نحت الأصنام والتماثيل محرمة في شريعتنا.
قد كان رحمه الله في الدفاع عن الشريعة صارما، وإن التصريح بالحق أمام أوامر المحاكم وقضاة الدولة كانت سمة للشيخ يعرفه الكل من العام والخاص. كان يعلن بكل شجاعة إبطال وإلغاء الأحكام القضائية التي تعارض أو تخالف الشريعة. مرة واجهه رئيس المحكمة قائلا : فضيلة الشيخ هذا حكم الشخص الأول في المملكة. فأجابه الشيخ ساداتي: إننا نجعل كل حكم هو مخالف لحكم الله تحت أقدامنا وإن كان ذلك الحكم حكم الشاه.

الأخلاق الكريمة وكثرة العبادة:
وكان فضيلته من الرجال القلائل الذين يعدون من نوادر بلوشستان لما منحه الله من الصفات الجمة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فقد كان رحمه الله إلى جانب غزارة علمه وسعة اطلاعه، صبورا حليما، ذا أناة وروية، وذا شخصية فذة، متواضعا بعيدا عن الترفع، عالي الهمة، رجل علم وعمل، حافظا لوقته، معنيا بخدمة شعبه بعزيمة لا تعرف الكسل، وهمة لا يشوبها فتور داعيا إلى الله على بصيرة لا يخشى في الله لومة لائم، إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي وفقه الله للاتصاف بها. عزيز النفس، مستعففا، لم يمد يده نحو أحد لحاجة، ولم يراجع إدارة ولا شخصا قط لأجل منفعة شخصية مع امتلاكه الكلمة المسموعة في الدوائر الحكومية وعند الأشخاص والشخصيات. كما أنه كان من المكثرين في العبادة. فصلاة التهجد لم تفته في السفر ولا في الحضر، كما أنه كان من الملتزمين بالنوافل وسنن الزوائد.

الحنين إلى الحرمين الشريفين:
ليس في وسعنا أن نحيط بحنينه وعشقه إلى أرض الوحي ومكة المكرمة والمدينة المنورة في  الألفاظ. قد سافر مرات إلى الحرمين الشريفين. وبإمكان من رافقه في تلك الأسفار أن يبينوا قسما من أحواله ومشاعره وأحاسيسيه عندما كان ألزم نفسه العبادة والابتهال الدائم إلى الله في تلك الأماكن المقدسة.

وفاته رحمه الله:
انتقل إلى رحمة الله تعالى وهو مشتغل بالعبادة، بعد أداء صلاة الفجر يوم الأحد السابع والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1426 هـ.ق. وصلي عليه في المصلى المركزي لمدينة سروان، واكتظ المسجد بالمصلين عليه من خاصة الناس وعامتهم ممن بلغهم نبأ وفاته، فجاءوا من أنحاء بلوشستان .
وكان ممن حضروا الصلاة عليه فضيلة الشيخ عبد الحميد حفظه الله تعالى، وقد صلى عليه فضيلته. ثم نقلت الجنازة ليدفن بقرب من تذكاره العلمي وهو “دارالعلوم زنكيان” ولم تكن المصيبة فيه مصيبة أسرة بل كانت المصيبة عامة.
وكانت وفاته رحمه الله على إثر مرض أصابه، فكان يعاني منه قرابة خمسة عشر سنة، فلم تمنع المصائب التي أصابت الشيخ رحمه الله لحظة من ذكر الله ولا من عبادته، فيذكر الله ويستغفره حتى توفاه الله تعالى. وقد توفي رحمه الله عن عمر يناهز إحدى وتسعون سنة.
رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات