تبريز كما يراها الحموي:
فقد ذكر ياقوت الحموي في كتابه المعروف معجم البلدان هذه المدينة يقول: تبريزُ: بكسر أوله وسكون ثانيه وكسر الراءِ وياء ساكنة وزاي كذا ضبطه أبو سعد وهو أشهَرُ مدُن أذربيجان وهي مدينة عامرة حسناء ذات أسوار محكمة بالآجر والجص وفي وسطها عدة أنهار جارية والبساتين محيطة بها والفواكه بها رخيصة وعمارتها بالآجز الأحمر المنقوش والجص على غاية الاحكام وكانت تبريز قرية حتى نزلها الرواد الأزدي المتغلب على أذربيجان في أيام المتوكل، ثم إن الوجناء بن الرواد بَنَى بها هو وإخوته قصورأ وحصنها بسور فنزلها الناس معه ويعمل فيها من الثياب والنسج ما يحمل إلى سائر البلاد شرقأ وغرباَ ومر بها التتر لما خربوا البلاد في سنة 618 فصالحهم أهلها ببذول بذلوها لهم فنجَت من أيديهم وعصمها الله منهم،(معجم البلدان)
قال بن المقفع عن بلاد آذربيجان بما فيها تبريز:
أذربيجان مسماة بأذرباذ بن إيران بن الأسود بن سام بن نوح عليه السلام وقيل أذرباذ بن بيوراسف وقيل: بل أذر اسم النار بالفهلوية وبايكان معناه الحافظ والخازن، فكان معناه بيت النار أو خازن النار وهذا أشبه بالحق لأن بيوت النار في هذه الناحية كانت كثيرة جداً، وحد أذربيجان من برزذَعة مشرقاً إلى أرزنجان مغرباً ويتصل حدها من جهة الشمال ببلاد الديلم والجيل والطرم وهو إقليم واسع ومن مشهور مدائنها تبريز وهي اليوم قصبتها وأكبر مُدُنها وكانت قصبتها قديما المراغة ومن مدنها خُوَي وسَلماس وأرمية وأردَبيل ومَرَند وغير ذلك، وهو صُقع جليل ومملكة عظيمة الغالب عليها الجبال وفيه قلاع كثيرة وخيرات واسعة وفواكه جمة ما رأيت ناحية أكثر بساتين منها ولا أغزر مياهاً وعيوناً لا يحتاج السائر بنواحيها إلى حمل إناءٍ للماء لأن المياه جارية أين توجه وهو ماء بارد عذب صحيح وأهلها صِباح الوجوه حمرُها رقاق البشرة ولهم لغة يقال لها الأذرية لا يفهمُها غيرهم وفي أهلها لين وحُسنُ معاملة إلا أن البُخلَ يغلب على طباعهم.
تبريز كمدينة إسلامية:
رأينا فيما مضى أن تبريزأصبحت مدينة آهلة بسبب نزول الرواد الأزدي من بني تغلب زمن المتوكل الخليفة العباسي حيث بنى فيها هو وإخوته قصورا وجسورا فنزلها الناس معه، لذلك فالفضل في حضارة تبريز وخاصة في كونها أهم مدينة لولاية آذربيجان بعد فتح هذه البلاد يرجع إلى الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية التي حملها الفاتحون المسلمون من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم.
وقد فتحت هذه الولايات أولاَ في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان عمر قد أنفذ المغيرة بن شُعبة الثقفي والياً على الكوفة ومعه كتاب إلى حُذَيفة بن اليمان بولاية أذربيجان فورد الكتاب على حذيفة وهو بنهاوند فسار منها إلى أذربيجان في جيش كثيف حتى أتى أردبيل وهي يومئذ مدينة أذربيجان وكان مرزبانها قد جمع المقاتلة من أهل باجروان ومِيمَذ والبذ وسراو وشيز والميانج وغيرها فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداَ أياماً ثم إن المرزبان صالح حذيفة على جميع أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم وزناً على أن لا يقتُلَ منهم أحداً ولا يسبيه ولا يهدم بيت نار ولا يعرض لأكراد البلاشجان وسَبَلاَن ومياه روذان ولا يمنع أهل الشيز خاصة من الزفن في أعيادهم لإظهار ما كانوا يُظهرون ثم إنه غزا موقان وجيلان فأوقَعَ بهم وصالحهم على إتاوة، ثمِ إن عمررضي الله عنه عزل حذيفة وولى عُتبة بن فرقَد على أذربيجان فأتاها من الموصل ويقال بل أتاها من فلما دخل أردبيل وجد أهلها على العهد وقد انتقضت عليه نواح فغزاها وظفر وغنم فكان معه ابنه عمرو بن عتبة بن فرقد الزاهد، وذكر الواقدي أن المغيرة بن شعبة غزا أذربيجان من الكوفة سنة اثنتين وعشرين ففتحها عنوة ووضع عليها الخراج، وروى أبو المنذر هشام بن محمد عن أبي مِخنَف أن المغيرة بن شُعبة غزا أذربيجان في سنة عشرين ففتحها ثم إنهم كفروا فغزاهم الأشعث بن قيس الكندي ففتح حصن جابرَوان وصالحهم على صلح المغيرة، وقال المدايني لما هُزِمَ المشركون بنهاوند رجع الناس إلى أمصارهم وبقي أهل الكوفة مع حذيفة فغزا بهم أذربيجان فصالحهم على ثمانمائة ألف درهم، ولما استعمل عثمان بن عفان رضي الله عنه الوليد بن عقبة على الكوفة عزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان فنقضوا فغزاهم الوليد بن عقبة سنة خمس وعشرين وعلى مقدمته عبد الله بنشُبيل الأحمسي فأغارعلى أهل موقان والتبريز والطيلسان فغنم وسبا ثم صالح أهل أذربيجان على صُلح حذيفة.
من علماء تبريز:
وقد كان شأن تبريز شأن غيرها من المدن التي نشأت وازدهرت في ظل الحضارة الإسلامية في بلاد فارس في تخريج أهل العلم والفضل والزهد والمتصفين بأعلى الخلق والمكارم التي جاءت بها الشريعة الإسلامية. وقد خرج من تبريز جماعة وافرة من أهل العلم، منهم:
أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي المعروف بالخطيب؛ أحد أئمة اللغة، كانت له معرفة تامة بالأدب من النحو واللغة وغيرهما وهو إمام أهل الأدب قرأ على أبي العلاء المَعَرًي بالشام وسمع الحديث عن أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي وغيرهما. روى عنه أبو بكر الخطيب ومحمد بن ناصر السلامي قال: وسمعته يقول: تبريز بكسر التاءِ ، صنف التصانيف المفيدة و صنف في الأدب كتباً مفيدة، منها “شرح الحماسة” وكتاب “شرح ديوان المتنبي” ، وكتاب “شرح سقط الزند” وهو ديوان أبي العلاء المعري، و “شرح المعلقات السبع” و “شرح المفضليات” وله “تهذيب غريب الحديث” و “تهذيب إصلاح المنطق”.
وكان الخطيب المذكور قد دخل مصر في عنفوانه شبابه، فقرأ عليه بها الشيخ أبو الحسن طاهر بن بابشاذ النحوي شيئاً من اللغة، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة سنة 502.
علي بن إبراهيم بن علي التبريزي المعروف بابن الخازن؛ يكنى أبا الحسن:
قدم الأندلس سنة إحدى وعشرين وأربع مائة وأسمع الناس بشرق الأندلس بعض ما رواه. وقدم طليطلة سنة اثنتين وعشرين وأربع مائة مجتازاً فسمع منه بها تفسير القرآن الموسوم بشفاء الصدور. حدث به عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي، عن النقاشي مؤلفه. وروى أيضاً عن أبي الفتح بن أبي الفوارس، وعن أبي بكر بن الطيب، وأبي حامد الاسفرايني، وأبي أحمد الفرضي، وابن أحمد القصار الفقيه وغيرهم.
وكان من أهل العلم بالآداب واللغات، حسن الخط، جيد الضبط، عالماً بفنون العربية ثقة فيما رواه. وكانت عنده غرائب وفوائد جمة، وكان شافعي المذهب. سمع منه جماعة من علماء الأندلس. وقرأت بخط أبي بكر المصحفي قال لي التبريزي رحمه الله: مولدي سنة إحدى وسبعين وثلاث مائة. ودخلت بغداد سنة خمسٍ وتسعين وثلاث مائة.
محمد بن عبد الأول التبريزي:
محمد بن عبد الأول التبريزي أحد موالي الروم، رأى الجلال الدواني وهو صغير، وقرأ على والده قاضي حنيفة بمدينة تبريز، ودخل في حياة والده الروم، وعرضه المولى علي المؤيد على السلطان أبي يزيد خان لسابقة بينه وبين والده، فأعطاه مدرسة، ثم ولي تدريس إحدى المدرستين المتجاورتين بأدرنه، ثم بإحدى الثمان، وعزل، ثم أعطي إحداهن ثانياً، ثم أضرت عيناه فأعطي تقاعداً بثمانين درهماً، وكان فاضلاً زاهداً صحيح العقيدة، له حاشية على شرح هداية الحكمة لمولانا زاده. توفي سنة أربع أو خمس وخمسين وتسعمائة رحمه الله تعالى.
جان التبريزي:
جان التبريزي الشافعي، المعروف بميرجان الكبابي القاطن بحلب. كان عالماً كبيراً سنياً صوفياً قصد قتله شاه إسماعيل صاحب تبريز لتسننه، فخلع العذار، وطاف في الأزقة كالمجنون، ثم صار على أسلوب الدراويش. قال ابن الحنبلي: زرته بحلب في العشر الرابع من القرن، وهو بحجرة ليس بها إلا الحصير. وفي تاريخ ابن طولون المسمى بمفاكهة الإخوان وفي يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان يعني سنة أربع وثلاثين وتسعمائة. قدم دمشق عالم الشرق فيما قيل مرجان القبابي التبريزي الشافعي، وقيل: إنه كان إذا طلع محل درسه نادى مناد في الشوارع من له غرض في حل إشكال فليحضر عند فلان. قال: ووقفت له على تفسير عدة آيات على طريقة نجم الدين الكبرى في تفسيره. قال: وعنده اطلاع. ثم ذكر ابن طولون أنه سافر راجعاً إلى بلاده من دمشق في يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وودعه ناظر النظار الكمال، وجماعة إلى نحو القطيفة.
محب الدين التبريزي:
محب الدين ويقال: محب الله التبريزي. رحل من بلاده إلى بلاد الشام، وحج منها وجاور، ثم عاد إليها ومكث بالتكية السليمية بسفح قاسيون لمزيد شغفه بالشيخ محيي الدين بن العربي، واعتقاده فيه، وكثرة تعلقه بكلامه، وحله وتشديده النكير على من ينكر عليه، وصار يقرأ عليه بها جماعة في التفسير وغيره، وكان يجمع إلى تفسير الآية تأويلها على طريقة القوم، ويورد على تأويلها ما يحضره من كلام المثنوي، وكانت وفاته بدمشق سنة ثمان وخمسين وتسعمائة. رحمه الله تعالى واسعة.
محمد بن عبد الكريم بن علي التبريزي:
سافر مع أبيه للتجارة وأقام بحلب، وسمع من ابن رواحة، وقال: سمعت بها من بهاء الدين بن شداد. وكمل القراءات سنة خمس وثلاثين وست مئة على السخاوي إفراداً وجمعاً، وتلا بحرف أبي عمرو بالثغر على أبي القاسم الصفراوي، وبمصر على ابن الرماح. وتلا به ختماً على المنتخب الهمذاني.
ثم استوطن دمشق وأم بمسجد وأقرأ بحلقة، وكان ساكناً متواضعاً كثير التلاوة. قرأ عليه شيخنا الذهبي لأبي عمرو، وسمع منه ” حرز الأماني ” بقراءة ابن منتاب. وتوفي – رحمه الله تعالى – يوم الأربعاء سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وسبع مئة. ومولده بتبريز سنة ثلاث عشرة وست مئة. (أعيان العصروأعوان النصر)
أبو طالب التبريزي:
عبد الوهاب بن يعمر بن الحسن بن المظفر، أبو طالب، الكاتب، من أهل تبريز. كان أبوه وجده وزيرين؛ وكان حسن الخط والبلاغة. له ديوان شعر ورسائل؛ منها رسالة تسمى كنية الفار، وأخرى تسمى سطور الطور، وأخرى تسمى الواقية الباقية.
ومن شعره:
تبارك خالق هذا القمر … وسبحان من بهواه أمر
سترت غرامي به فانجلى … وغيضت دمعي له فانهمر
وقامرته قلبي المبتلى … فما زال يلعب حتى قمر
فهجرانه لي ووجدي به … على ألسن الناس صار سمر
(الوافي في الوفيات).
مجازر الصفويين في تبريز:
يتضح من تقارير مسجلي أحداث الدولة الصفوية المؤيدين لهم بصفة خاصة، أن تبريز هي أولى المدن الإيرانية الهامة التي سقطت في مخالب هؤلاء الوحوش حيث اعتبر الصفويون أنفسهم ملوك إيران بعد سقوط تبريز.
وقد تم استيلاءهم على هذه المدينة بالمكر والنفاق، فدخلوا تبريزمن غير أن تصدر مقاومة من قبل أهلها، وقد جرى العرف قديما وحديثا بين الأقوام والشعوب أن أي مدينة تفتح بالمصالحة يسلم أهلها وأموال أهلها من التعرض والتعدي من ناحية المهاجمين. ولقد التزم كبار مرتكبي الجرائم والجنايات على المستوى العالمي أمثال جنكيز وهولاكو بهذا الأصل، لكن ماذا فعل الصفويون بأهل تبريز بعد ما استولوا على أرضهم بالمكر والنفاق والتزوير؟
اقتحم الصفويون مدينة تبريز يوم الجمعة وكان عدد سكان هذه المدينة آنذاك يبلغ مائتي ألف كلهم من أهل السنة يتكلمون بالأذرية التي هي إحدى اللهجات الفارسية القديمة، فدخل الشاه إسماعيل الصفوي الجامع وصعد المنبر وأتباعه من القزلباشية واقفون في صفوف المصلين بسيوفهم المسلولة دون أن يستأذن في ذلك كبار علماء تبريز الذين كانوا قد تجمعوا في الجامع، وخاطب الحاضرين في الجامع قائلا: تبرئوا من أهل السنة والجماعة والعنوا أبابكر وعمر وعثمان حسب ما ذكره رواة الصفويين ومداحوهم. فبادر أتباع الشاه اسمعيل باللعن والسب وقالوا في لعنهم: “بيش باد وكم مباد” يعني يزداد هذا اللعن ولا ينقص”. (عالم آراي صفوي)
فوجئ المصلون متحيرين بسماعهم هذه العبارة. كيف يمكن أن يرتكب شخص وهو يحسب نفسه من أولاد شخصية كبيرة مثل الشيخ صفي الدين الأردبيلي مثل هذه الإساءة والجريمة الكبرى بالنسبة إلى زوجة النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين! فلما ضاق الناس ذرعا بالنسبة إلى إساءات هذا الفتى الأحمق ولم يكونوا قادرين على منعه، جعلوا أصابعهم في أذانهم وأراد عدد من كبار العلماء الخروج من الجامع فتحركوا من مواضعهم، فوضع الشاه سيفه على رؤوسهم وأمرهم بالتبرئ . (عالم آراي صفوي 65)
ولما لم يمتثل أمر الشاه أحد من المصلين أذن لأتباعه القائمين بالسيوف داخل الصفوف بإراقة الدماء وضرب أعناق الجميع، وتبدل الجامع إلى مجزرة كبيرة ولم ينج أحد من مخالب الصفويين. واعتقل في اليوم الثاني جميع العلماء والفقهاء وأئمة المساجد والمؤذنين والقضاة من جانب الصفويين ليتوبوا، وأكرهوا على التبرئ من أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، ولعنِهم وسبِهم، وحكم بقتل كل من يمتنع عن ذلك، بحيث قتل في بضعة أيام عشرون ألفا من أهل تبريز. (سفرنامه هاي ونيزيان در ايران310)
يكتب أحد مسجلى أحداث شتاء سنة 880 من الهجرة: “قام الصفويون إلى تخريب المباني الدينية والمذهبية من المساجد والمدارس وقاموا أيضا إلى تخريب الأجزاء التي كانت تحكي عن مقدسات أهل السنة، كما فعلوا ذلك بأجزاء من الجامع العظيم في تبريز المشهور بمسجد كبود وكان يعد من المآثر الفخرية في تبريز. وهدموا جميع المدارس والأماكن المذهبية وسووها بالتراب وطمسوا جميع المعالم الدينية. وقاموا ايضا بإخراج رفات أجساد الكثيرين من الأولياء المنتمين إلى أهل السنة من المقابر ونثروها وأحرقوا أجساد الكثيرين من العلماء والشخصيات ونثروا رمادها في الشوارع ليطئها المارة وليأخذوا بذلك حسب معتقدهم ثأر الدماء المهراقة في الكوفة وكربلاء. (عالم آراي صفوي54)
ولما فرغ الصفويون عن تصفية السنة بالقتل والتهجير وتخريب المدراس والمساجد، توجهوا نحو سائر بلاد آذربيجان وفعلوا بأهلها الذين كان غالبيتهم من الشوافع ما فعلوا بأهل تبريز، وساد الظلام والضلال على تبريز وغيرها من مدن ولاية أذربيجان، ولم يبق منها إلا الخراب.
تعليقات