في غضون الأزمات المالية المتتالية التي نزلت بدول اقتصادية كبری في عالمنا المعاصر غشيا فرح وسرور بأنها ستكون عيدا لفقراء العالم الذين عانوا من الأنظمة الاقتصادية الغاشمة الشرقية الشيوعية في وقت من الزمن والغربية الرأسمالية في العصر الحاضر؛ ولكن هناك أزمات غير هذه التي مرت بنا ذكرها، هي ليست أقل خطورة من الأزمات الاقتصادية المالية والعقارية العالمية في السنوات الأخيرة، وهي أزمة الفقر والمجاعات وانتشار البطالة، وهذه الثلاث من المشاكل التي تمتاز من بين سائر الأزمات بصفة وهي العمومية والشمول، وإن كان بعضها ينشأ عن بعض أو يستلزم البعض؛ فإن المجاعات التي توجهت نحو كثير من البلاد الشرقية لا تميز بين بلد دون بلد، ولا اقليم دون اقليم، ولا تميزأيضا بين بلد فقير وغني، ولا بين رئيس ومرئوس، ولابين حاكم ومحكوم. وكذلك البطالة، فهي ظاهرة تتزايد يوميا في بعض البلدان الإسلامية وخاصة البلاد التي تتمتع بكثافة سكانية أو بازدياد عدد سكانها.
إن أسباب وعوامل المجاعات والقحوط التي أحاطت بهذه البلاد منذ سنوات عديدة لا شك أن البشر ظل غير قادر علی إدراك أسبابها الحقيقية، بينما الذي يتضح لنا من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة الصالحين من سلفنا أن فشو المعاصي والآثام مثل الربا والزنا وغير ذلك هي في الواقع أسباب رئيسية تستلزم المجاعة والقحط والجدب وعدم نزول الأمطار وغير ذلك من خيرات السماء، ولكن انتشار البطالة في مجتمع أومنطقة أو اقليم أو قارة لها من الأسباب والعوامل الواضحة يعرفها كل زائر لمثل هذه المناطق وناظر في شئونها وأحوالها وأوضاعها، وهذه العوامل والأسباب إما داخلية ذاتية وإما خارجية أجنبية مفروضة. ومن أهم الأسباب الداخلية طبيعة النظام السياسي والاقتصادي السائد في بلد ما. فالنّظام الجائر لا يشعر فيه المواطن بالأمن والاطمئنان إلى عدالة تحميه من الظلم والعسف وضياع حقوقه المعنوية والمادية، ويستفحل الأمر إذا تضاعف العامل السياسي بعامل اقتصادي يتمثل في انفراد الحكم وأذياله بالثروة بالطرق غير المشروعة نتيجة استشراء الفساد الإداري والمحسوبية، فيتعاضد الاستبداد السياسي بالاستبداد الاقتصادي والاجتماعي، وهي من الحالات التي تتسبب في اتساع رقعة الفقر، حتى عندما يكون البلد زاخرا بالثروات الطبيعية كما حدث ويحدث في عدة بلدان إفريقية أو في أمريكا اللاتينية، هذا فضلا عن الحروب الأهلية والاضطرابات وانعدام الأمن.
وبالنسبة إلى الأسباب الخارجية فهي متعددة وكثيرة ولكن من أكثرها ظهورا في عصرنا هو الاحتلال الأجنبي كما حدث في العراق أخيرا بعد حصار دام أكثر من عقد تسبب في تفقير شعب بأكمله رغم ثرواته النفطية وكما حدث في أفغانستان. ويتعقد الأمر كثيرا إذا كان الاحتلال استيطانيا كما في فلسطين حيث تتدهور حالة الشعب الفلسطيني يوما بعد يوم وتتسع فيه رقعة الفقر نتيجة إرهاب الدولة الصهيونية وتدميرها المتواصل للبنية التحتية وهدم المنازل وتجريف الأراضي الفلاحية فتتحول مئات العائلات بين يوم وليلة من الكفاف إلى الفقر المدقع.
ليست أسباب الفقر والبطالة سواسية في جميع الدول والمناطق والبلاد، بل هي تختلف في دولة دون دولة، وأود بعد هذه الفكرة أن أذهب بخاطركم إلى إقليم بلوشستان الغربية الذي يقع في الجنوب الشرقي من إايران، وتبلغ مساحته 181578 كيلومتر مربع، ويشكل ما نسبته واحد فاصلة تسعة في المئة من مساحة إيران؛ فهي أكبر المحافظات الإيرانية مساحة وسعة. وحسب الاحصائية الرسمية التي أجريت في عام 2003م يبلغ عدد سكان الإقليم أكثر من 2151568 نسمة غالبيتهم من أهل السنة والجماعة.
و تعد أجواء هذا الإقليم صحراوية جافة تتراوح درجة الحرارة في أغلب مدنه ما بين الأربعين والخمسين درجة مئوية. كما تجري فيه أربعة أنهار، ويتمتع بحدود مائية مع بحرعمان طولها 300 كيلومتر، وحدود برية مع باكستان وأفغانستان بطول 978 كيلومتر. و ميناء ‘جابهار’ الذي يعد واحدا من أهم الموانئ الإيرانية التجارية والعسكرية في المنطقة المطلة على بحر عُمان يقع في جنوب إقليم بلوشستان. ولكن على الرغم من هذه الأهمية الجغرافية والاقتصادية التي يتمتع فيها الإقليم إلا أنه بقي ومنذ أكثر من مائة عاما تقريبا من أفقر الأقاليم الإيرانية، حيث لاقى إهمالا متعمدا من قبل الحكومات في الماضي القريب، وبعد ما انتصرت الثورة في إيران سنة 1979 وسقط النظام البهلوي وقد ساهم البلوش كغيرهم من الشعوب الإيرانية الأخرى في إسقاط هذا النظام، حظيت هذه المناطق بشئ ضئيل من الاهتمام من قبل الحكومة في مجالات المشاريع العمرانية، ولكن على الرغم من مضي قرابة ثلاثة عقود على انتصار الثورة إلا أن مظاهر الفقر والتخلف والبطالة والحرمان لا زالت تطغى على الواجهة في بلوشستان، وهي تطلب خاصة من الحكومة المركزية أن لا تكتفي بتنفيذ عدد من المخططات العمرانية بل ترفع خطوات أساسية لرفع سمة المحرومية من وجه هذه المحافظة بدراسة المحافظة دراسة تشمل جميع جوانبها من الموقع الجغرافي الذي تنفرد بها هذه المناطق ودراسة طبائع أهلها وعاداتهم، وفوق كل ذلك الحفاظ على حرمة معتقداتهم و مشاعرهم الدينية، ولا تتركها لعناصر لا يفكرون إلا في الحصول على منافعهم الذاتية والطائفية ولو كان ذلك بقيمة انعدام الأمن وحرمان محافظة من كافة حقوقها الابتدائية.
فإقليم بهذه السعة والجمعية السكانية لم يكن يمتلك حتى قبل عشرة أعوام سوى 1585معملا ومصنعا صغيرا لا تضم سوى 12080عاملا فقط. فأغلب أهل المحافظة من الجنوب إلى الشمال يعملون بالمهن الحرة كالزراعة والنسيج في المناطق المركزية وبناء السفن الخشبية وغيرها في الجنوب والتجارة في مناطق شمالها.
والزائر لمختلف مناطق بلوشستان كـثيرا ما يلاحظ الأحوال السيئة والأوضاع المعيشية المتردية التي يعيشها أهل هذه المناطق حيث افتقر الكثيرون من أهل القرى والأرياف إلى ما يسد رمقهم ويحميهم من غائلة الجوع. والمشكلة الأخرى التي يعاني منها سكان هذه الحدود هي مافيا المخدرات فيها؛ فبحكم وقوع الإقليم في منطقة المثلث الإيراني الباكستاني الأفغاني الذي تحيطه الجبال من الشرق والشمال فقد أصبح ممرا ومرتعا خصبا لمافيا المخدرات التي تدار بإشراف منظمات إقليمية كبيرة منذ زمن، ولكن الذي زاد الطين بلة في السنوات الأخيرة والذي ساعد على ازدياد جماعات تهريب المخدرات هو انتشار البطالة بشكل ملحوظ، فالبطالة قد مست بلوشستان وخاصة مدينة زاهدان وما حولها مسا عنيفا بعد إغلاق الحدود وتحديد التجارة وتحديد تبادل السلع من طريق هذه النواحي الحدودية من جانب الدولة تحت عنوان مكافحة الأشراروالإرهاب إثر سلسلة من القضايا التي أفقدت المحافظة أمنها، فهذه التحديدات والموانع لا يستطيع مجاوزتها إلا الأغنياء ومن له كلمة مسموعة في الدوائر الحكومية، أما العامة فيبقون معطلين ومشردين عن طرق يلتمسون منها لقمة عيشهم. ومن الطبيعي إذن أن الذي لم يتيسر له العمل ولم تتأمن له طرق الكسب ولم يجد من المال ما يسد به جوعه وجوع أهله وأولاده ويؤمن لهم حاجاتهم الضرورية ومطالبهم الحيوية أن يفكر في الحصول على المال وجمعه عن طريق حرام ومن وسائل غير مشروعة كالسرقة وغيرها، وستحل الفوضى في المجتمع، وسيصاب بالدمار والانهيار، وربما الأسرة بأفرادها ستتعرض للتشرد والضياع إلا من تداركه الله، وإن الأولاد سيدرجون نحو الانحراف والإجرام لا سمح الله. لأجل ذلك يأتي على رأس نشاطات المعنيين بقضايا الأمة الإسلامية وخاصة العلماء والدعاة أن يفكروا جادين في القضاء على البطالة والفقر من هذه المنطقة بمكافحة جميع العوامل والأسباب الداخلية أو الخارجية التي أدت إلى نشوء وطغيان هذه الظاهرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليقات