عاش السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله حياة حافلة بالجهاد والإجتهاد ، والدعوة والكفاح ، وما يهم المسلمين في واقعهم ، ونذر نفسه لذكر ولم يشغله عن هذه الوظيفة زوجة و لا ولد ، فلم يتزوج أصلاً ، ولم يشغله وطن ، فكأن وطنه الإسلام ودياره خاصة ، ولاتليهه تجارة ولابيع ولامال ، فلم يملك من الدنيا شيئاً .
**************************************
**************************************الكاتب: عبدالناصر الأميني
مقدمة :
الحمد لله رب العالمين وصلی الله علی سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين وبعد :
فقد أكمل الله تعالی الإسلام ، ورضيه للناس ديناً ، وختم النبوة برسالة محمد صلی الله عليه وسلم وانقطع وحي السماء ، وجعل هذا الدين خاتم الشرائع والأديان ، وأنه صالح لكل زمان ومكان وسخر العلماء في كل عصر لحمله والتذكير به ، والدعوة إليه ، فكان علماء المسلمين مشاعل النور ، تضيء للناس طريق الخير والصلاح ويشع نورهم علی إمتداد الأجيال والعصور .
وقد إمتلأت صفحات التاريخ الإسلامي بالعلماء الأعلام الذين حملوا الإسلام ، وبلغوه للناس ، ومن هؤلاء العلماء والدعاة والمصلحين ، السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله الذي يعتبر من أعظم دعاة الإصلاح الديني في هذه الآونة ، وكان حكيم الشرق ، وفيلسوف الإسلام وباعث النهضة الفكرية ومحرك الثورة ضد المستعمرين ، والداعي إلی الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب .
حياته :
ولد جمال الدين الأفغاني سنة 1254 من الهجرة النبوية الشريفة ، المصادف لعام 1838 ميلادية في قرية « اسد آباد » احدی القری التابعة لـ « كنر» من اعمال كابل عاصمة افغانستان الإسلامية .
اسمه : محمد بن صفدر ، وعرف بالسيد لنسبه الشريف إلی سيدنا الحسين بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهما.
عني والده بتربيته ، تربية إسلامية عالية وتعليمه علی ما جری عليه عادة الأمراء والعلماء في بلاده .
كان السيد الأفغاني ذاقوة في الفطرة ، ظهرت عليه علامات النبوغ والعبقرية والشجاعة منذ الصغر. تعلم العربية وعلومها والفارسية ، إضافة إلي الأفغانية ودرس علوم القرآن واالحديث والفقه وأصوله والتاريخ والمنطق والفلسفة والرياضيات وبعض نظريات الطب علی كبار الأساتذة في تلك البلاد . وكان السيد الأفغاني عارفاً باللغات السنسكريتية والتركية وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية وإذا تكلم بالعربية فلغته الفصحی ، وكان واسع الإطلاع علی العلوم المختلفة ، والثقافات المتعددة وعارفاً بالحضارات وكان كريم الأخلاق وداعياً بالسر والعلن لإصلاح الشعب والحكام والعودة إلی الإسلام .
رحلاته :
سافر جمال الدين الأفغاني رحمه الله إلی الهند وبقي فيها حوالي سنتين ، ودرس في أثنائها العلوم الحديثة ، فاتسعت آفاق فكره ، ومن الهند سافر لأداء فريضة الحج في موسم 1273 هـ ق .
وعندما عاد إلی بلاد الأفغان عين في مجلس وزراء حكومة الأمير « دوست محمد خان » وبعد موت الأمير جاء بعده ولي عهده « شير علي خان » سنة 1280هـ ق . وعندما وقع الشقاق بين شيرعلي وإخوته انضم جمال الدين إلی محمد أعظم أحد الإخوة الثلاثة لما وجد فيه من الخير وحب الصلاح .
ولما انتصر هذا الأخير عظمت عنده منزلة الأفغاني فعينه رئيساً لوزرائه .
وعندما استطاع « شير علي » بمعاونة الإستعمار الإنجليزي ان يرجع إلی الحكم تزعزعت مكانة السيد ، ولكن الأمير لم يستطع التعرض له احتراماً لمكانته العلمية والسياسية ومكانة أسرته وعشيرته .
وقد أثر هذا الصراع تأثيراً كبيراً في الأفغاني رحمه الله واطلعه علی دسائس المستعمرين ومؤامراتهم للسيطرة علی العالم الإسلامي ، الأمر الذي بذر في نفسه كره الإستعمار الإنجليزي والدعوة إلی مقاومته بكل الوسائل طوال حياته .
رحل جمال لدين إلی الهند عندما وجد أن « شير علي » يدبر له المكائد ، وكانت شهرته قد سبقته إلی تلك الديار ،لماعرف عنه من العلم والحكمة والإشتغال بالسياسة والمقاومة أمام السياسات الإستعمارية في الشرق الإسلامي.
وقد التف حوله العلماء والفضلاء وطلاب العلم ، فبدأ يبعث فيهم روح العزة والكرامة والشعور بالذات ويذكرهم بأمجادهم ويحذرهم من الإستعمار ومكائده .
ولما علم الإنجليز أن وجوده أصبح خطراً في الهند ، حملوه إلی احدی السفن الذاهبة إلی مدينة السويس بمصر بخلاف رغبة السيد الأفغاني الذي كان يريد الذهاب إلی الحج .
وصل السيد إلی القاهرة في أواخر سنة 1286 هـ ق فأقام فيها حوالي أربعين يوماً . وخرج من مصر وسافر إلی استانبول ورحب به رجالات الدولة العثمانية وعلی رأسهم « علي باشا » الصدر الأعظم ، الذي كان من أفاضل الساسة العارفين بمواضع الرجال ، فأراد الإستفادة من فكره وحكمته ، فعينه عضواً في مجلس المعارف ؛ وظهر آراء الأفغاني في التربية والتعليم و وجوب تغييرها وإصلاحها .
رحل السيد الأفغاني رحمه الله مراراً إلی مصر و باريس وإيران وروسيا ولندن .
مجلة العروة الوثقی :
عندما إستقر جمال الدين في باريس أنشأ مجلة فكرية سياسية سماها بـ « العروة الوثقی » وكانت تهدف هذه المجلة إلی ما يلي :
1- إعادة عزة الإسلام ومجده وتطهير عقائده وشرائعه مما علق بها من الشوائب والإنحرافات عبر القرون ولايكون ذلك إلا بعودة المسلمين إلي سيرة السلف الصالح .
2- إتخاذ الإسلام لبناء حضارة الإسلام من جديد .
3- دعوة المسلمين إلی الإتحاد والتضامن ، حتی يدرأوا عن أنفسهم خطر الإستعمار الأروبي الذي كان يخطط للزحف علی العالم الإسلامي يومئذ .
4- بث الحماسة الإسلامية والغيرة الدينية بين المسلمين .
وقد صدر العدد الأول في 5 جمادي الأولی سنة 1301 هـ ( 12 مارس سنة 1884 م ) وصدر من المجلة ثمانية عشر عدداً ثم احتجبت عن الظهور في شهر ذي الحجة عام 1301 بسبب محاربة الإنجليزالشديدة لها .
الدعوة إلی وحدة العالم الإسلامي :
لقد وصل المسلمون في القرن التاسع عشر إلی حالة من التمزق والتقاطع ، بحيث اسلمتهم إلی الدول الإستعمارية التي استولت علی أجزاء كبيرة من بلادهم وكان هذا الوضع بحاجة ماسة إلی رجل مؤمن شجاع ، غزير العلم ، نافذ البصيرة ، عميق الغور في فهم الحياة والتاريخ ، عليم بتعاليم الإسلام ، لايخاف في الله لومة لائم ، ينزل إلی الميدان ، يوقظ المسلمين من سباتهم وينفخ في عروقهم روح الوحدة والمحبة والأخوة ويذكرهم بأنهم أمة واحدة ، وكان هذا الرجل هو جمال الدين رحمه الله ، فلقد مضی حياته في سبيل هذا الهدف ومن أجل الدعوة اليه .
ولو راجعنا رسائله ومقالاته وخطبه وجدنا انه يدعو إلی ذلك بوضوح ، ففي مقالته «الجنسية والديانة الإسلامية» يتحدث عن وحدة المسلمين ويؤكد إلی أن رابطة الإسلام هي أعظم الروابط ، بها قامت الأمة الإسلامية وحضارتها في التاريخ .
ويقول : لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً فان هذا ربما يكون عسيراً ، ولكن ارجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن ، و وجهة وحدتهم الدين ، وكل ذي ملك يسعی بجهده لحفظ الآخر ما استطاع فإن حياته بحياته وبقائه ببقائه .
ولقد كرر الأفغاني هذه المعاني بصدق وحماسة منقطعة النظير في كل ما كتب .
الخاتمة :
عاش السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله حياة حافلة بالجهاد والإجتهاد ، والدعوة والكفاح ، وما يهم المسلمين في واقعهم ، ونذر نفسه لذكر ولم يشغله عن هذه الوظيفة زوجة ولاولد ، فلم يتزوج أصلاً ، ولم يشغله وطن ، فكأن وطنه الإسلام ودياره خاصة ، ولاتليهه تجارة ولابيع ولامال ، فلم يملك من الدنيا شيئاً ، وكان زاهداً بها وكان يكتفي بملابسه التي يلبسها ، وطاف البلاد الإسلامية ليتعرف علی أمراضها ومشاكلها ، وانبری بلسانه وقلمه وجسمه لوصف الدواء ، وايجاد الحل المناسب ومعالجة المشكلات .
وتوفي السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله سنة 1314 هـ / 1897 م ، رحم الله السيد جمال الدين رحمة واسعة ، واسبغ عليه شآبيب رحمته ، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ، ونفعنا بعلمه وآرائه وفكره ، وعوض المسلمين خيراً والحمد لله رب العالمين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليقات