يعدّ العلامة أبو الحسن الندوي، المفكر الهندي الشهير، من أولئك الدعاة العظماء الذين كان قد رفع صوته عاليا ضد النعرات القومية والعصبيات الدموية والجنسية والوطنية، واصفا إياها بالنزعات والمباديء الجاهلية التي حاربها الإسلام بكل وضوح، ويجب أن يحاربها المسلمون في هذا العصر. فيقول رحمه الله في كتابه “ردة ولا أبابكر لها”:
“هنالك نزعات جاهلية ومبادئ جاهلية حاربها الإسلام بكل وضوح وحاربها الرسول بكل قوة، كالعصبية الجاهلية التي تقوم على وحدة الدم أو الوطن أو الجنس، وتمجد هذه العصبية وتبالغ في تقديسها والدفاع عنها والقتال تحت رأيتها وتوزيع المجتمع الإنساني على أساسها حتى تصبح ديانة وعقيدة، وتسيطر على العقول والنفوس والأرواح والآداب وتكون هي المعرفة للحياة، ولا شك أنها في عمقها ورسوخها وقوتها وشمولها تنافس الأديان وتستعبد الإنسان، وتحبط مساعي الأنبياء وتحدد الدين الذي جاء ليحكم على الحياة في العبادات والطقوس، وتقسم العالم الإنساني إلى معسكرات متحاربة والأمة التي قال الله عنها: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} في أمم كثيرة.
ثم يتطرق العلامة الندوي رحمه الله إلى بيان أسباب محاربة الإسلام لهذه العصبيات، فيضيف قائلا:
لقد حارب الرسول هذه العصبية الجاهلية بكل قوة ومن غير هوادة وأنذر منها وسد منافذها، فلا بقاء للدين العالمي ولا بقاء للأمة الواحدة مع هذه العصبيات، ومصادر الشريعة الإسلامية زاخرة بإنكارها وتشنيعها، والنصوص في ذلك أكثر من أن تستقصى وهذا الذي يعرف بداهة من الإسلام والذي عرف طبيعة الإسلام بل عرف الإسلام بل عرف طبيعة الأديان عرف أنها لا تسيغ هذه العصبيات، ومن درس التاريخ متجردا من الميول والمذاهب السياسية عرف أنها لم تزل ولا تزال من أقوى عوامل الهدم والتخريب والإفساد والتفريق بين الإنسان والإنسان، والمعقول المنتظر من الإنسان الذي جاء ليوحد العالم ويجمع النوع الإنساني تحت راية واحدة وعلى عقيدة واحدة ويكون مجتمعا جديدا قائما على الدين وعلى الإيمان برب العالمين ويبسط الأمن والسلام وينشر الحب والوئام بين أعضاء الأسرة الإنسانية ويجعلها جسدا واحدا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، من المعقول جدا من هذا الإنسان أن يحارب هذه العصبيات بكل وضوح وصراحة ويجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.
كما يشير رحمه الله إلى اندفاع الشعوب الإسلامية إلى إحياء هذه العصبيات في عصرنا والتحمس لرأياتها، فيستطرد قائلا:
ولكن العالم الإسلامي أصبح بعد ما غزته أوروبا سياسيا وثقافيا، يخضع لهذه العصبيات الدموية والجنسية والوطنية ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقية مقررة وواقع لا مفر منه، وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعا غريبا إلى إحياء هذه العصبيات التي أماتها الإسلام والتغني بها وإحياء شعائرها والافتخار بعهدها الذي تقدم على الإسلام، وهو الذي يلح الإسلام على تسميته بالجاهلية وليس في معجمه تعبير أهول وأفظع منها، ويمن القرآن على المسلمين بالخروج عنها ويحثهم على شكر هذه النعمة التي لا نعمة أعظم منها: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}، {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}، {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم}.
وأشار رحمه الله إلى الموقف الذي يجب أن يتخذه المسلم المؤمن الصادق المعاصر تجاه هذا الاندفاع الأعمى لإحياء الجاهلية من جديد، فيقول:
والطبيعي من المؤمن أن لا يذكر جاهلية تقادم عهدها أو قارب إلا بمقت وكراهية وامتعاض واقشعرار، وهل يذكر السجين المعذب الذي أطلق سراحه أيام اعتقاله وتعذيبه وامتهانه إلا وعرته قشعريرة وثارت الذكريات الأليمة القاتمة! وهل يذكر البريء من علة شديدة طويلة أشرف منها على الموت أيام سقمه إلا وانكشف باله وامتقع لونه، وهل يذكر الإنسان رؤيا فظيعة مفزعة رآها إلا وشكر على أنها حلم زائل وهمّ راحل، والجاهلية التي تجمع معاني الجهل والضلالة والبعد عن الحقائق وأنواع الخطر والمضار في الدنيا والآخرة أعظم من كل ذلك وجديرة بأن يثير ذكراها المقت الشديد وتحث على الشكر على التخلص منها وانقضاء أيامها ولذلك جاء في الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».
وقد ذم الله شعائر الجاهلية وأبطالها وعظمائها في غير رفق وتحفظ فقال: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}، ويقول: {وما أمر فرعون برشيد، يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود، وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود}.
تعليقات