اليوم :3 December 2024

من هدي السلف في رمضان

من هدي السلف في رمضان

رمضان موسم الخيرات والبركات، واغتنام الفرص والساعات، شهر البر والمواساة، شهر الرياضة الروحية للمسلمين، يُكثرون فيه من الصلوات والصدقات وتلاوة القرآن الكريم.
وكان سلف هذه الأمة على علم ويقين من أن الصوم فيه الفلاح والسعادة، وبه يكتسب ملكة الحكم عليها، فيحفظها من أكثر الأسقام التي تنشأ عن التمادي في الشهوات، ويتبع هذا حفظ العِرض والمال، وهم على علم بأن النور الروحاني الذي يورثه الصوم بمراقبة الله تعالى والرغبة في مرضاته وزلفاه يهذب النفس ويزكيها ويطهرها من الأدناس والأرجاس. فنجدهم – من أول هذه الأمة وفي العصور المتأخرة – يغتنمون هذه الفرصة الربانية، ويستغلون هذه المنحة الإلهية فيشغلون أوقاتهم كلها في رمضان فيما يرضي الله تعالى ويحبه. ونستعرض عمل السلف في هذا الشهر الفضيل، وكيف كانوا يقضونه في عبادة الله وقراءة القرآن والذكر والمناجاة والابتهال والتمسكن والتخشع والتضرع إليه عسى أن ييسر سبحانه عسر هذه الأمة، ويسهل أمرها، ويصلح شأنها، ويمنحها معونته ونصره.
فهذا، الإمام محمد قاسم النانوتوي العالم الهندي الفريد مؤسس جامعة دارالعلوم/ديوبند (1248-1297هـ/1832-1880م) اشتهر عنه أنه حفظ القرآن الكريم خلال رحلته إلى الحجاز في شهر رمضان عام 1277هـ، و كان يستظهر كل يوم جزءًا يقرأه في التراويح والناس وراءه مستمعون. ويقول الشيخ محمد يعقوب النانوتوي (1249-1302هـ/1833-1884م) في ترجمته: «أقلتنا سفينة شراعية من «كراتشي»عند توجهنا إلى «مكة»، واستهل شهر رمضان، فأخذ «حضرة الشيخ» يستظهر القرآن ويقرؤه في قيام الليل في السفينة، والناس من ورائه يستمعون، وسادته حالة عجيبة مادام على متن السفينة، دخلنا مكلة بعد العيد فاشترى «حضرة الشيخ» حلوى مسقط، ووزعها بين أصحابه بختمة القرآن الكريم في قيام الليل، ولم يكن اشتهر بعد أنه مستظهر للقرآن الكريم، وظل يقرؤه بصوت خافت، ويجمعه ويحفظه، خلافًا لما تقرر لدى حفظة القرآن الكريم أن الجهر بالقراءة مدعاة لتمكنه من القلب. وكان يذكر فيما بعد أنه حفظ القرآن الكريم وجمعه بما قرأه خلال شهر رمضان عامين متوالين، وكان من ديدنه ألا يزيد في الاستظهار في مجلس واحد – على ربع جزء أو يزيد عليه قليلا.
هذا، وإذا رأيته يقرأ في قيام الليل، والناس وراءه قيام، رأيته مَرِسًا متمكنًا مـن حفظـه، لا يتلعثم ولايتردد في قراءته؛ بل يتدفق كالسيل. ثم أصبح يكثر من قراءته، ويطيل قيامه، ولا أنسى أنه قرأ سبعة وعشرين جزءًا في ركعة واحدةٍ، فإذا أحس بأحد يأتم به ركع ونهاه عن ذلك، وقام الليل كله لنفسه(1).
وكان الشيخ إمداد الله المهاجر المكي (1233- 1317هـ/1817-1899م) لا ينام في ليالي رمضان فكان يقرأ عليه الشابان: أحدهما الحافظ يوسف بن حافظ ضامن وثانيهما: الحافظ أحمد حسين كل واحد منهما جزءًا وربعًا إلى صلاة العشاء، ويقرأ عليه القرآن بعد العشاء قارئان ثم يخلفهما قارئ غيرهما يقوم إلى نصف الليل، ثم يقوم معه قارئ آخر في صلاة التهجد، وهكذا ينقضي الليل كله –والشيخ يستمع – في القراءة عليه والتلاوة!(2).
وكان الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي (1244-1323هـ/1829-1905م) بلغ من الإكثار من العبادة وهو في السبعين من عمره أن كان يصوم النهار في رمضان ثم يصلي الأوابين عشرين ركعة بعد المغرب، يقرأ فيها مالايقل عن جزأين من القرآن الكريم، ثم لا تسأل عن ركوعه وسجوده؛ فقد كان يطيلهما حتى يظن الظان أنه ذهل، فإذا سلم توجه إلى بيته، ليمكث فيه قليلًا حتى يتعشى. وكان يقرأ خلال ذلك أجزاءً من القرآن الكريم، ثم يصلي العشاء و التراويح التي تستغرق ساعة أو ساعة وربع ساعةٍ على أقل تقدير، فإذا فرغ منها أوى إلى فراشه وأخذ قسطًا من الراحة في الساعة العاشرة والنصف، أو الحادية عشرة، ليستيقظ الساعة الثانية ولا يتخلف عنه، و ربما نهض الساعة الواحدة ليلا، ويتوضأ ثم يشتغل في صلاة التهجد لساعتين وثلاث ساعات، وربما استمر على ذلك حتى الساعة الخامسة قبيل الفجر. ثم يصلي الفجر في وقتها ويستمر جالسًا في مكانه في ذكر الله تعالى وتسبيحه وتحميده وثم يصلي الإشراق في وقته، فإذا سلم أخذ قسطًا من الراحة، فإذا به بريد ذلك اليوم، فيردّ على الخطابات ويملي الإجابات عن الاستفتاءات الواردة إليه، ثم يصلي الضحى، ويستريح قليلًا. فإذا صلى الظهر أغلق باب غرفته دون الناس، يشتغل بتلاوة القرآن الكريم حتى يدخل العصر.
وهذا الحرص على عبادة الله تعالى وابتغاء مرضاته رغم بلوغه الكبر، وما أصيب به من الضعف و وجع الورك. وكان يعاني معاناة شديدة في التوجه إلى الحمام الذي لم يكن يبعد عن حجرته إلا بضع عشرة قدما. و ربما جلس في طريقه إليه. ورغم ذلك كله لم يصل التطوع جالسًا فضلًا عن الفريضة، وكان يقوم في التطوع ساعات طوالا. وطالما أراد أحبابه وأصحابه عليه أن يصلي التراويح جالسًا وهو يأبى ذلك عليهم ويقول: أبدًا، لن أفعل ذلك؛ فإنه يشير إلى قصر الهمة. فما أعظمه همة وأشده عزيمة.
وليس يسيرًا أن يحذو المرء في ذلك حذو النبي صلى الله عليه وسلم القائل: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»، مما لا يتأتى إلا بعزيمة صادقة وهمة عالية مثله. وكان يكثر من أنواع العبادات في رمضان، وأما تلاوة القرآن فكان الاشتغال به يزداد بصورة ملموسة، فكان يُقِلّ الكلام مع الناس في تردده إلى البيت، و يقرأ في الصلوات الخمس و خارجها نحو نصف القرآن. وكان يقول لحضور مجلسه في الليلة المتقدمة على أول أيام الصيام: لا مجلس بعد اليوم. و يا للأسف أن يدع المرء شهر رمضان يضيع عليه»(3).
ويقول الشيخ سيد أصغر حسين الديوبندي -رحمه الله- (1294-1364هـ/1877-1944م) في كتابه «سوانح شيخ الهند»: «كان الشيخ- يقصد شيخ الهند محمود حسن الديوبندي (1268-1339هـ/1851-1920م)- يطرأ عليه حالة خاصة، فكان لا يعنيه ليله ونهاره إلا عبادة الله تعالى وحده، وكان يأخذ قسطًا من الراحة في النهار، وأما الليل فكان جله أو كله يقضيه في الاستماع للقرآن الكريم- ولم يكن سَعِدَ الشيخ بحفظ القرآن الكريم عن ظهر القلب- وكان ينصب لتلاوة القرآن عليه عدة حفظة لكتاب الله، فإن كان من تلامذته وأحبائه الوافدين إليه هيأ له طعامه وشرابه، وكفل مصروفه كله، وربما أصر على الشيخ الحافظ محمد أحمد– رئيس الجامعة سابقًا- بتلاوة القرآن الكريم ويستمع له عدة ختمات، وأحيانًا من صاحبه الحافظ أنوار الحق، وحينًا من شقيقه الأصغر محمد محسن، وحينًا من ابن أخته محمد حنيف، وكان الحافظ كفايت الله يقوم بتلاوة القرآن الكريم عليه في أخرياته.ثم ينصرف الشيخ – بعد الفراغ من التراوايح- إلى تذكير الناس بالمواد العلمية وقصص السلف ثم إن وجد سعة اضطجع بعض الدقائق، ثم يشرع في التطوع فيقوم القارئ بجزأين أو أربعة أجزاء من القرآن، وينصرف ويخلفه قارئ آخر ليقوم مع الشيخ ببعض الأجزاء، والشيخ لا يعدم النشاط والرغبة في ذلك، وهكذا دواليك حتى الساعة الثانية أو الثالثة من الليل، وربما إلى وقت السحر.
وأحيانًا كان يصلى الفريضة جماعة في المسجد، ثم يعود إلى البيت ليقوم مع أحبابه لصلاة التراويح فكان القارئ يقوم بأربعة أجزاء أو ستة، وربما عشرة أجزاء كذلك ثم يقوم قارئ آخر بالقرآن في صلاة التطوع معه، وهكذا طوال الليل. وكانت قدماه تتورمان من طول القيام؛ فإذا قلق عليه أصحابه قال والفرح يغمره: لقد سعدت باتباع سيد الأولين والآخرين.
وذات مرة أنهك الإقلال من الطعام والمنام وإطالة القيام جسده وأوهن قواه في رمضان المبارك وتورمت قدماه كثيرًا، وهو يأبى إلا أن يطيل القيام بالقرآن فأشفق عليه أصحابه واحتالوا أن يختصر القارئ القيام. فلما فعل ذلك وسأله الشيخ عن ذلك اعتذر بالثقل على نفسه فرضي الشيخ بذلك؛ فإنه كان يعنى كثيرًا بوضع الناس الصحي.
ويحكي أحد تلامدته الأوفياء وهو شيخ الإسلام حسين أحمد المدني -رحمه الله- (1296-1377هـ/1879-1957م) عمله في رمضان في كتابه الماتع «أسير مالطه»: «وشهد شهر رمضان فوضى وإفلاتًا أمنيًا للغاية، فكان الناس في حرج شديد من تدبير العيش في بياض النهار على ما يريدون، وكانوا لا يتمكنون من التراويح وغيرها من الصلوات في سواد الليل على ما يرغبون، وكان مسجد ابن عباس – رضي الله عنهما – من أعظم المساجد بها، وكان الناس يقرأون في التراويح بـ«ألم تركيف»، وقلما كان يحضره من السكان، وأما عامة الناس فكانوا يقومون الليل في مساجد أحيائهم، وداخلَ بيوتهم؛ إذ كانوا مستهدفين طوال الليل للطلقات النارية من قبل المشاغبين، وبدأ الشيخ–يريد شيخ الهند رحمه الله- الصلاة في مسجد ابن عباس كالمعتاد، إلا أن الطريق إليها كان عرضة للطلقات النارية بشكل مستمر، فكان المرتاد إليه لا يأمن على نفسه، ثم حدث ذات ليلة أن صلينا المغرب وما أن شرعنا في الرواتب وقد أظلم المكان، حتى شن الأعراب هجومًا على المسجد، وكانت كتيبة عسكرية تركية متمركزة على سطح المسجد وعلى بابه، واستمر تبادل النيران من الفريقين مدة طويلة، وأمطروا المسجد بوابل من الرصاصات، ولاذ من كان بداخل المسجد بجانب منه يأمنون فيه على أنفسهم، ولم يتمكنوا من القيام تلك الليلة اللهم إلا عدد من الناس صلوا فريضة العشاء في وقتها في جانب منه، فلما هدأ الوضع رجعوا إلى بيوتهم.
ونظرًا إلى الأوضاع الآنية أصر بعض رفقائه أن يمسك الشيخ عن الخروج لصلاة العشاء إلى مسجد ابن عباس، ويصليها في المسجد بجوار بيته، فكان يصلي الصلوات الخمس فيه….ثم يقوم الشيخ لصلاة التطوع حتى يدخل وقت السحر في المسجد، وكنا – الشيخ «عزير غل» وكاتب هذه السطور- شيخ الإسلام حسين أحمد المدني رحمه الله- نتطوع لوحدنا في المسجد ثم نعود إلى البيت، ونعمل بعض السحور وكان في معظم الأوقات الرز الحلو، وكنا نخلط به العسل لعدم توفر السكر يومئذ (4).

بقلم: أبو فائز القاسمي المباركفوري
المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند / رمضان – شوال 1437 هـ
**************************
الهوامش:
(1) الشيخ محمد يعقوب النانوتوي، الإمام محمد قاسم النانوتوي كما رأيته، تعريب: كاتب هذه السطور، ديوبند: أكاديمية شيخ الهند، ص 74-75.
(2) الشيخ محمد زكريا، «اكابر كا رمضان» (رمضان في حياة السلف) ص 27.
(3) «اكابر كا رمضان» (رمضان في حياة السلف) ص 21.
(4) «اكابر كا رمضان» (رمضان في حياة السلف) ص 31.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات