اليوم :28 March 2024

عندما يضيّق المسلمون صفتهم الواسعة الجامعة!

عندما يضيّق المسلمون صفتهم الواسعة الجامعة!

يقول الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فلما سلم النبي صلى الله عليه و سلم قال للأعرابي “لقد حجرت واسعا”. يريد رحمة الله.  ومعنى حجرت أي ضيقت.
الرواية المذكورة رواها الإمام البخاري في مسنده في “باب رحمة الناس والبهائم”. في الحديث وفي إيراد البخاري هذا الحديث في الباب المذكور درس عظيم لنا معشر المسلمين، إذ نحن بأمس حاجة إليه في العصر الراهن الذي نعاني فيه من التصنيفات الصغيرة  والتسميات الكثيرة التي حجّرت صفتنا  الواسعة الجامعة وهي صفة “المسلمين” صفة الأمة الواحدة. لقد علّمنا رسول الرحمة دروسا مثل الذي ذكره العالم الحبر أميرالمؤمنين في الحديث، الإمام إسماعيل بن محمد البخاري رحمه الله في مسنده الصحيح، في الرحمة والتراحم  والسعة.  ثم نحن نبادر إلى تحجير الواسع  بتسميات مختلفة ما أنزل الله بها من سلطان، مما جعلت أمتنا في حيص وبيص.. ومن أعاجيبنا أن ديننا السمح الحنيف يهتف بنا أن لا نحجر، ويهتف بنا أن نرتقي ولا ننحط، وأن نتوسع في الخيرات والرحمات، ونتفسح في المجالس، ونتبسط في المطاعم، فإذا نحن نعاكس كل ذلك.
“التوسعة”.. و”التفتح”.. و”التفسح” في كل شأن، وإنكار التضييق والتحجير في كل أمر من عزائم الإسلام ومن مقاصده العظمى.. ومنهج الإسلام كله مصبوغ بهذه الصبغة التي تطبع أتباعه بطابع التوسعة والتفسح، وبرفض التضييق والتعسير في الوقت نفسه. ومن ذلك أن الله تعالى “رب العالمين” لا رب قبيلة أو شعب من الناس أو طائفة أو مذهب أوحزب، فهو “رب الناس ملك الناس إله الناس”، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن رسالة رسول الإسلام “رحمة للعالمين”، وأن  القرآن الكريم “هدى للعالمين”، وأن الأرض كلها جعلت مسجدا وطهورا للمصلين، وأن عطاء الله مبذول يسع الناس أجمعين، مؤمنهم وكافرهم. “كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا”. وأن المسلمين – بصفتهم مسلمين – أمة واحدة واسعة، ، لا تضيقها أو تحجرها أسماء وأوصاف لا ترقى إلى صفة “المسلم” في التوسعة والتفسح ورحابة المشروعية وسعة الأفق. لكن  كثيرا من هذه الأمة – في القديم والحديث – قد عدلوا عن السعة التي تمثلها صفة المسلم إلى أوصاف ضيقة هي – بالتأكيد – دون هذه السعة.. نعم! ثمة كثير من المسلمين آثر محدودية السواقي على سعة الأنهار والبحار!!.. . فقد تشققت الأمة إلى فرق وطوائف، ولكل واحدة من هذه فروع وشعب تبلغ العشرات أحيانا.
وفي العصر الحديث ظهرت أوصاف وتسميات أخرى مثل: العلماني، والليبرالي، واليساري، واليميني، والقومي والاشتراكي. وزد إليها مصطلح “الإسلاميين”، وهذا المصطلح باهر لأول وهلة، لكن شتان بينه وبين الوصف القرآني الجامع الواسع وهو وصف “مسلم” أو “مسلمين” في المشروعية والحلاوة والسعة والوحدة الرحيبة الجامعة.
فإن الله عزل وجل قد تولى بعلمه وحكمته تسمية المسلمين: “…هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا…”.
و لما كان هذا الاسم (المسلمون) هو الوصف الأدق والأعلم والأحلى، فقد سمى الله جل ثناؤه به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره التزامه، وأن يجهر به ولا يخافت: “قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين. وأمرت لأن أكون أول المسلمين”.
ثم هذه التسمية أو الوصف الديني العبادي التوقيفي، قد وُصف به الأنبياء جميعا بلا استثناء كما وصفت به دياناتهم التي لم تتعرض للتحريف.
أ) قال نوح عليه السلام: “فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين”.
ب) “ووصى بها إبراهيم بينه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون”.
ج) “وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين”.
د) وشهد حواريو عيسى – عليه السلام ورضي الله عنهم – بأنهم “مسلمون”: “وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون”.
هـ) وقال يوسف عليه السلام: “رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين”.
و) وهذا الوصف العليم الكريم المحبب ملازم لكل مسلم حتى الموت: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون”.. ملازم له في حياته كلها لا ينفك عنه قط، لأن الانفكاك عنه مروق من الإسلام.
وهذه التسميات الشرعية التوقيفية هي التي تترتب عليها الأحكام في الدنيا، وتترتب عليها المساءلة والثواب والعقاب في الآخرة. وهذا هو المهم – من قبل ومن بعد – في ميزان الله الذي ليس للمسلمين ميزان سواه.
لذلك يجعل الانحصار الطوعي في مفردة أتباعها في معزل من سائر الأمة.. وهذا ما وقع في بعض البلدان العربية والإسلامية مع الأسف في عصرنا. إذ بدأ الصراع وكأنه صراع بين فسطاطين: فسطاط  المسلمين وفسطاط سواهم من الناس.. بدأ الصراع وكأنه معركة حامية بين إسلاميين وكافرين، على حين أن الجميع مسلمون، باستثناء الذين لا يدينون بملة الإسلام.
إننا في حقبة تفتيت المسلمين تفتيتا يوقعهم تحت طائلة “تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى”. وإنما يجري التفتيت تحت عناوين شتى منها: التجزئة الجغرافية.. ومنها الفتنة المذهبية والطائفية.. ومنها “التصنيفات” و”التسميات” التي تتقدم وتنتشر وتسود على حين تتأخر التسميات الشرعية الجامعة وأولاها وأهمها وصف “مسلمون”.
فيلزم المسلم ما ألزمه به ربه من التسميات “هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا”.. هو – سبحانه – الذي سمى لا غيره. وكفى به عليما خبيرا حكيما. وليفخر المسلم ويعتز ويرفع رأسه بأنه “مسلم” فحسب، لا ليبرالي، ولا علماني، ولا يميني، ولا يساري، ولا غير ذلك.
أولم يكف المسلمين بأن الله – جل ثناؤه – قد سماهم مسلمين؟! ألا فليذكروا أن التسمية الأرقى والأكمل والأجمل والأبقى والأبعد هي اسم “مسلم”.. ومن حسن الحظ أنه اسم يتسع للحق كله، وللمعارف كلها، وللفضائل جميعا، وللاستنارة كلها.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات