اليوم :5 October 2024

الإمام ابن حزم الظاهري (384 هـ 994 م ــ 456 هـ 1064م)

الإمام ابن حزم الظاهري (384 هـ 994 م ــ 456 هـ 1064م)

هذه قصة عالم أثبت أنّ طلب العلم لا يشترط له أن يكون من الصغر المبكر, وأثبت أيضاً أنّ الغنى والثراء الواسع, والنفوذ الدنيوي, لا يقف أبداً عائقاً أمام طلب العلم, وأثبت أنّ باب الاجتهاد لم يغلق ولن يغلق أبداً؛ طالما كانت هناك عقول وفهوم للمسلمين, وأثبت أيضاً إمكانية التبحر في فنون عديدة من العلوم الشرعية , إنّها قصة عالم يعتبر أكثر أهل الإسلام تأليفاً وتصنيفاً بعد شيخ الشيوخ ابن جرير الطبري.

اسمه ونسبه:
أبو محمّد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حَزْمِ بن غالب بن صالح بن خَلَفِ بن مَعدَان بن سُفيان بن يَزيْد, الفارِسيُّ الأَصل، ثمّ الأَندَلُسِيُّ القُرطُبِيُّ اليَزِيْديّ, مَوْلَى الأَمير يزيد بن أَبي سُفيان صخر بن حَرب بن أميّة بن عبد شمس الأموي، المعروف بيزيد الخَير، نائب أَمير المؤمنين أَبي حفصٍ عمر علَى دِمَشق،
فكان جدُّهُ يَزيد أول من أسلم من أجداده، وهو مَوْلَى لِلأَمير يَزِيد أَخِي مُعَاوِيَة.
وكان جَدُّهُ خَلَفُ بن مَعْدَان هو أَوَّلُ مَنْ دخل الأَنْدَلُس في صحَابة ملك الأَندلُس عَبد الرَّحمَن بن مُعاوية بن هِشامٍ؛المَعرُوف بِالدَّاخل.

مولده:
وُلد ابن حزم في شهر رمضان سنة 384هـ . بمدينة قُرْطُبَة , في بيت عز وثراء, و وجاهة ورياسة، فقد كان أبوه أحمد بن حزم من وزراء الحاجب المنصور بن أبي عامر, أعظم حكام الأندلس، فارتاح باله من كد العيش والسعي وراء الرزق، وتفرغ لتحصيل العلوم والفنون…
وكانت وفاة والده أبي عمر أحمد  في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة، وهو من أهل العلم والأدب والخير والبلاغة، وقال ولده أبو محمد المذكور: أنشدني والدي الوزير في بعض وصاياه لي رحمه الله تعالى:
إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن … على حالةٍ إلا رضيت بدونها
وكان أحمد بن سعيد, والد (ابن حزم) من عقلاء الرجال، الذين نالوا حظًّا وافرًا من الثقافة والعلم، ولذلك كان يعجب ممن يلحن في الكلام، ويقول: (إنّي لأعجب ممّن يلحن في مخاطبة أو يجيء بلفظة قلقة في مكاتبة، لأنّه ينبغي له إذا شكّ في شيء أن يتركه، ويطلب غيره، فالكلام أوسع من هذا).
وكانت هذه الثقافة الواسعة، والشخصية المتزنة العاقلة هي التي أهلّت والد ابن حزم لتولي منصب الوزارة للحاجب المنصور ابن أبي عامر في أواخر خلافة بني أمية في الأندلس.
وذكر الحميدي في كتاب ” جذوة المقتبس “:
أنّ الوزير المذكور كان جالساً بين يدي مخدومه المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه العامة ، فرُفِعت إليه رقعة استعطاف لأمّ رجل مسجون ـ كان المنصور اعتقله حنقاً عليه لجرم استعظمه منه ـ فلمّا قرأها اشتدّ غضبه، وقال: ذكرتني والله به، وأخذ القلم وأراد أن يكتب: يُصلَب، فكتب: يُطلَق، ورمى الورقة إلى وزيره المذكور، وأخذ الوزير(والد ابن حزم) القلم, وتناول الورقة, وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة.
فقال له المنصور: ما هذا الذي تكتب؟
قال: بإطلاق فلان.
فحرد،(غضب) وقال: من أمر بهذا؟!
فناوله التوقيع، فلما رآه قال: وهمتُ، والله ليُصلبنّ، ثمّ خط على التوقيع، وأراد أن يكتب ” يصلب ” فكتب ” يطلق ” ، فأخذ الوزير الورقة، وأراد أن يكتب إلى الوالي بالإطلاق، فنظر إليه المنصور وغضب أشد من الأول، وقال: من أمر بهذا؟!!
فناوله التوقيع، فرأى الخط، فخط عليه، وأراد أن يكتب ” يصلب ” فكتب ” يطلق ” ، وأخذ الوزير التوقيع وشرع في الكتابة إلى الوالي، فرآه المنصور فأنكر أكثر من المرتين الأوليين، فأراه خطه بالإطلاق، فلما رآه عجب من ذلك، وقال: نعم يطلق على رغمي، فمن أراد الله سبحانه إطلاقه لا أقدر أنا على منعه.

نشأته:
نشأ الغلام في قصر أبيه نشأة كريمة، فقد كان أبوه وزيرًا في الدولة العامرية وتعلّم القرآن الكريم، والحديث النبوي، والشعر العربي، وفنون الخط والكتابة، وتمرّ الأيّام ويكبر الغلام، فيجعله أبوه في صحبة رجل صالح يشرف عليه، ويشغل وقت فراغه، ويصحبه إلى مجالس العلماء…
كانت أسرته لها مكانة مرموقة وعراقة في النسب، فـ(بنو حزم) كانوا من أهل العلم والأدب، ومن ذوي المجد والحسب، تولّى أكثر من واحد منهم الوزارة، ونالوا بقرطبة جاهًا عريضًا.
وفي القصر عاش ابن حزم عيشة هادئة رغدة، ونشأ نشأة مترفة، نشأَ في تَنَعُّمٍ و رفاهيَّة، تحوط بها النعمة، وتلازمها الراحة والترف، فلا ضيق في رزق ولا حاجة إلى مال، وحوله الجواري الحسان ورغم هذه المغريات عاش ابن حزم عفيفًا لم يقرب معصية.. يقول في ذلك: (يعلم الله وكفى به عليمًا، أنّي بريء الساحة، سليم الإدام (أي: آكل حلالاً) صحيح البشرة، نقي الحجزة، وأني أقسم بالله أجل الأقسام، أنّي ما حللتُ مِئزري على فرج حرام قط …).
وقد اشتغل في شبابه بالوزارة في عهد «المظفر بن المنصور العامري» ثم مالبث أن أعرض عن الرياسة, وتفرغ للعلم وتحصيله..
وكان في بادئ أمره شافعيًا يناظر عن مذهبه، ثم قاده اجتهاده إلى التحول إلى المذهب الظاهري، فنفى القياس نفيًا كليًا, وحرَّم التقليد, وأوجب الاجتهاد والعمل بظاهر النصوص…
وكان قد مَهر أوَّلاً في الأدب والأخبار والشّعر، وفي المنطق وأَجزاءِ الفلسفَة، فأثَّرت فيه تأْثيراً لَيْتَهُ سَلِمَ مِن ذلك، ، ففسد بذلك حاله في باب الصفات، وضر مكانته العلمية.
قال الذهبي رحمه الله:
قيل: إنّه تَفَقَّهَ أَوَّلاً لِلشافعِيّ، ثمّ أَدَّاهُ اجْتِهاده إِلَى القَول بنفي القياس كُلّه جَلِيِّه وخَفِيِّه، والأَخذ بظَاهر النَّصّ وعموم الكتاب والحديث، والقَوْل بِالبَرَاءة الأَصليَّة، واستصحاب الحال، وصنَّف في ذلك كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لِسانَه وقلمَه، ولَم يَتَأَدَّب مع الأَئِمَّة في الخطاب، بل فَجَّج العبارة، وسبَّ وجَدَّع، فكان جزاؤُه مِن جِنس فِعله، بحَيثُ إِنَّه أَعرض عَن تصانيفه جماعةٌ مِن الأَئمّة، وهجروها، ونفرُوا مِنها، وأُحرِقت في وَقت، وَاعتَنَى بها آخرون مِن العلماء، وفَتَّشوها انتقاداً واستفادة، وأَخذاً ومُؤَاخذة، ورأَوا فيها الدُّرَّ الثّمِين ممزوجاً في الرَّصفِ بِالخَرَزِ المَهين، فَتارَة يَطربُون، ومرَّةً يُعجبُون، ومِن تفَرُّدِهِ يهزؤُون.
وفي الجُملةِ فالكَمالُ عزيز، وكلُّ أَحد يُؤخَذ مِن قوله ويُتْرَك، إِلاّ رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أساتذته:
منهم: يحيى بن مسعود بن وَجه الجَنَّة؛ صاحِب قَاسم بن أَصبغ، فهو أَعلى شيخ عنده، و أبو عمر أَحمد بن محمد بن الجَسور، ويُونُس بن عبد الله بن مُغِيث القَاضي، وحُمام بن أَحمد القَاضي، ومحمَّد بن سعيد بن نبات، وعبد الله بن رَبِيع التَّميميّ، وعبد الرَّحمَن بن عبد الله بن خالد، وعبد الله بن محمد بن عُثمان، وأبو عُمر أَحمد بن محمَّد الطَّلَمَنْكي، وعبد الله بن يوسف بن نامِي، وأَحمد بن قَاسم بن محمَّد بن قَاسم بن أَصبَغ.
وينزلُ إلى أن يَروِي عن:أبي عُمر بن عبد البر، وأَحمد بن عُمرَ بن أَنس العُذرِيّ.

تلاميذه:
حدّث عنه: ابنُه أَبو رافِعٍ الفضل، وأبو عبد الله الحُمَيدِيُّ، و والِد القَاضي أَبي بَكر بن العرَبِي …
وآخر مَن روَى عنه مَروِيَّاتِه بالإِجازَة أبو الحسَن شُرَيح بن مُحمَّد.

سبب تحصيله العلم:
حدث ذات يوم أن مات أحد أقربائه فدخل المسجد قبل صلاة العصر ليصلوا على الميت, فجلس ابن حزم من غير أن يصلي ركعتين قبل الجلوس.
فقال له أحد مَن في المسجد :’قم فصلّ ركعتين’ .
ثمّ صلّى العصر وذهبوا لدفن ميّتهم, ثمّ عادوا قبيل صلاة المغرب, فدخل ابن حزم المسجد, فهمّ أن يصلي ركعتين فقال له أحد الحضور:’اجلس فلا تصل فليس هذا وقت صلاة’ .
فتحيّر ابن حزم من هذا الكلام؛ وكان عمره وقتها ستة وعشرين سنة, فذهب بعد صلاة المغرب إلى مربّيه (الذي كان يحفظه القرآن وهو صغير) فاشتكى له ما جرى فأرشده مربيه إلى تلقي العلم ومدارسته..
فأقبل ابن حزم من يومها على دراسة العلوم الشرعية, وكان ذا فطنة وذكاء شديدين, وعقل يستوعب بسرعة عجيبة .

تحوله من المذهب الشافعي إلى المذهب الظاهري :
برع ابن حزم في فنون متعددة, وساعده على ذلك قدرته الفائقة على التحصيل وتسيير المادة العلمية له, بسبب ثرائه ومكتبة والده الكبيرة التي ورثها كلها..
وتفقّه ابن حزم أوّلاً على المذهب الشافعي, الذي لم يكن له أتباع كثيرون في الأندلس التي كان يغلب عليها المذهب المالكي, ودخل ابن حزم في مناظرات ومجادلات كثيرة مع المالكية وتعصب بشدة للشافعي, وناله بذلك أذى كثيراً..
ثمّ قام ابن حزم بدراسة المذهب الظاهري, الذي يُنسب لداود الظاهري المتوفى سنة 270 ببغداد. وكان وقتها قد ولى الوزارة للمظفر بن المنصور العامري فاعتزل الوزارة, وانقطع لطلب العلم واعتكف فترة لدراسة العلوم الشرعية, واجتهد حتى أداه اجتهاده للتحول للمذهب الظاهري … ورغم أنّه كان ظاهرياً في الفروع إلّا أنّه لم يسلك هذا المسلك في الأصول فتخبط بشدة,…

محنته:
وممّا حطّ  كثيرًا مِن مكانة ابن حزم عند العلماء هو لسانه الذي كان يضرب به المثل في الحدة، فقيل عنه: «سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان»، فلقد كان ابن حزم يبسط لسانه في علماء الأمة وخاصة خلال مناظراته مع المالكية في الأندلس، (وخاصة أبي الوليد الباجي عالم الأندلس الكبير وشيخ المالكية) وهذه الحدّة أورثت نفورًا في قلوب كثير من العلماء عن ابن حزم وعلمه ومؤلفاته، وكثر أعداؤه في الأندلس، حتى نفوه من قرطبة وأحرقت كتبه في محاضر عامة بأمر من المعتضد بن عباد، وصار ابن حزم ينتقل من بلد لأخرى ومعه مصنفاته التي بلغت حمل بعير, وقد أحرقوا معظمها وهو يعيد إملائها من صدره وحفظه.
و ممّا زاد كراهية الناس له شدة ميله لأمراء وملوك بني أمية في الأندلس, وقوله بأحقّيتهم عن غيرهم بالولاية, ممّا دعى بخصومه لأن يرموه بالنصب حتى استقر في جزيرة “ميورقة” فلقي فيها احتفال وتقدير عظيم وعلت مكانته مرة أخرى, وعاد لسانه الحاد للطعن في العلماء حتى وشوا به لأمير ميورقة فطرده منها, وكان قد بلغ السبعين من عمره فعاد مرة أخرى لبلده التي وُلِد فيها بالقرب من قرطبة قرية «لبلة» ومات فيها طريدًا في 28 شعبان 456هـ.
وقد اعتذر في آخر حياته عن حدّة لسانه و وقيعته في العلماء. وقال: إنّ سبب سوء مزاجه هو إصابته بالربو وضيق التنفس مما يجعل صدره ضيقاً حرجاً عند أي مناظرة , وإلّا فهو من أكابر أهل العلم في الإسلام وترك وراءه علماً غزيراً نافعاً فرحمه الله وغفر له ما كان من زلات .

ذاكرته الفذة:
وقد منح الله ابن حزم ذاكرة قوية, وذكاءً مفرطًا, وذهنًا سيالاً, وبديهة حاضرة …
قال اليَسَعُ ابن حَزم الغافِقِيّ وذَكَر أَبا محَمَّد فقال:أَما مَحفُوظُهُ فَبحرٌ عَجَّاج، وماءٌ ثَجَّاج، يَخرُج مِن بحره مَرجَان الحِكَم، ويَنبت بِثَجَّاجه أَلفَافُ النِّعم في رِياض الهِمم، لَقَد حَفِظ علُومَ المُسلِمِين، وأَربَى عَلَى كُلّ أَهل دين، وأَلَّف(الملل وَالنحل)…

موسوعيٌ في علمه:
كان ابن حزم – رحمه الله – مفسرًا, محدّثًا, فقيهًا, مؤرخًا, شاعرًا, مربيًا, عالمًا, بالأديان والمذاهب…
ويزداد هذا الأمر وضوحًا باطلاعنا على هذا الكم الهائل من المؤلفات في شتى الميادين العلمية…
وكان ابن حزم واسع الاطلاع، يقرأ الكثير من الكتب في كافة المجالات، ساعده على ذلك ازدهار مكتبات قرطبة بالكتب المتنوعة، واهتمام أهل الأندلس بالعلوم والآداب، واشتهر ابن حزم بعلمه الغزير، وثقافته الواسعة، فكان بحق موسوعة علمية أحاطت بالكثير من المعارف التي كانت في عصره في تمكن وإحاطة.
قال عنه أحد العلماء (أبو عبد الله الحميدي): كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفنِّنًا في علوم جمَّة عاملاً بعلمه، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين..
قال أبو مَروَان بن حَيَّان:كان ابن حَزم – رحمه الله – حامِل فُنُون مِن حديث وفقه وجَدَل ونَسَبٍ، وما يَتعلَّق بِأَذيال الأَدب، مَع المُشارَكة في أَنواع التَّعاليم القديمة مِن المَنطق والفلسفة…

من صفاته الخُلقية والخِلقية:
كان ابن حزم في صِباهُ يَلبَس الحَرير، ولا يَرضَى مِن المكانة إلاَّ بالسَّرِير.
وقد اشتغل في شبابه بالوزارة في عهد «المظفر بن المنصور العامري» ثم مالبث أن أعرض عن الرياسة, وتفرغ للعلم وتحصيله..
وكان متواضعًا لله، شاكرًا له…
وكان عزيز النفس، واثق الكلمة أمام خصومه وأعدائه، لا ينافق الحكام، ويرفض قبول هداياهم حتّى لو سبّب له ذلك الكثير من المتاعب، وكانت صفة الوفاء ملازمة له، فكان وفيًّا لدينه وإخوانه وشيوخه، ولكلّ مَن اتصل به.
قال الحافظ أبو عبد الله الحميدي: ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدين…
وقال أَبو الخَطَّاب ابن دِحيَة:
كان ابن حَزم قد بَرِصَ مِن أكل اللُّبان، وأَصابه زَمانة…
قال الذهبي تعليقا على كلامه: قلتُ: وكذلك كان الشَّافعيّ – رحِمَه الله – يَستَعمل اللُّبان لقُوَة الحِفظ، فولَّدَ لَهُ رَميَ الدَّم.
وكان ابن حزم حاد اللسان . قال أَبو العبَّاس ابن العريف:
“كان لِسان ابن حَزم وسيفُ الحجَاج شقيقين”.

كريم الأخلاق والشمائل:
ذكر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله أنّ الإمام ابن حزم كان يتصف بالصفات التالية:
1 – قوة الحافظة. 2 – البديهة الحاضرة. 3 – عمق التفكير والغوص في الحقائق. 4 – الصبر. 5 – الجلد. 6 – المثابرة. 7 – الإخلاص. 8 – الصراحة في الحق.
9 – الوفاء. 10 – الاعتزاز بالنفس من غير عجب ولا خيلاء. 11 – ووصف أيضًا بالحدة – رحمه الله تعالى -.

مصنفاته :
يعتبر ابن حزم من أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا، فلقد كان مجتهدًا مطلقًا، ولقد أحيى المذهب الظاهري بعد أن كاد أن يندثر، وكأن المذهب الظاهري قد أصبح باسم «ابن حزم»، وليس «داود بن علي» مؤسس المذهب في العراق، وقد ألف ابن حزم قرابة أربعمائة مجلد في ثمانين ألف ورقة، وهو بذلك يحتل المكانة الثانية بعد ابن جرير الطبري، (أو الثالثة بعد السيوطي)  وكان مؤلفاته في شتى فروع العلم، الفقه، الحديث، الأصول، الأدب والشعر والبلاغة، حتى الطب، ويعتبر كتابه «المحلى بالآثار» من أفضل كتبه على الإطلاق وفي الإسلام عمومًا.

وله مصنفات فقهية هائلة منها:
“كتاب الإيصال” الذي يُعدُّ أكبر موسوعة فقهية اعتمد فيها على ذكر المسألة والآيات والأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب, فقد كان ابن حزم نادرة في النقل, ثمّ اختصر هذا الكتاب في “كتاب الخصال”.
ثمّ “كتاب المحلى بالآثار” الذي قال عنه سلطان العلم العز بن عبد السلام: ‘أفضل ما كتب في الإسلام المحلى والمغني لابن قدامة’ ,
وله كتاب ” الإحكام لأصول الأحكام ” في غاية التقصي وإيراد الحجج.
كتاب ” الفصل في الملل والنِّحل ” . “الإجماع ومسائله على أبواب الفقه”. كتاب” في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض”.
كتاب ” إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل ” وهذا معنى لم يسبق إليه.
كتاب ” التقريب بحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية ” فإنه سلك في بيانه وإزالة سوء الظنّ عنه, طريقة لم يسلكها أحد قبله.
“الآثَار الَّتي ظَاهرها التعارض ونفي التناقض عَنها” وهو كتاب كبير جدا. لكن لم يُتِمَّه. “التَّصفح في الفِقْه”. “التَّبيين في هل عَلِمَ المُصطَفَى أَعيَان المُنَافِقين”.
“الإِملاَء فِي شرح المُوَطَّأ” أَلف وَرقَة. “الإِملاَء فِي قوَاعد الفِقْه” أَلف وَرقَة أَيْضاً. “در القوَاعد فِي فَقه الظَّاهِرِيَّة”. أَلف وَرقَة أَيْضاً. “الفَرَائِض ” مُجَلَّد.
“الرَّدّ عَلَى مَن كفر المتَأَوِّلين مِنَ المُسْلِمِيْنَ” . ” اليَقين فِي نَقض تَمويه المعتذرِيْنَ عَنْ إِبليس وَسَائِر المُشْرِكِيْن” مُجَلَّد كَبِيْر. “حجَّة الوداعِ “.
“الجامع في صحيح الحَدِيث بِلا أَسَانِيد”.”ما انفرد بِه مالِك وأَبُو حنِيفَة والشَّافِعِيّ”. “اختلاف الفُقَهاء الخَمسَة: مالِك، وأَبي حَنِيْفَةَ، والشَّافِعيّ، وأَحمَد، ودَاوُد” .
” كتاب نَسَب البَرْبَر”. وغير ذلك…

وممَّا له في جزء أَو كُرَّاس:
“مُراقبَة أَحْوَال الإِمَام ومِنْ ترك الصَّلاَة عمدًا” . “رِسَالَة المُعَارَضَة وقصر الصَّلاَة”. “رِسَالَة  فِي العروض. “مسْأَلَة الإِيْمَان ومَرَاتِب العلُوْم”.
“مسْأَلَة فِي الرُّوح والرَّدّ عَلَى إِسْمَاعِيْلَ اليَهودي، الَّذِي أَلَّف فِي تَنَاقض آيَات والنَّصَائِح المنجيَة”.
“بيان الفَصَاحَة وَالبلاغَة”. “مُؤَلّف فِي الظَّاء وَالضَاد” . “غَزَوَات المَنصُور بن أَبِي عَامِرٍ”. وتَألِيف فِي الرَّدِّ عَلَى أَنَاجيل النَّصَارَى.
وغيرها …

مؤلفاته في الطب:
ولابن حَزم: رِسالة في الطِّبّ النّبوِي, وذَكَرَ فيها أَسماء كتب لَه في الطِّبّ منها مقَالة العَادة، و مقالة في شفاء الضِّدّ بِالضِّدّ و شَرح فصول بقراط.
وكتاب بلغَة الحَكِيم. و كتاب حدّ الطِّبّ. وكتاب اختصار كلام جالينوس في الأَمراض الحادَّة. وكتاب في الأدوية المفردة . و مقَالة في المحاكمَة بَيْن التَّمر والزَّبِيْب .
مقَالة في النَّخل ومؤلفات سِوَى ذلك…
قال الإِمام أَبو القاسم صاعِد بن أَحمد: كان ابن حَزم أَجمَعَ أَهل الأَنْدَلُس قَاطبَة لعلُوم الإِسلام، وأَوسعَهم مَعرِفَة مع توسعه فِي عِلم اللِّسان، (أي علوم اللغة) و وفور حظّه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار..
وقد بلغ ما كتبه ابن حزم أربعمائة مجلد، تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريبًا، كما قال ابنه الفضل..

اجتهاده:
يحكي بعض معاصريه أنّه حضر مرة في درس الفقه لبعض المشائخ , وكان يتعجَّب, ثمّ سأل الحاضرينَ مسأَلة مِن الفِقه، جُووب فيها، فاعْترَض في ذلك، فقال له بعض الحُضَّار:هذا العِلمُ لَيس مِن مُنْتَحَلاَتِكَ، فقامَ وقَعَدَ، ودخل مَنزِله فَعكَف، ووَكَفَ مِنه وَابِلٌ فما كَفَّ، وما كان بعد أشهُر قَريبَة حتّى قَصَدنا إلى ذلك المَوضِع، فنَاظر أَحسَن مناظرة، وقال فيها:أَنا أَتبع الحَقَّ، وأَجتهد، ولا أَتقَيَّدُ بِمَذهب.
قال الذهبي رحمه الله: نعم، مَن بَلَغ رُتبَة الاجْتِهاد، وشَهِد لَه بِذلِك عِدَّة مِن الأَئِمَّة، لَم يَسُغْ له أَن يُقَلِّد، كما أَنّ الفَقِيه المُبتدئ والعامِي الَّذي يَحفظ القُرآن أَو كثيراً مِنهُ لا يَسوغُ له الاجتهاد أَبداً، فكيف يَجتَهدُ، وما الَّذي يقول؟ وعلام يَبنِي؟ وكيف يَطيرُ ولمَّا يُرَيِّش؟!!
والقِسم الثَّالث: الفقِيهُ المنتهِي اليَقظ الفَهِم المُحَدِّث، الَّذي قد حَفِظ مُختصَراً في الفروع، وكتاباً في قوَاعد الأُصُول، وقرأَ النَّحو، وشاركَ في الفضائِل مَع حِفظِهِ لِكِتاب الله وتشَاغله بتَفْسيره وقوَةِ مناظرتِهِ، فهذِه رُتبَة مَن بلغَ الاجْتهاد المُقيَّد، وتَأَهَّل لِلنظر فِي دلائِل الأَئِمَّة، فمتَى وَضحَ له الحَقُّ في مَسألَة، وثبت فِيها النَّصّ، وعَمِلَ بها أَحدُ الأَئِمَّةِ الأعلام كأَبِي حَنِيفَةَ مثلاً، أَو كمَالِك، أَو الثَّوريّ، أَو الأوْزاعِيّ، أَو الشَّافِعِيّ، وأَبِي عُبَيدٍ، وأَحمدَ، وإِسحاق، فَلْيَتَّبع فيها الحَقّ وَلاَ يَسلُكِ الرّخصَ، ولِيَتَوَرَّع، ولا يَسَعُه فيها بعد قيام الحُجَّة عَلَيه تَقليدٌ.
فإِن خاف مِمَّنْ يُشَغِّب عليه مِن الفُقَهاء فَلْيَتَكَتَّم بِهَا وَلاَ يَترَاءى بِفعلهَا، فَرُبَّمَا أَعْجَبته نَفْسُهُ، وَأَحَبّ الظُهُوْر، فَيُعَاقب، وَيَدخل عَلَيْهِ الدَّاخلُ مِنْ نَفْسِهِ، فَكم مِنْ رَجُلٍ نَطَقَ بِالْحَقِّ، وَأَمر بِالمَعْرُوف، فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِ مَنْ يُؤذِيْه لِسوء قَصدهِ، وَحُبِّهِ لِلرِّئَاسَة الدِّينِيَّة، فَهَذَا دَاءٌ خَفِيٌّ سَارٍ فِي نُفُوْسِ الفُقَهَاء، كَمَا أَنَّهُ دَاءٌ سَارٍ فِي نُفُوْسِ المُنْفِقِين مِنَ الأَغنِيَاء وَأَربَاب الوُقُوْف وَالتُّرب المُزَخْرَفَة، وَهُوَ دَاءٌ خفِيٌّ يَسرِي فِي نُفُوْس الجُنْد وَالأُمَرَاء وَالمُجَاهِدِيْنَ، فَترَاهم يَلتقُوْنَ العَدُوَّ، وَيَصْطَدِمُ الجمعَان وَفِي نُفُوْس المُجَاهِدِيْنَ مُخَبّآتُ وَكمَائِنُ مِنَ الاختيَالِ وَإِظهَار الشَّجَاعَةِ ليُقَالَ، وَالعجبِ، وَلُبْسِ القرَاقل المُذَهَّبَة، والخُوذ المزخرفَة، وَالعُدد المُحلاَّة عَلَى نُفُوْس مُتكبّرَةٍ، وفُرْسَان مُتجبِّرَة، وَيَنضَاف إِلَى ذلك إِخلاَلٌ بِالصَّلاَة، وَظُلم لِلرَّعيَّة، وَشُرب لِلمسكر، فَأَنَّى يُنْصرُوْن؟
وكيف لا يُخذلُوْن؟
اللَّهُمَّ: فَانصر دينَك، وَوَفِّق عِبَادك.

منهجه في البحث:
بدأ ابن حزم طلبه للعلم باستحفاظ القرآن الكريم، ثم رواية الحديث، وعلم اللسان، فبلغ في كل ذلك مرتبة عالية، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الفقه، فدرسه على مذهب الإمام مالك؛ لأنه مذهب أهل الأندلس في ذلك الوقت، ولكنه كان مع دراسته للمذهب المالكي يتطلع إلى أن يكون حرًا، يتخير من المذاهب الفقهية ولا يتقيد بمذهب.
ولذلك انتقل من المذهب المالكي إلى المذهب الشافعي، فأعجبه تمسكه بالنصوص، واعتباره الفقه نصًا أو حملاً على النص، وشدة حملته على من أفتى بالاستحسان.
ولكنّه لم يلبث إلّا قليلاً في الالتزام بالمذهب الشافعي، فتركه لما وجد أنّ الأدلّة التي ساقها الشافعي لبطلان الاستحسان تصلح لإبطال القياس وكل وجوه الرأي أيضًا.
ثمّ بدا له أن يكون له منهج خاص وفقه مستقل، فاتجه إلى الأخذ بالظاهر، وشدد في ذلك، حتّى أنّه كان أشد مِن إمام المذهب الأول داود الأصفهاني.

ثناء العلماء عليه:
لقد قيّض الله لمحاسن الرجال من ينشرها بين الناس، وهذا دأب أهل الثناء، كما قيّض للمساويء والمثالب من ينبش عنها ويخرجها للناس، وهذا دأب أهل الثلب والبغضاء، ولقد كان ابن حزم أهلًا لثناء العلماء ومدحهم، فقد عرفت من شمائله وعلو همته بل وحتى مشاركاته السياسية، ما دعا أهل التراجم إلى الثناء عليه…
قال الأمير أبو نصر ابن ماكولا: كان فاضلًا في الفقه حافظًا في الحديث، مصنّفًا فيه وله اختيار في الفقه على طريقة الحديث، روى عن جماعة من الأندلسيين كثيرة، وله شعر ورسائل.
وقال الحُميدي: كان حافظًا, عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علوم جمة، عاملًا بعلمه, زاهدًا في الدنيا بعد الرياسة، التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعًا ذا فضائل جمّة، وتواليف كثيرة في كل ما تحقّق به في العلوم، وجمع من الكتب في علم الحديث والمصنفات والمستندات شيئًا كثيرًا وسمع سماعًا جمًّا.
وقال الحافظ الذهبي: ابن حزم الأوحد البحر ذو الفنون والمعارف…
وقال عنه أيضًا: الفقيه الحافظ المتكلم الأديب الوزير الظاهري صاحب التصانيف… وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدّة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنّة والمذاهب والملل والنّحل والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة الحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب…
وكان يَنهض بعلُومٍ جَمَّة، ويُجيد النَّقل، ويُحسِنُ النّظم والنثر.
وفيه دِينٌ و خير، ومقاصدُه جميلة، ومُصَنّفَاتُه مُفيدَة، وقد زهد في الرِّئَاسة، ولزِمَ منزله مُكِبّاً على العِلم، فلا نغلو فيه، ولا نَجْفو عَنه، وقد أَثنَى عليه قبلنا الكِبار.
قال أَبو حامد الغزالي:وَجَدتُ في أَسماء الله تَعالَى كِتاباً أَلفه أَبو مُحَمَّدٍ بنُ حَزمٍ الأَنْدَلُسِيّ يَدلُّ على عِظَمِ حفظه وسَيَلان ذِهنه.
قال الشَّيخ عزّ الدِّين بن عبد السَّلام – وكان أحَدَ المُجتهدين – : ما رَأَيتُ في كُتُبِ الإِسلام في العِلْمِ مِثل(المحلَّى)لابنِ حَزم، وكتاب(المُغنِي)لِلشَّيخ مُوَفَّق الدِّين.
قال الذهبي: لقد صَدَقَ الشّيخ عزّ الدين.
وثالثهما:(السُّنَن الكَبِيْر)لِلبيهقِي.
ورابعها:(التّمهيد)لابن عبدِ البر.
فَمَنْ حصَّل هذه الدَّوَاوِين، وكان مِن أَذكيَاء المفتين، وأَدمنَ المطالعة فيها، فَهُوَ العَالِم حَقّاً.(18/194)

من شِعرِه:

قال الذهبي: شعره فَحلٌ كما تَرَى، وكان يُنظِمُ علَى البَدِيه…
و قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي : ما رأيتُ من يقول الشعر على البديهة أسرع منه. ثمّ قال: أنشدني لنفسه:
لئن أصبحتُ مُرتَحِلاً بجسمي … فروحي عندكم أبداً مقيم
و لكن  للعيان  لطيف   معنى … له  سأل  المعاينة  الكليم

وله في المعنى:
يقول أخي شجاك رحيل جسمٍ … وروحك ما له عنّا رحيل
فقلتُ  له :   المعاين   مطمئن … لذا  طلب المعاينة الخليل

وروى له الحافظ الحميدي أيضاً:
أقمنا    ساعة   ثمّ    ارتحلنا … وما يغني المشوق وقوف ساعه
كأنّ الشمل لم يك ذا اجتماع … إذا  ما  شتت  البين     اجتماعه

وقال الحميدي أيضاً: أنشدني أبو محمد علي بن أحمد بن حزم – يعني المذكور – لعبد الملك بن جهور:

إن  كانتِ   الأبدانُ   بائنةً … فنفوس أهل الظرف تأتلف
يا ربِّ  مفترقين قد جمعت … قلبيهما الأقلام  والصّحُف

ومن شعره أيضاً:
هَلِ الدَّهْرُ إِلاَّ ما عَرَفْنا وأَدرَكنا  *  فَجائِعُهُ   تَبقَى  و لَذَّاتُهُ   تَفْنَى
إِذَا أَمْكَنَتْ فِيْهِ مَسَرَّةُ سَاعَةٍ *تَوَلَّتْ كَمَرِّ الطَّرْفِ وَاسْتَخْلَفَتْ حُزْنَا
إِلَى  تَبِعَاتٍ  فِي المَعَادِ  ومَوْقِفٍ  *  نَوَدُّ  لَدِيْهِ  أَنَّنَا  لَمْ  نَكُنْ   كُنَّا
حَنِيْنٌ  لِما وَلَّى  وشُغْلٌ  بِمَا  أَتَى * وَهم لَمَّا نَخْشَى فَعَيْشُكَ لاَ يَهْنَا
حَصَلْنَا  عَلَى  هَمٍّ  وَإِثْمٍ  وَحَسْرَةٍ * وَفَاتَ  الَّذِي  كُنَّا  نَلَذُّ  بِهِ  عَنَّا
كَأنَّ  الَّذِي  كُنَّا  نُسَرُّ    بِكَوْنِهِ   * إِذَا حَقَّقَتْهُ النَّفْسُ لَفْظٌ بِلاَ مَعْنَى

***
لاَ تَشْمَتَنْ حَاسِدِي إِنْ نَكْبَةً عَرَضَتْ*فَالدَّهْرُ لَيْسَ عَلَى حَال بِمُتَّركِ
ذُو الفَضْلِ كَالتِّبْرِ طَوْراً تَحْتَ مَيْفَعَةٍ*وَتَارَةً فِي ذُرَى تَاجٍ عَلَى مَلِكِ

***
أَنَا الشَّمْسُ  فِي  جوِّ  العُلُوْمِ  مُنِيْرَةً * وَ لَكِنّ عَيْبِي  أَنَّ مَطْلَعِي الغَرْبُ
وَلَوْ أَنَّنِي مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ طَالِعٌ*لَجَدَّ عَلَى مَا ضَاعَ مِنْ ذِكْرِيَ النَّهْبُ
وَلِي نَحْوَ أَكْنَافِ العِرَاقِ صَبَابَةٌ*وَلاَ غَرْوَ أَنْ يَسْتَوحِشَ الكَلِفُ الصُّبُّ
فَإِن  يُنْزِلِ  الرَّحْمَنُ   رَحْلِيَ بَيْنَهُمْ *  فَحِيْنَئِذٍ  يَبْدُو  التَأَسُّفُ  وَ الكَرْبُ
هُنَالِكَ  يُدْرَى  أَنَّ  لِلْبُعْدِ   قِصَّةٌ  *  و  أَنَّ   كسَادَ العِلْمِ     آفَتُهُ القُرْبُ

***
أَنَائِمٌ أَنْتَ عَنْ كتبِ الحَدِيْثِ وَمَا *أَتَى عَنِ المُصْطَفَى فِيْهَا مِنَ الدِّيْنِ
كَمُسْلِمٍ   وَالبُخَارِيّ  الَّلذِيْنَ   هُمَا * شَدَّا  عُرَى الدِّيْنِ فِي نَقْلٍ وَتَبْيِينِ
أَوْلَى بِأَجْرٍ وَتعَظِيْمٍ وَمَحْمَدَةٍ   *  مِنْ كُلِّ قَوْلٍ أَتَى  مِنْ رَأْي سُحْنُوْنِ
يَا مَنْ هَدَى بِهِمَا اجعَلْنِي كَمِثْلِهِمَا*فِي نَصْرِ دِيْنِكَ مَحْضاً غَيْرَ مَفْتُوْنِ

***
لَم أَشْكُ صَدّاً وَلَمْ أُذْعِنْ بِهِجْرَانِ  *  وَلاَ شَعَرْتُ مَدَى دَهْرِي بِسُلْوَانِ
أَسْمَاءُ لَمْ أَدْرِ مَعْنَاهَا وَلاَ خَطَرَتْ  *   يَوْماً عَلِيَّ وَلاَ جَالَتْ  بِمِيدَانِي
لَكِنَّمَا  دَائِي الأَدوا الَّذِي عَصَفَتْ   *  عَلَيَّ  أَرْوَاحُهُ  قِدماً  فَأَعْيَانِي
تَفَرَّقَ لَمْ تَزَلْ  تَسْرِي  طَوَارِقُهُ     *   إِلَى   مَجَامِعَ أَحبَابِي وَخِلاَّنِي
كَأَنمَا البَيْنُ بِي يَأْتَمُّ حَيْثُ رَأَى    *  لِي مَذْهَباً فَهُوَ يَتْلُونِي وَ يَغشَانِي
وَكُنْتُ أَحسبُ عِنْدِي لِلنوَى جَلَداً* دَاءٌ عَنَا فِي فؤَادِي شجوهَا العَانِي
فَقَابَلَتْنِي    بِأَلوَانٍ    غَدَوْتُ  بِهَا  *   مقَابَلاً   مِنْ  صَبَابَاتِي  بِأَلوَانِ

وقال ابن حزم لمّا أحرق المُعْتَضِدُ بنُ عَبَّاد كتبه :
فَإِنْ تَحْرِقُوا القِرْطَاسَ لاَ تَحْرِقُوا الَّذِي*تَضَمَّنَهُ القِرْطَاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيْرُ مَعِي  حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ  رَكَائِبِي *  وَيَنْزِلُ  إِنْ  أَنْزِلْ  وَيُدْفَنُ   فِي   قَبْرِي
دَعُوْنِيَ  مِنْ  إِحْرَاقِ  رَقٍ  وَكَاغَدٍ  *  وَقُولُوا بِعِلْمٍ كِي يَرَى النَّاسُ مَنْ يَدْرِي
وَإِلاَّ  فَعُوْدُوا  فِي  المَكَاتِبِ  بَدْأَةً    *   فَكَمْ  دُوْنَ  مَا   تَبْغُونَ   للهِ  مِنْ  سِتْرِ

***
مُنَايَ  مِنَ  الدُّنْيَا  علُوْمٌ  أَبُثُّهَا * وَ أَنْشُرُهَا  فِي  كُلِّ  بَادٍ وحَاضِرِ
دُعَاءٌ إِلَى القُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِي*تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرهَا فِي المحَاضِر
وَأَلزمُ أَطرَافَ الثُّغُوْرِ مُجَاهِداً*  إِذَا   هَيْعَةٌ   ثَارَتْ   فَأَوَّلُ   نَافِرِ
لأَلْقَى حِمَامِي مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ* بِسُمْرِ  العَوَالِي  وَالرِّقَاقِ  البَوَاتِرِ
كِفَاحاً مَعَ الكُفَّارِ فِي حَوْمَةِ الوَغَى* وَأَكْرَمُ  مَوْتٍ لِلْفتى قَتْلُ كَافِرِ
فَيَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْ حِمَامِي بِغَيْرِهَا* وَلاَ  تَجْعَلَنِّي  مِنْ قَطِيْنِ المَقَابِرِ

من أقواله:
(وإن أعجبتَ بعلمك فاعلم أنّه لا خصلة لك فيه، وأنّه موهبة من الله مجردة، وَهَبَكَ إيّاها ربُّك تعالى، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلّة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمتَ وحفظتَ)
وقال في أَوَّل(الإِحكام):
أَمّا بعد …  فإنّ اللهَ رَكَّبَ في النَّفس الإِنسانِيَّة قُوَىً مختلفَة, فمِنها:
عَدلٌ يُزَيِّنُ لها الإِنصاف، ويُحَبِّبُ إِليها مُوافِقَة الحَقّ، قال تعالَى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ}[النحل:90].
وقال:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ}[النِّسَاء:135]
ومنها , غضبٌ وَشَهوَةٌ يُزَيِّنَان لها الجُور ويَعمِيَانهَا عن طريق الرشد، قال تعالى:{وَإِذَا قِيْلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البَقَرَة:206].
وقال:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدِيْهِمْ فَرحُوْنَ}[الرُّوْم:32].
فالفاضِل يُسَرُّ بِمَعرفَته، والجَاهِل يُسَرُّ بِمَا لاَ يَدْرِي حقيقَةَ وَجْهِهِ وَبِمَا فِيْهِ وَبَالُه .
ومنها, فَهْمٌ يُليح لَهَا الحَقُّ مِنْ قَرِيْب، وَينِير لَهَا فِي ظلمَات المشكلاَت، فَترَى بِهِ الصَّوَابَ ظَاهِراً جَلِيّاً.
ومنها , جَهْلٌ يَطْمِسُ عَلَيْهَا الطَّرِيْق، وَيُسَاوِي عِنْدَهَا بَيْنَ السُّبُل، فَتبقَى النَفْسُ فِي حَيْرَةٍ تَتردد، وَفِي رِيب تَتَلَدَّد، وَيَهْجُمُ بِهَا عَلَى أَحَد الطّرق المُجَانبَة لِلحق تَهَوُّراً وَإِقدَاماً، قَالَ تَعَالَى:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِيْنَ يَعلمُوْنَ وَالَّذِيْنَ لاَ يَعلمُوْنَ}[الزُّمَر:9].
ومنها , قُوَّةُ التّمِييز الَّتِي سمَّاهَا الأَوَائِلُ المنطقَ، فَجَعَلَ لَهَا خَالِقهَا بِهَذِهِ القُوَّة سَبيلاً إِلَى فَهم خِطَابِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَة الأَشيَاء عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِلَى إِمَكَان التفهُم، فَبهَا تَكُوْن مَعْرِفَة الحَقّ مِنَ البَاطِل.
و منها , قُوَّةُ العَقْل الَّتِي تُعينُ النَفْس المُمَيِّزَة عَلَى نُصْرَة العَدْل، فَمَنِ اتَّبع مَا أَنَاره لَهُ العَقْلُ الصَّحِيْح، نَجَا وَفَاز، وَمِنْ عَاج عَنْهُ هَلَكَ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيْدٌ}[ق:37].
فَأَرَادَ بِذَلِكَ العَقْلَ، أَمَا مُضغَةُ القَلْب، فَهِيَ لِكُلِّ أَحَد، فَغَيْرُ العَاقل كَمَنْ لاَ قَلْبَ لَهُ.

وفاته:
عاش هذا الفقيه في محراب العلم، يتصدى للظلم والجهل، ويجاهد مع ذلك هوى نفسه، وبعد حياة حافلة بالكفاح والعلم والصبر على الإيذاء، لقي ابن حزم ربه في الثامن والعشرين من شعبان سنة  456هـ 1064م. عن عمر يقارب إحدى وسبعين سنة، رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته.
ويقف (أبو يوسف يعقوب المنصور) ثالث خلفاء دولة الموحدين أمام قبره خاشعًا ولم يتمالك نفسه، فيقول: كل الناس عيال على ابن حزم.
ومِمَّن مات من معاصري ابن حَزم في هذه السّنة:
الحافظ أَبو الوليد الحَسَنُ بن محمَّد الدَّرْبَنْدِي، والفقيه أبو القاسم سِرَاجُ بن عَبد الله بن مُحمد بن سِراج، قاضِي الجماعة بقُرطُبة، والحافظ عبد العزيز بن محمد بن مُحَمَّدِ بن عَاصِمٍ النَّخْشَبِيّ، وشيخ العربية أَبو القاسم عبد الواحد بن عليِّ بن برهان ببغداد, ومُسنِدُ الوَقت أَبو الحُسين مُحَمَّدُ بن أَحمد بن مُحَمَّدِ بن حَسنُون النَّرسِيُّ، والمحدِّث أَبو سعِيدٍ محمَّدُ بن عليِّ بن مُحَمَّدٍ الخَشَّاب النَّيْسَابُوْرِيُّ، والوزير عَمِيدُ المُلك مُحَمَّدُ بن منصور الكُنْدُرِي.
وكان لأبي محمد ولد نبيه سريٌّ فاضل, يقال له: أبو رافع الفضل ابن أبي محمد علي، وكان في خدمة المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وغيرها من بلاد الأندلس، وكان المعتمد قد غضب على عمه أبي طالب عبد الجبار بن محمد بن إسماعيل بن عباد, وهمَّ بقتله لأمرٍ رابه منه، فاستحضر وزراءه وقال لهم: مَن يعرف منكم في الخلفاء أو ملوك الطوائف من قتل عمّه عندما همّ بالقيام عليه.
فتقدّم أبو رافع المذكور، وقال: ما نعرف أيّدك الله إلّا مَن عفا عن عمّه بعد قيامه عليه، وهو إبراهيم بن المهدي عمّ المأمون مِن بني العباس، فقبّله المعتمد بين عينيه وشكره، ثمّ أحضر عمّه وبسطه وأحسن إليه.

الكاتب: الشيخ أبو محمد البلوشي

***************************************
من مراجع البحث:

سير أعلام النبلاء –  الإمام الذهبي (ج 35 / ص 166)
مشاهير أعلام المسلمين /علي بن نايف الشحود.
موقع تاريخ قصة الاسلام.
مفكرة الإسلام.
وفيات الأعيان – ابن خلكان  (ج 3 / ص 325)

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات