كَانَت سنوات حكم زين العابدين بن علي في تونس من أسوأ الفترات التي عاشتها البلاد في تاريخها الحديث، عانت جميع قطاعات الشعب التونسي من الاستبداد والقمع والتضييق والتنكيل، وهذا ما يفعله الطغاة والمستبدون عادةً مع شعوبهم، إلا أن الإسلاميين كانوا أكثر معاناة من غيرهم في تحمل نتائج وآثار حكم بن علي القمعي الاستبدادي.
رغم أن المجتمع التونسي يعج بالحراك السياسي والفكري، فالاتجاهات المختلفة موجودة ولها برامجها وأنصارها، وأهمها الاتجاه اليساري بين الطلبة والعمال وفي النقابات، إلا أن تاريخ الحركة الإسلاميَّة وتطورها الفكري والسياسي يجعلها على رأس القوى السياسيَّة التونسيَّة.
رغم أن المجتمع التونسي يعج بالحراك السياسي والفكري، فالاتجاهات المختلفة موجودة ولها برامجها وأنصارها، وأهمها الاتجاه اليساري بين الطلبة والعمال وفي النقابات، إلا أن تاريخ الحركة الإسلاميَّة وتطورها الفكري والسياسي يجعلها على رأس القوى السياسيَّة التونسيَّة.
تمتلك الحركة الإسلاميَّة التونسيَّة خبرة كبيرة على مستويين أساسيين: على المستوى الفكري، حيث استطاعت أن تقدم رؤى متطورة ومنفتحة، وعلى المستوى السياسي حيث دخلت في صراع قويّ مع علمانية الدولة التي أسسها بورقيبة وأكملها بن علي، وكانت أكبر وأهم تيار خاض صراعًا قويًّا مع أسس الدولة العلمانيَّة.
وكان أوج الصعود السياسي الإسلامي للحركة التونسيَّة عام 1989م، حينما خاضت حركة “النهضة” الانتخابات التشريعيَّة تحت قوائم مستقلَّة، فحصلت على حوالي 20% من الأصوات، باعتراف السلطة التونسيَّة نفسها، وقد عكس ذلك حجم شعبيَّة الإسلاميين في الشارع التونسي رغم إغراقه بعمليَّات مستمرَّة من العلمنة المتطرفة التي تكيل كل أنواع التهم للإسلاميين وللحركة الإسلاميَّة.
بعد نتائج الانتخابات بدأ بن علي يستشعر خطورة الإسلاميين الذين أصبحوا مؤهَّلين ليكونوا الخصم السياسي للنظام الحاكم، لذلك بدا النظام في مواجهتهم، خاصة بعد تقدّمهم بطلب الحصول على ترخيص قانوني قوبل بالرفض من طرف السلطة.
أصابت بن علي حالة من الخوف والهلع من حركة “النهضة” كممثلة للتيار الإسلامي، فبدأ تطبيق ما سمي “تجفيف الينابيع” أي ضرب كل ما من شأنه تغذية الهويَّة الإسلاميَّة في البلاد، وتَمَّ إرغام حركة “النهضة” على الانسحاب القسري من حلبة العمل السياسي، واضطرَّ قادة الحركة وعلى رأسهم زعيمها راشد الغنوشي، إلى مغادرة البلاد للعيش في المنفى.
وكان الديكتاتور المخلوع دائم استخدام ورقة الإسلاميين كي يخوّف بها الشارع التونسي، وكذلك الدول الغربيَّة، محذرًا من دعم هؤلاء الإسلاميين حتى لا يصلوا إلى السلطة فينشروا التطرف والعنف، وكان هذا التوجُّه من الديكتاتور تغطيةً لكلّ ما قام به من عمليات عنيفة من السجن والإعدام والنفي للإسلاميين التونسيين الذين كانوا هم الضحيَّة الأولى للنظام الاستبدادي، والذين تحمَّلوا ما لم يتحملْه غيرهم من اعتقالات ونفي وتشريد ومحاكمات ظالمة بل وقتل في بعض الأحيان.
والآن، وبعد أن تَمَّ إسقاط الديكتاتور على يد ثورة تاريخيَّة للشعب التونسي، فإن هذا الشعب يتطلَّع إلى استعادة هويته الإسلاميَّة التي سرقها منه الطغاة، وكذلك يتطلَّع إلى أن يتمَّ تمثيل كل قواه الحيَّة دون حجبٍ أو إقصاء أو استبعاد لأحد، وبالتالي يكون الإسلاميون على رأس التيارات السياسيَّة التي يجب أن تتصدَّر المشهد السياسي التونسي لسببين رئيسيين: السبب الأول أنهم التيار الشعبي الأول والأهم والأكبر، والسبب الثاني لكي تردّ لهم حقوقهم المسلوبة ولكي تداوى جروحهم ويُعاد إليهم اعتبارهم ويرفع عنهم الظلم الذي تعرَّضوا له.
الحركة الإسلاميَّة التونسيَّة مؤهَّلة للعب دورٍ مهم في المشهد التونسي لأنها تمتلك خبرات كبيرة تستطيع تسخيرها لخدمة وطنها، فمنذ تأسيسها في أواخر ستينيَّات القرن الماضي، لم تعرف هذه الحركة تيارات الغلوّ والعنف ولم تمارس العنف ضدّ الدولة أو المجتمع ولم تتورَّطْ فيه، وقد ساعد على ذلك وجود عالم دين في تأسيس الحركة مثل الشيخ حميدة النيفر، الذي عمل على ضبط التوجُّهات الفكريَّة، كما كان وجود راشد الغنوشي باعتباره مثقفًا قوميًّا، سببًا مهمًا في دمج الحركة مع المجتمع في الجامعات والنقابات وفي الشارع الفكري والسياسي، وكان لوجود عناصر قياديَّة مهمَّة مثل عبد الفتاح مورو وصلاح الجورشي، عاملًا مساعدًا لدفع شعبية حركة “النهضة” حتى أصبحت رقمًا مهمًّا وصعبًا يخشاه الديكتاتور، بعد أن تأكَّد أنه رغم ما في يده من سلطة ومن أجهزة أمن وشرطة وجيش لا يستطيع مجاراة الإسلاميين في شعبيتهم، بعد أن استغلوا المساجد والجامعات والنقابات في مواجهة تضليل علمانيَّة أجهزة الديكتاتور.
ولكن المشاورات التي أجراها رئيس الوزراء المؤقت محمد الغنوشي بزعماء الأحزاب السياسية للمشاركة في الحياة السياسية، والتي استبعدت “حزب النهضة” الإسلامي و”الحزب الشيوعي” من المشاركة في المحادثات الرامية إلى تشكيل الحكومة، بداية غير مطمئنة ولا تدعو إلى الارتياح.
فالمفترض أن يكون هذا وقت جمع كل فئات وتكوينات الشعب التونسي ورص صفوفه، ومن غير المنطقي أن يتم استبعاد أحد أو أن يتم السير على خطى الديكتاتور المخلوع في الاستبعاد والتهميش والإقصاء، خاصةً إذا كان هذا الإقصاء لأهم الفصائل وأكثرها شعبيَّة ومعاناة من سياسات الرئيس المخلوع.
لقد كان راشد الغنوشي هادئًا ومنطقيًّا ومقنعًا حينما أعلن عزمه العودة إلى تونس، وحينما أكَّد أن الحركة الإسلاميَّة ليست مرشَّحة للحكم في تونس، وأنه لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة المقبلة ولن يقدم مرشحًا إسلاميًّا من حركة “النهضة”، وكان أكثر إقناعًا حينما قال: إن الانتفاضة هي انتفاضة الشعب التونسي وليست للأحزاب ولا للقوى السياسيَّة، ولم يكن الإسلاميون ولا أي حزب سياسي آخر وراء تحريك الاحتجاجات، وثبت أن الشارع لا يحرِّكه حزب، وأنه ليس في قدرة أي حزب لا الإسلاميين ولا غيرهم أن يحرِّكوا كل هذه الملايين.
فلماذا إذًا يستمرُّ الخوف من الإسلاميين واستبعادهم؟ لقد كان من الضروري إصدار القرارات الفوريَّة للإفراج عن أكثر من أربعين ألف معتقل إسلامي أُضيروا من حكم بن علي وردّ اعتبارهم إليهم وتعويضهم، وكان من الضروري على قادة تونس الجدُد الاتصال بالشيخ راشد الغنوشي الذي قضى اثنين وعشرين عامًا في المنفى لكي يعود ويشارك في مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة، خاصةً وأنه رجل مثقَّف ومنفتح.
ربما كان إعلان “حركة النهضة” استعدادها للمشاركة في أي نقاشات لتشكيل حكومة ائتلافيَّة تعبّد الطريق لديمقراطية حقيقيَّة في تونس، توقعًا بعدم استبعاد الحركة، فلم يكن قادتها يتصورون هذا الاستبعاد.
لكن يمكن قبول الاستبعاد المؤقت، في ظلّ وجود دستور وقوانين معينة في حاجة إلى تغيير مستقبلي، خاصة وأن المستبعدين ليسوا “حركة النهضة” فقط، ولكن هناك اليسار المتطرف “حزب العمال الشيوعي”، بحجَّة أنهما غير قانونيين، كما أنه تَمَّ استبعاد الأحزاب الموالية للحكومة، وستكون الحكومة الجديدة مكونة من “حركة التجديد” (الشيوعي سابقًا)، و”الحزب الديمقراطي التقدمي” (تحالف قوميين عرب ويساريين)، و”التكتل الديمقراطي للعمل والحريات” (يسار ديمقراطي)، إضافة إلى شخصيات مستقلَّة.
لكن يبدو أن المشاورات الحالية ليست بعيدة عن مراقبة الجيش والقوى الغربيَّة وكذلك القوى الفكريَّة والسياسيَّة العلمانيَّة في تونس.
فالجيش التونسي، رغم دوره المهم والكبير في ثورة الشعب التونسي العظيمة، ورغم تخليه عن الديكتاتور وانحيازه للشارع التونسي، إلا إنه يبقى، مثله مثل بقية الجيوش العربية، يخشى الإسلاميين ويتوجس منهم خيفة، خاصة ما يعرض من دراسات وتقارير غربية وعلمانية عن الاتجاهات الإنغلاقيَّة والديكتاتوريَّة والمعادية للغرب عند التيارات الإسلاميَّة والخوف من أن تؤدي قيادة الإسلاميين لبلدانهم لمواجهة مع الغرب وحصار دولي مثلما هو واقع في أفغانستان وإيران والسودان.
كذلك فإن استبعاد الإسلاميين من المشاورات الحالية لتشكيل الحكومة ليست بعيدة عن موقف القوى الغربية، خاصَّة الولايات المتحدة وفرنسا، فهذه القوى هي التي ضغطت قبل ذلك حتى لا يتمَّ اعتماد نتائج الانتخابات البرلمانية الجزائرية عام 1990م، والتي كانت قد أفرزت اكتساحًا للإسلاميين، فهذه القوى تخشى الإسلاميين تمامًا وتتدخَّل بشكلٍ خفي وعلني للحيلولة دون قيامهم بدورهم في حكم بلادهم.
ورغم أن القوى الغربيَّة متأكِّدة من أن الإسلاميين ليسوا وراء ما حدث من ثورة كبيرة في الشارع التونسي، إلا إن موقف العداء الطبيعي لهم يجعل الغرب خائفًا منهم حتى ولو كانوا ضعافًا، لأنه يعتقد أنه متى تم توفير أجواء الحرية، ومتى تَمَّ إلغاء سياسات بن علي القمعيَّة، وكذلك سياسات تجفيف الينابيع والمنع والقمع والتضييق، ومتى تَمَّ إجراء انتخابات حرة تعتمد على التنافس الشريف والعادل والشفاف بين القوى السياسية المختلفة، فإن فوز الإسلاميين سيكون أمرًا شبه محسوم.
ولقد كان راشد الغنوشي، بحكم إقامته في الغرب لسنوات طويلة وفهمه للعقليَّة والنفسية الغربيَّة تجاه الإسلام والإسلاميين، واعيًا لذلك وهو ما اتضح في تأكيده على أنه سيعود إلى تونس ليكون ترسًا في ماكينة التحول الديمقراطي، فهو لم يخوّف الناس ولم يبشرْ باكتساح إسلامي، ولكنه يعرض دورًا للإسلاميين مثل غيرهم من التيارات المختلفة، في إطار تنافس عادل بين التيارات والقوى السياسيَّة التونسيَّة.
ولا يمكننا أن نغفل الدور السلبي للقوي السياسيَّة والفكريَّة التونسيَّة في التحذير والتخويف من الإسلاميين، فهذه القوى معادية بحكم التوجه والمنطلقات الثقافيَّة للإسلاميين ومتخوفة منهم، خاصةً وأن هذه القوى تشربت العلمانيَّة المتطرفة للنظام السياسي التونسي منذ الاستقلال عام 1956م وحتى الآن.
على أية حال، فإن المشهد السياسي الحالي في تونس لن يتبلور الآن بشكلٍ دقيق، خاصة مع استبعاد أطراف سياسية أساسية، سيكون هناك نظام مؤقَّت يقوم على أنقاض نظام الديكتاتور ويصحح ما أمكن ما أفسده، إلا أن الخريطة الحقيقيَّة لتوزيع القوى السياسيَّة لن يكون بالإمكان رسمها في غياب منافسة انتخابيَّة سليمة وقانونيَّة.
لكننا يمكن أن نتصور، بالإضافة لمكان بارز للإسلاميين، دور للتيار اليساري الذي يتمتع بشعبية في الأوساط النقابية، خاصةً في ظلّ الغياب الطويل للتيار الإسلامي، وسيكون هناك دور للأحزاب العلمانية، أما مصير حزب بن علي “التجمع الدستوري الديمقراطي” فسوف يكون إلى تفكُّك واضمحلال.
وكان أوج الصعود السياسي الإسلامي للحركة التونسيَّة عام 1989م، حينما خاضت حركة “النهضة” الانتخابات التشريعيَّة تحت قوائم مستقلَّة، فحصلت على حوالي 20% من الأصوات، باعتراف السلطة التونسيَّة نفسها، وقد عكس ذلك حجم شعبيَّة الإسلاميين في الشارع التونسي رغم إغراقه بعمليَّات مستمرَّة من العلمنة المتطرفة التي تكيل كل أنواع التهم للإسلاميين وللحركة الإسلاميَّة.
بعد نتائج الانتخابات بدأ بن علي يستشعر خطورة الإسلاميين الذين أصبحوا مؤهَّلين ليكونوا الخصم السياسي للنظام الحاكم، لذلك بدا النظام في مواجهتهم، خاصة بعد تقدّمهم بطلب الحصول على ترخيص قانوني قوبل بالرفض من طرف السلطة.
أصابت بن علي حالة من الخوف والهلع من حركة “النهضة” كممثلة للتيار الإسلامي، فبدأ تطبيق ما سمي “تجفيف الينابيع” أي ضرب كل ما من شأنه تغذية الهويَّة الإسلاميَّة في البلاد، وتَمَّ إرغام حركة “النهضة” على الانسحاب القسري من حلبة العمل السياسي، واضطرَّ قادة الحركة وعلى رأسهم زعيمها راشد الغنوشي، إلى مغادرة البلاد للعيش في المنفى.
وكان الديكتاتور المخلوع دائم استخدام ورقة الإسلاميين كي يخوّف بها الشارع التونسي، وكذلك الدول الغربيَّة، محذرًا من دعم هؤلاء الإسلاميين حتى لا يصلوا إلى السلطة فينشروا التطرف والعنف، وكان هذا التوجُّه من الديكتاتور تغطيةً لكلّ ما قام به من عمليات عنيفة من السجن والإعدام والنفي للإسلاميين التونسيين الذين كانوا هم الضحيَّة الأولى للنظام الاستبدادي، والذين تحمَّلوا ما لم يتحملْه غيرهم من اعتقالات ونفي وتشريد ومحاكمات ظالمة بل وقتل في بعض الأحيان.
والآن، وبعد أن تَمَّ إسقاط الديكتاتور على يد ثورة تاريخيَّة للشعب التونسي، فإن هذا الشعب يتطلَّع إلى استعادة هويته الإسلاميَّة التي سرقها منه الطغاة، وكذلك يتطلَّع إلى أن يتمَّ تمثيل كل قواه الحيَّة دون حجبٍ أو إقصاء أو استبعاد لأحد، وبالتالي يكون الإسلاميون على رأس التيارات السياسيَّة التي يجب أن تتصدَّر المشهد السياسي التونسي لسببين رئيسيين: السبب الأول أنهم التيار الشعبي الأول والأهم والأكبر، والسبب الثاني لكي تردّ لهم حقوقهم المسلوبة ولكي تداوى جروحهم ويُعاد إليهم اعتبارهم ويرفع عنهم الظلم الذي تعرَّضوا له.
الحركة الإسلاميَّة التونسيَّة مؤهَّلة للعب دورٍ مهم في المشهد التونسي لأنها تمتلك خبرات كبيرة تستطيع تسخيرها لخدمة وطنها، فمنذ تأسيسها في أواخر ستينيَّات القرن الماضي، لم تعرف هذه الحركة تيارات الغلوّ والعنف ولم تمارس العنف ضدّ الدولة أو المجتمع ولم تتورَّطْ فيه، وقد ساعد على ذلك وجود عالم دين في تأسيس الحركة مثل الشيخ حميدة النيفر، الذي عمل على ضبط التوجُّهات الفكريَّة، كما كان وجود راشد الغنوشي باعتباره مثقفًا قوميًّا، سببًا مهمًا في دمج الحركة مع المجتمع في الجامعات والنقابات وفي الشارع الفكري والسياسي، وكان لوجود عناصر قياديَّة مهمَّة مثل عبد الفتاح مورو وصلاح الجورشي، عاملًا مساعدًا لدفع شعبية حركة “النهضة” حتى أصبحت رقمًا مهمًّا وصعبًا يخشاه الديكتاتور، بعد أن تأكَّد أنه رغم ما في يده من سلطة ومن أجهزة أمن وشرطة وجيش لا يستطيع مجاراة الإسلاميين في شعبيتهم، بعد أن استغلوا المساجد والجامعات والنقابات في مواجهة تضليل علمانيَّة أجهزة الديكتاتور.
ولكن المشاورات التي أجراها رئيس الوزراء المؤقت محمد الغنوشي بزعماء الأحزاب السياسية للمشاركة في الحياة السياسية، والتي استبعدت “حزب النهضة” الإسلامي و”الحزب الشيوعي” من المشاركة في المحادثات الرامية إلى تشكيل الحكومة، بداية غير مطمئنة ولا تدعو إلى الارتياح.
فالمفترض أن يكون هذا وقت جمع كل فئات وتكوينات الشعب التونسي ورص صفوفه، ومن غير المنطقي أن يتم استبعاد أحد أو أن يتم السير على خطى الديكتاتور المخلوع في الاستبعاد والتهميش والإقصاء، خاصةً إذا كان هذا الإقصاء لأهم الفصائل وأكثرها شعبيَّة ومعاناة من سياسات الرئيس المخلوع.
لقد كان راشد الغنوشي هادئًا ومنطقيًّا ومقنعًا حينما أعلن عزمه العودة إلى تونس، وحينما أكَّد أن الحركة الإسلاميَّة ليست مرشَّحة للحكم في تونس، وأنه لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة المقبلة ولن يقدم مرشحًا إسلاميًّا من حركة “النهضة”، وكان أكثر إقناعًا حينما قال: إن الانتفاضة هي انتفاضة الشعب التونسي وليست للأحزاب ولا للقوى السياسيَّة، ولم يكن الإسلاميون ولا أي حزب سياسي آخر وراء تحريك الاحتجاجات، وثبت أن الشارع لا يحرِّكه حزب، وأنه ليس في قدرة أي حزب لا الإسلاميين ولا غيرهم أن يحرِّكوا كل هذه الملايين.
فلماذا إذًا يستمرُّ الخوف من الإسلاميين واستبعادهم؟ لقد كان من الضروري إصدار القرارات الفوريَّة للإفراج عن أكثر من أربعين ألف معتقل إسلامي أُضيروا من حكم بن علي وردّ اعتبارهم إليهم وتعويضهم، وكان من الضروري على قادة تونس الجدُد الاتصال بالشيخ راشد الغنوشي الذي قضى اثنين وعشرين عامًا في المنفى لكي يعود ويشارك في مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة، خاصةً وأنه رجل مثقَّف ومنفتح.
ربما كان إعلان “حركة النهضة” استعدادها للمشاركة في أي نقاشات لتشكيل حكومة ائتلافيَّة تعبّد الطريق لديمقراطية حقيقيَّة في تونس، توقعًا بعدم استبعاد الحركة، فلم يكن قادتها يتصورون هذا الاستبعاد.
لكن يمكن قبول الاستبعاد المؤقت، في ظلّ وجود دستور وقوانين معينة في حاجة إلى تغيير مستقبلي، خاصة وأن المستبعدين ليسوا “حركة النهضة” فقط، ولكن هناك اليسار المتطرف “حزب العمال الشيوعي”، بحجَّة أنهما غير قانونيين، كما أنه تَمَّ استبعاد الأحزاب الموالية للحكومة، وستكون الحكومة الجديدة مكونة من “حركة التجديد” (الشيوعي سابقًا)، و”الحزب الديمقراطي التقدمي” (تحالف قوميين عرب ويساريين)، و”التكتل الديمقراطي للعمل والحريات” (يسار ديمقراطي)، إضافة إلى شخصيات مستقلَّة.
لكن يبدو أن المشاورات الحالية ليست بعيدة عن مراقبة الجيش والقوى الغربيَّة وكذلك القوى الفكريَّة والسياسيَّة العلمانيَّة في تونس.
فالجيش التونسي، رغم دوره المهم والكبير في ثورة الشعب التونسي العظيمة، ورغم تخليه عن الديكتاتور وانحيازه للشارع التونسي، إلا إنه يبقى، مثله مثل بقية الجيوش العربية، يخشى الإسلاميين ويتوجس منهم خيفة، خاصة ما يعرض من دراسات وتقارير غربية وعلمانية عن الاتجاهات الإنغلاقيَّة والديكتاتوريَّة والمعادية للغرب عند التيارات الإسلاميَّة والخوف من أن تؤدي قيادة الإسلاميين لبلدانهم لمواجهة مع الغرب وحصار دولي مثلما هو واقع في أفغانستان وإيران والسودان.
كذلك فإن استبعاد الإسلاميين من المشاورات الحالية لتشكيل الحكومة ليست بعيدة عن موقف القوى الغربية، خاصَّة الولايات المتحدة وفرنسا، فهذه القوى هي التي ضغطت قبل ذلك حتى لا يتمَّ اعتماد نتائج الانتخابات البرلمانية الجزائرية عام 1990م، والتي كانت قد أفرزت اكتساحًا للإسلاميين، فهذه القوى تخشى الإسلاميين تمامًا وتتدخَّل بشكلٍ خفي وعلني للحيلولة دون قيامهم بدورهم في حكم بلادهم.
ورغم أن القوى الغربيَّة متأكِّدة من أن الإسلاميين ليسوا وراء ما حدث من ثورة كبيرة في الشارع التونسي، إلا إن موقف العداء الطبيعي لهم يجعل الغرب خائفًا منهم حتى ولو كانوا ضعافًا، لأنه يعتقد أنه متى تم توفير أجواء الحرية، ومتى تَمَّ إلغاء سياسات بن علي القمعيَّة، وكذلك سياسات تجفيف الينابيع والمنع والقمع والتضييق، ومتى تَمَّ إجراء انتخابات حرة تعتمد على التنافس الشريف والعادل والشفاف بين القوى السياسية المختلفة، فإن فوز الإسلاميين سيكون أمرًا شبه محسوم.
ولقد كان راشد الغنوشي، بحكم إقامته في الغرب لسنوات طويلة وفهمه للعقليَّة والنفسية الغربيَّة تجاه الإسلام والإسلاميين، واعيًا لذلك وهو ما اتضح في تأكيده على أنه سيعود إلى تونس ليكون ترسًا في ماكينة التحول الديمقراطي، فهو لم يخوّف الناس ولم يبشرْ باكتساح إسلامي، ولكنه يعرض دورًا للإسلاميين مثل غيرهم من التيارات المختلفة، في إطار تنافس عادل بين التيارات والقوى السياسيَّة التونسيَّة.
ولا يمكننا أن نغفل الدور السلبي للقوي السياسيَّة والفكريَّة التونسيَّة في التحذير والتخويف من الإسلاميين، فهذه القوى معادية بحكم التوجه والمنطلقات الثقافيَّة للإسلاميين ومتخوفة منهم، خاصةً وأن هذه القوى تشربت العلمانيَّة المتطرفة للنظام السياسي التونسي منذ الاستقلال عام 1956م وحتى الآن.
على أية حال، فإن المشهد السياسي الحالي في تونس لن يتبلور الآن بشكلٍ دقيق، خاصة مع استبعاد أطراف سياسية أساسية، سيكون هناك نظام مؤقَّت يقوم على أنقاض نظام الديكتاتور ويصحح ما أمكن ما أفسده، إلا أن الخريطة الحقيقيَّة لتوزيع القوى السياسيَّة لن يكون بالإمكان رسمها في غياب منافسة انتخابيَّة سليمة وقانونيَّة.
لكننا يمكن أن نتصور، بالإضافة لمكان بارز للإسلاميين، دور للتيار اليساري الذي يتمتع بشعبية في الأوساط النقابية، خاصةً في ظلّ الغياب الطويل للتيار الإسلامي، وسيكون هناك دور للأحزاب العلمانية، أما مصير حزب بن علي “التجمع الدستوري الديمقراطي” فسوف يكون إلى تفكُّك واضمحلال.
السيد أبو داود
المصدر: الإسلام اليوم
تعليقات