اليوم :20 April 2024

تفسير آية 8 إلى آية 20 من سورة البقرة

تفسير آية 8 إلى آية 20 من سورة البقرة

التفسير المختصر
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِالله وَبِاليوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} بل {يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آَمَنُوا} في الحقيقة {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}إن نتيجة الخداع تعود عليهم في صورة العذاب {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} المرض هو العلة، والمراد هنا أنهم يحترقون حسداً عندما يشاهدون تقدّم المسلمين بسبب سوء اعتقادهم ونفاقهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي إدعاءهم الإيمان كذباً {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إذا قيل للمنافقين ونصحهم أحد من المسلمين: إن مؤامراتكم الدنيئة بإثارتكم الفتن والتجسس لحساب الكفار فساد، فانتهوا عن ذلك، قالوا: لا نبغي إلا الإصلاح. فردّ الله عليهم قائلا: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} هذا بيان لجهلهم وغباوتهم، لأنهم يحسبون الفساد صلاحاً فلا وعي لهم، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا} بما أنتم به من صدق الرسول ودعوته {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} وإذا اجتمعوا بأصحابهم الذين يشبهون الشياطين في الفتنة والفساد، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ{إنا معكم على طريقتكم وعملكم وإنما قلنا للمؤمنين كان استخفافاً لهم واستهزاءا بهم {الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يجازيهم على استهزاءهم، {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ويمهلهم في ظلمهم الفاحش الذي يجعلهم في عمى عن الحق ثم يأخذهم بغتة.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} لقد خسروا في تجارتهم ولم يربحوا فيها، كيف وقد اختاروا خسيساً وحُرموا نفيساً، {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} أي مثل المنافقين الذين وقعوا في ظلمات الضلال بعد ما رأوا الحق المبين مثل الشخص الذي أوقد النار ثم وقع في الظلمات، فكذلك المنافقون وقعوا في ظلمات الضلال بعد ما رأوا الحق المبين. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} وكما أن الواقع في الظلمات لا يستفيد من بصره وسمعه ولسانه فكذلك هؤلاء لما وقعوا في ظلمات الضلال صاروا كالصم والبكم والعمي، ولا يرجعون عن ضلالتهم، وهذا مثال للمنافقين الذين دخل الكفر في جذور قلوبهم، واختاروه عن رضاهم، فلا يتفكرون في العودة إلى الحق.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَالله مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} هذا بيان لحال المنافقين الذين وقعوا في التذبذب. أحيانا يتمايلون إلى الحق إذا وضح لهم، ثم إذا غلبتهم أهواءهم أعرضوا عنه.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هؤلاء المنافقون حينما تلوح لهم الدلائل والآيات تبهرهم أضواءها فيهمون أن يهتدوا ولكنهم بعد قليل يعودون إلى الكفر والضلال، فهم في ريبهم وحيرتهم مترددون.

فقه الحياة أو الأحكام
المناسبة:
ذكرنا أنّ الله سبحانه وتعالى بيّن في الآيات الأولى من سورة البقرة، أن القرآن الكريم فوق الشك والريب، ثم ذكر أحوال المطيعين والعصاة في عشرين آية. ففي الآيات الخمسة الأولى ذكر حال المتقين، وذكر في الآيتين الأخريين حال الكفار الذين يعلنون كفرهم وإنكارهم، وذكر في ثلاث عشرة آية أخرى حال المنكرين الذين يظهرون الإسلام وليسوا بمؤمنين، وقد سماهم القرآن منافقين وقال في شأنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِالله وَبِاليوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} فكذب الله سبحانه وتعالى إدعائهم الايمانَ وقال إنهم يريدون بإدعائهم الخداع والمكر.
وبديهي أنهم لا يستطيعون أن يخادعوا الله ويعلمون ذلك، ولكنهم يريدون مخادعة الرسول والمؤمنين.
قال القرطبي رحمه الله نقلاً عن الحسن وغيره: وجعل خداعهم لرسوله خداعاً له، لأنه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا. [قرطبي: 196/1]
فالحاصل أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم، لأن الله سبحانه وتعالى فوق خداعهم ومكرهم، وأما الرسول والمؤمنون فهم محفوظون ببركة الوحي، فلا يضرّهم أحد منهم، فهؤلاء المخادعون سوف يذوقون وبال خداعهم في الدنيا والآخرة.
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله} المرض يقال لحالة تُخرج الإنسان عن الاعتدال المناسب وتسبب الخلل في أفعاله وتفضي في النهاية إلى الهلاك والموت. وفي الإصطلاح القرآني يطلق المرض على الأحوال النفسية التي تسبب الخلل في الحصول على الكمال والوصول إليه، وتوجب الحرمان من صالح الأعمال، وتفضي في النهاية إلى الهلاك والموت الروحاني.
قال الجنيد: تنشأ أمراض القلوب من إتباع الشهوات النفسانية، كما أنّ الأمراض الجسمية تنشأ من عدم الاعتدال في الأخلاط الموجودة في الجسم. لقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكفر المخفي في قلوبهم، ولا ريب أنه مرض كبير للروح والجسم. وأما كونه مرضاً روحياً فظاهر، لأن الكفر كفران بأنعُم الله الذي خلق الإنسان، وتمردٌ عن أحكامه، فليس هذا مرض كبير فحسب، بل وصمة عار على جبين الإنسان المخلوق، ويزيد هذا المرض شناعة أن صاحبه يحاول أن يخفيه ويبطنه ليحصل على حطام الدنيا الذليلة. فلا يجترأ على إظهار ما أبطنه وأخفاه، فهذه دناءة وسوء فعل، ومرض للروح. وأما كون النفاق مرضاً جسمياً فذلك لأن المنافق يعيش دائماً في خوف وذعر لكي لا يفشو سره ويظهر حاله، ولا ريب أنّ انشغال باطنه بهذه الفكرة يضر بجسمه وأعصابه، ثم يسبب مرض النفاق الحسد، لأن المنافق يحترق قلبه ويتشتت باله حينما ينظر تقدم المسلمين ورقيهم، فيبتلى نتيجة ذلك بأمراض جسمية خطيرة.
إن قوله تعالى {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} معناه أن الله تعالى يلطف بالمؤمنين ويرزقهم الرقي والتقدم ويوفقهم، والمنافقون يشاهدون كل ذلك فيشتد حسدهم ويزدادون مرضاً.
وفي الآية الرابعة والخامسة ردّ على المنافقين قولهم إنهم مصلحون؛ فبين الله سبحانه وتعالى أنّ الإنسان لا يعد مصلحاً بمجرد دعواه، ولو كان كذلك لقال كل من ارتكب جناية وظلماً أنه مصلح يريد الإصلاح، وإنما مدار الإصلاح على الأعمال التي يمارسها المرء. فإذا كانت أعماله صالحة ونيته صحيحة فهو مصلح، وإن كانت أعماله فاسدة فهو مفسد وإن ادّعى الإصلاح وزعم أنّ نيته صحيحة.
في الآية السادسة وضع أمام المنافقين معياراً للإيمان فقال: {آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ}، والمراد بالناس هنا باتفاق المفسرين الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، لأنهم هم الذين آمنوا وقت نزول القرآن. فجعل إيمانهم نبراساً لإيمان الآخرين. فاذا كان إيمان غيرهم مثل إيمانهم فهو مقبول عند الله، وإذا لم يكن كذلك لم يعتبر شرعاً.
نعم! لا تقبل عقيدة ولا عمل مهما كان حسناً في الظاهر إلا إذا وافقت عقائد الصحابة وأعمالهم.
إن المنافقين كانوا يقولون في الصحابة الكرام أنهم سفهاء، وكذلك قال الضالون قبلهم، لكن القرآن الكريم رفع الستار عن وجوه هؤلاء القائلين سيئي الأدب، فقال إن السفهاء هم الذين خالفوا الصحابة الكرام ولم يؤمنوا بآيات الله البينات مثل ما آمن بها الصحابة رضي الله عنهم.
وفي الآية السابعة ذكر الله تعالى نفاق المنافقين ومكرهم وتلوّنهم، وذكر كيفية تعاملهم مع المسلمين، وأنهم إذا قابلوا المسلمين قالوا أسلمنا وآمنا، وإذا خلوا إلى الكفار المعاندين وسألوهم عن إيمانهم ودينهم قالوا لهم إنا على دينكم وإنا معكم، ولكننا نسخر من المسلمين فنظهر الإيمان لديهم حتى يظنوا بنا خيراً، وإنما نريد بصنيعنا هذا أن نخادعهم ونلعب بعقولهم.
وفي الآية الثامنة أجاب الله عن صنيعهم وذكر أنهم باختيارهم هذه الطريقة إنما يريدون أن يستهزؤوا بالمؤمنين ويسفهوهم، ولكن ليس الأمر كما يزعمون، بل إنهم يسفهون أنفسهم، وإنما يمهلهم الله بحلمه، حتى إذا تمادوا في الغفلة والعصيان وكثرت ذنوبهم أخذهم بغتة وهم لا يشعرون، وإنما فعل الله ذلك بهم جزاء لاستهزائهم، وعبّر عن هذا الفعل بـ “الاستهزاء بهم”.
وفي الآية التاسعة ذكرت حالة المنافقين أنهم رأوا الإسلام من قريب وذاقوا حلاوته، وقد جربوا الكفر قبل ذلك وفضّلوا الكفر على الإسلام واختاروه لأهدافهم الذليلة، وسمى القرآن عملهم هذا بالتجارة وقال إنهم لم يحسنوا هذه التجارة ولم يربحوا فيها، لأنهم باعوا الإيمان وهو الأحسن والأغلى، واشتروا به الكفر الذي يسبب العذاب والعقاب.
وفي الآيات الأربعة الأخيرة ذكر مثالان لحالة المنافقين واضطرابهم إدانة لهم. وإنما أتى بمثالين لأنّ المنافقين كانوا على صنفين: صنف كانوا مطمئنين بكفرهم وإنما كانوا يتظاهرون بالإسلام لمصالح دنيوية يبغونها. وصنف كان يعجبهم الإسلام وقد كانوا يريدون أن يختاروه ولكن تمنعهم عن ذلك مطامعهم الدنيوية، فكانوا يعيشون في تذبذب واضطراب، فنبه الله تعالى هؤلاء الظالمين أنهم أيا كانوا فليعلموا أنهم لا يستطيعون الخروج عن قدرة الله تعالى وإحاطته، لأنه تعالى قادر على إهلاكهم والذهاب بأسماعهم وأبصارهم.
تستنبط من هذه الآيات الثلاث عشرة المشتملة على أحوال المنافقين أحكام ومسائل مهمة منها مايلي:

1ـ هل يختص النفاق بعهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
كان يمكن الاطلاع على نفاق المنافقين بطريقين، الأول: كان يخبر الله سبحانه وتعالى رسوله إن فلانا منافق وليس بمؤمن مخلص. الثاني: كان يصدر من الرجل قول أو فعل يخالف العقيدة الإسلامية فيدُلّ ذلك على أنه لا يؤمن بالإسلام حقيقةً .
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي لم يبق لمعرفة المنافقين إلا الطريق الثاني. فاليوم إذا وجدنا شخصاً يصدر منه قول أو فعل يخالف العقائد الإسلامية أو هو يستهزأ بشرع الله ومع ذلك يدعي الإسلام فهو منافق.
وقد يسمي المنافق في اصطلاح القرآن ملحداً كما قال الله سبحانه وتعالى: {الذين يلحدون في آياتنا} وسُمي المنافق زنديقاً في اصطلاح الحديث، وحكمه حكم عامة الكفار لأنه ثبت كفره بالدليل، ومن ثم قال علماء الأمة: إنّ المنافقين انتهت قضيتهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن من لم يكن مؤمناً فهو كافر.

2- حقيقة الإيمان والكفر
من تدبر في الآيات المذكورة تبينت له حقيقة الإيمان والكفر، لأنّ المنافقين ادعوا الإيمان وقالوا: «آمنا بالله» ولكن القرآن لم يصدق دعواهم وردّ عليهم، فقال: «وماهم بمؤمنين»، وهنا أمور تستحق الانتباه:
الأول: أن المنافقين الذين ذكر حالهم في القرآن الكريم كانوا من اليهود، ومن المعلوم أن اليهود كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولكن لم يكن في مذهبهم الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم حينما ادعوا الإيمان قالوا آمنا بالله واليوم الآخر، ماكانوا كاذبين في قولهم هذا لأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر كان من أصول مذهبهم فلماذا كذّبهم القرآن؟ وأي شيء كانوا ينكرون؟
الجواب عن هذه الشبهة أنّ الإيمان بالله واليوم الآخر لايقبل من العبد إلا إذا كان على الطريقة التي ذكرها القرآن الكريم وبينها النبي صلى الله عليه وسلم وذلك هو الإيمان المعتبر عندالله.
ومن ثم نرى أن القرآن الكريم لايسمي كل من ادعى الإيمان بالله واليوم الآخر مؤمناً ألا ترى إن المشركين أيضاً كانوا يؤمنون بالله تعالى وقدرته، وكذلك كانوا يؤمنون بنوع من الحساب يوم القيامة ولكن ليسوا بمؤمنين في نظر القرآن الكريم.
ومن المعلوم أنّ اليهود لم يكن إيمانهم بالله واليوم الآخر على الصفة التي ذكرها القرآن وبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يزعمون أن عزيراً ابن الله، وأنهم ذرية الأنبياء وأحباءالله فلن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ولا يسألون يوم القيامة، فردّ الله سبحانه وتعالى ما ادعوا من الإيمان بالله واليوم الآخر فقال وماهم بمؤمنين بل هم كاذبون.

3 ـ ضابطة لمعرفة الإيمان والكفر
والإيمان الذي يعتبره القرآن الكريم هو إيمان الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وذاك هو المقياس والضابطة. وقد ذكر ذلك في الآية الثالث عشرة من سورة البقرة {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس} فالذين يدعون الإيمان لا بالمفهوم الذي بينه القرآن وأوضحه النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر إيمانهم كما أنّ الطائفة القاديانية تدعي الإيمان وتزعم إنها تعتقد ختم النبوة بسيدنا محمد صلى الله عيله وسلم ولكن تفسيرها للعقيدة تختلف جداً عما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، فمثلاً يعتقدون بنبوة “ميرزا غلام أحمد القادياني” ويزعمون أن الإيمان بنبوة الرجل لاينافي عقيدة ختم النبوة، فانظر كيف يحرفون ماجاء به النبي صلى الله عيله وسلم وماكان عليه الصحابة فهذه الفئة تستحق أن يكون مصداقاً لقوله تعالى وما هم بمؤمنين. وجملة القول أن إيمان الصحابة هو المعيار وهو النبراس، فكلّ من خالف الصحابة واعتقد مالم يعتقدوه أوفسر العقيدة بغير ماهم عليه لم يكن مؤمناً في اصطلاح القرآن وإن ادعى الإيمان والإسلام، و إن صلّى وصام.
إزالة شبهة:
أمّا الاصطلاح المعروف «إن أهل القبلة لايكفّرون» يكون معناه في ضوء ماذكرنا أن الذين لاينكرون شيئاً من ضروريات الدين الإسلامي لايكفرون.
ولكن المنافقين الذين كانوا يصلون ويتوجهون إلى القبلة في صلواتهم إنما لم يعتبر إيمانهم لأنهم لم يكونوا يؤمنون بضروريات الدين الإسلامي كما آمن الصحابة الكرام.

4- الكذب خصلة شنيعة
مما يدعو إلى التأمل أن المنافقين قالوا: «آمنا بالله وباليوم الآخر» فلم يدعوا الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكونوا كاذبين في زعمهم فانظر كيف كانوا يجتنبون الكذب وهم منافقون، ولاريب أن الكذب خصلة شنيعة يتبعد عنها كل شريف ذو مروءة ولوكان كافرا أو فاسقاً.

5- مكانة الأنبياء والأولياء عند الله
ذكر في الآية إحدى خصائل المنافقين، وهي أنهم كانوا يخادعون الله والحال أنه لم يكن أحد منهم يقصد مخادعة الله تعالى أو يظن أنه يستطيع أن يخادع الله بفعله، بل هم كانوا يريدون خداع النبي وأصحابه، ولكن الله سبحانه وتعالى نظراً إلى مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لديه، وتشريفاً لهم وترفيعاً لشأنهم جعل خداعهم كخداعه. فعلم أن الذين يؤذون الأنبياء والأولياء كأنهم يؤذون الله تعالى فسيعاقبهم الله تعالى على سوء أعمالهم.

6- عقوبة الكذب وجزائه
ذكر في الآيات المذكورة أن سبب العذاب الأليم للمنافقين كذبهم، كما قال عزّ من قائل {ولهم عذاب أليم بماكانوا يكذبون}، إن الله تعالى جعل الكذب سبب العذاب في هذا الموضع، والحال أنّ الكفر والنفاق أكبر من الكذب، في هذا الأسلوب إشارة إلى أن الكذب هو رأس الفساد والخطايا، وهو الذي يؤدّى إلى الكفر والنفاق، ومن ثم نرى أنّ القرآن الكريم قرن ذكر الكذب بعبادة الأوثان، فقال سبحانه وتعالى: {واجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}.

7- تعريف الصلاح والفساد وعلامة المصلح والمفسد
لقد مضى في الآيات المذكورة إن المنافقين لما قيل لهم لاتفسدوا في الأرض، أجابوا متأكدين: {إنما نحن مصلحون} وتدلّ كلمة إنما في كلامهم على الحصر، كأنهم يدّعون أن جميع أعمالهم صالحة وهم بمعزل عن الفساد، لكن القرآن الكريم فنّد إدّعاهم وقال: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون} فعلمت هنا نكتتان، الأولى: أن أعمال المنافقين كانت فاسدة بسبب بثهم الفتن في الأرض.
والنكتة الثانية: إن المنافقين ما كانوا يريدون بث الفساد والفتنة في الأرض بل لايعرفون أنّ أعمالهم توجب فساداً في الأرض، كما صرّح القرآن بذلك فقال: «ولكن لايشعرون».
والحقيقة أن عوامل الفتنة والفساد في الأرض مختلفة، منها ما هو معلوم لدي الجميع مثل القتل والذنب والسرقة والغش والخدعة والاختطاف وسوء العمل، فيجتنب منها كل إنسان شريف، ومنها ما هو غير معلوم لكثير من الناس بل لايعرفها كثير من الناس. ولكنها تفسد الأخلاق وتفتح أبواب الفتن والفساد في الأرض.
وإن المنافقين بحجّة أنهم يجتنبون من القتل والذنب والسرقة وقطع الطريق وغيرها ويدعون أنهم مصلحون، فلا يعترفون بأنهم مفسدون ولكنهم في نفس الوقت لايحترزون من النفاق والحقد والحسد، وموالاة الأعداء، وهي الأمور التي تفسد الأخلاق، وتسبب الفساد في الأرض، وتنقص المروءة وتسقط منزلة الإنسان، وتجعله يرتكب المعاصي وسفساف الأمور، ويفعل مالا يتصور إنسان عاقل فضلاً عن إنسان مؤمن بالله واليوم الآخر.
نعمّ إذا فقد الإنسان حسن الخلق وفسد باطنه تعرضت حياته للفساد، ويعم هذا الفساد جميع شُعب الحياة، ثم يكبر هذا الفساد إلى أن يكون صاحبه أشد ضراوة من السباع وأضرّ من السارقين وقطاع الطريق، ويصل الفساد إلى حد لايمكن منعه بالقانون، لأن القانون يصنعه الإنسان ويطبقه فإذا فسد الإنسان من يصنع القانون ومن يراقب تطبيقه؟
وهذا ما نراه ونشاهده في العباد والبلاد بأم أعيننا، وهذا هو حال المجتمعات التي دخل فيها الفساد. ألاترى الحضارة كيف تتقدم كل يوم، والتعليم تمتد خيوطه إلى كل قرية وريف، ولانزال نسمع بكلمات مثل الحضارة والثقافة والتشريع من كل واحد، ونرى منظمات ولجان تحاول وضع القوانين وتنفق على تطبيقها مليارات، ولكن مع ذلك نشاهد أن الفساد يزداد كل يوم! لماذا؟
لأنّ القوانين ليست ماكينات أو أو أجهزة تعمل بنفسها بعد التشغيل، ولاشك أنّ القوانين تحتاج إلى رجال يطبقونها وإذا فسد الرجال فماذا تجدي القوانين؛ وهل تستطيع القوانين أن تصلح الرجال، كلا!
بل تعجز الحكومات، وقد يصدر الفساد من الحكومات نفسها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالإنسان ويركز جهوده في إصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق، لأنه كان يعلم أن صلاح المجتمع يكمن في صلاح الأفراد.
فإذا صلح الناس قلّت الحاجة إلى رجال الشرطة والمحاكم، وإن التاريخ يشهد أنه حيثما طبقت تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم ساد العدل والأمن العالمَ، ورأت الدنيا مالم تره قبل ذلك ولاتراه إلا بعد تطبيقها، كيف وإنّ تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم تبعث على العمل وتنشيء الخشية في القلوب وتثمر مخافة الله، وتجعل الإنسان يتفكر ويستعد ليوم يقوم فيه الحساب.
وهذه هي الصفات التي إذا فقدها الإنسان فلا يكفه عن الجريمة قانون ولا محكمة ولاجامعة على وجه الأرض ومما يؤسف أن الذين يتولون الأمور يتفكرون في كل شيء ويختارون كل طريق لإصلاح المجتمع وتطهيره من الفساد غير أنهم يتغافلون عن الأسباب التي توجب مخافة الله وخشيته بل قد يحاربونها فيفسدون في الأرض وهم لايشعرون، وذلك كما يقول المثل الهندي”مرض بڑهتاگيا جون جون دواكي (مازال المرض في ازدياد كلما ازداد الدواء).
قد يسهل الوقوف في وجه الذين يفسدون في الأرض جهاراً مثل السارقين والناهبين، ولكن هناك أناساً بعيدين من الإنسانية يتظاهرون بالإصلاح دائماً، يعرضون خططهم كأنهم يريدون الإصلاح ويقولون: إنما نحن مصلحون ولكن نياتهم فاسدة وأغراضهم سيئة فلاقبول لهم عندالله لأنه يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور ويعلم الصادقين والكاذبين، ويعلم من يريد الإصلاح ومن يريد غير ذلك كما قال عزمن قائل: {والله يعلم المفسد من المصلح}. و يتبين من هذا أن الله هو الذي يعلم حقيقة الصلاح والفساد وهو أعلم بنتائج الأعمال، فلابدّ من أمرين للإصلاح.
الأول: أن تكون نية المرء صحيحة وصالحة.
الثاني: أن يكون العمل مطابقاً للشريعة الإسلامية وأن يكون الإتجاه صحيحاً، فإذا فقد الأمران أو أحدهما فلايقبل العمل، فكم من عمل أراد صاحبه الإصلاح بذلك فصار سبباً للفتنة والفساد.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات