اليوم :19 April 2024

الفيلسوف الطبيب ابن سينا (370 – 428 ه = 980 – 1037 م)

الفيلسوف الطبيب ابن سينا (370 – 428 ه = 980 – 1037 م)
booaliاسمه ونسبه: هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا.
الحكيم الوزير, شرف الملك, عرف باسم: الشيخ الرئيس . وسماه الغربيون بأمير الأطباء, و أبو الطب الحديث.
أصله من بلخ، ومولده في بخارى.

مولده:
ولد سنة 370هـ 980م . في قرية (افشنا) قريبة من بخارى (في جمهورية أوزبكستان حاليا) من أب من مدينة بلخ (في أفغانستان حاليا) و أم قروية اسمها: “ستاره”.
وكان والده من العمال، من أهل بلخ من أتباع الباطنية، وقد كان يحضر اجتماعاتها السرّية ويعقد بعضها في بيته، ويحرص على حضور ابن سينا وأخيه لتلك الإجتماعات، وإن كان ابن سينا غير مقتنع بها.

بلخ:
مدينة مشهورة بخراسان, ومن أجلّ مدنها, خضعت بعد موت الأسكندر الكبير للحكم السلجوقي زمنا ثم خرجت عليه وانضمت إلى فارس, وكانت مركزا للثقافة اليونانية وسوقا نشطا للتجارة . تقع على الشاطئ الجنوبي لنهر جيحون وهي اليوم من بلاد الأفغان.

بخارى:
من بلاد ما وراء النهر ، تقع في إقليم الصغد غربي سمرقند . كانت قاعدة المملكة السامانية كما كانت إحدى مراكز الفكر الإسلامي . ينسب إليها عدد من العلماء منهم إمام أهل الحديث أبو عبدالله محمد بن إسماعيل المعروف بالبخاري وأبو زكريا عبدالرحيم بن أحمد التميمي وابن سينا وغيرهم . وتقع اليوم في إقليم أوزبكستان بروسيا الأسيوية.

نشأته العلمية:

اعتنى والده بتربيته وتعليمه، واهتم به اهتمامًا بالغًا، وكان الأبُ سعيدًا بولده غاية السعادة، فقد حفظ ابن سينا القرآن وسنَّه لم تتجاوز العاشرة، وأتم دراسة الفقه والحديث، كما درس العلوم المختلفة مثل الرياضيات، والفلك والطبيعة، والفلسفة والمنطق…

أساتذته:

حدث أن قدم إلى بخارى عالم متخصص بعلوم الفلسفة والمنطق اسمه”أبو عبدالله النائلي” وهو من فلاسفة الباطنية، فاستضافه والد ابن سينا، وطلب إليه أن يلقِن ابن سينا شيئاً من علومه، فما كان من هذا العالم إلا أن تفرَغ لتلميذه، وأخذ عليه دروساً من كتاب المدخل إلى علم المنطق المعروف باسم “إيساغوجي”. وما كان أشد اعجاب النائلي من تلميذه حين وجده يجيب عن الأسئلة المنطقية المحيِرة إجابات صائبة تكاد لا تخطر على بال معلّمه…
من أساتذته أيضا الشيخ اسماعيل الزاهد الفقيه, و أبوسهل المسيب المسيحي , و نوح القمري…

من تلاميذه:
1ـ محمد بن عبد الله بن أحمد المعصومي، أبو عبد الله: حكيم.
وكان ابن سينا يقول للمعصومي: أنت مني بمنزلة أرسطو من أفلاطون.
2ـ محمد بن يوسف الايلاقى، أبو عبد الله، شرف الزمان: حكيم، من الاطباء.
3ـ بهمن بار بن مرزبان الآذربايجاني (1066 م) حكيم، كان مجوسي الملة.
4ـ شرف الدين العلفي… وغيرهم.

نبوغه:
بدأ نبوغ ابن سينا منذ صغره, إذ يحكي أنه قام وهو لم يتجاوز الثامنة عشر بعلاج السلطان نوح بن منصور الساماني, وكانت هي الفرصة الذهبية التي سنحت لابن سينا, إلتحاقه ببلاط السلطان ووضعت مكتبته الخاصة تحت تصرف ابن سينا.
* أشهر كتبه (القانون) في الطب، يسميه علماء الفرنج (Canonmedicina) بقي معولا عليه في علم الطب ، ستة قرون، وترجمه الفرنج إلى لغاتهم، وكانوا يتعلمونه في مدارسهم، وطبعوه بالعربية في رومة  وهم يسمون ابن سينا Avicenne وله عندهم مكانة رفيعة.
* وبحث ابن سينا في أمراض شتى أهمها السكتة الدماغية، التهاب السحايا والشلل العضوي، والشلل الناجم عن إصابة مركز في الدماغ، وعدوى السل الرئوي، وانتقال الأمراض التناسلية، والشذوذ في تصرفات الإنسان والجهاز الهضمي. وميز مغص الكلى من مغص المثانة وكيفية استخراج الحصاة منهما؛ كما ميز التهاب البلورة ( غشاء الرئة ) والتهاب السحايا الحاد من التهاب السحايا الثانوي.

شرح أحواله:

ابن سينا يحكي لنا قصة حياته، وما عاناه في سبيل العلم, والمرء أدرى بأحواله، وأعرف بأفعاله وأقواله.
قال: كان أبي رجلاً من أهل بلخ، فسكن بخارى في دولة نوح بن منصور، وتولى العمل والتصرف بقرية كبيرة، وتزوّج بأمّي فأولدها أنا وأخي، ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلّم القرآن ومعلم الأدب، وأكملتُ عشراً من العمر، وقد أتيتُ على القرآن، وعلى كثير من الأدب، حتّى كان يقضي منّي العجب.
وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويُعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل، وكذلك أخي، فربّما تذاكروا وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي، وأخذوا يدعونني إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة والحساب، وأخذ يوجهني إلى من يعلمني الحساب.
ثم قدم بخارى أبو عبد الله الناتلي الفيلسوف، فأنزله أبي دارنا، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه إلى الشيخ إسماعيل الزاهد، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت المناظرة والبحث، ثم ابتدأت على الناتلي بكتاب ” إيساغوجي ” ، ولما ذكر لي أحد أن حدّ الجنس: هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع، وأخذته في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، تعجّب منّي كل التعجب، وحذّر والدي من شغلي بغير العلم، وكان أي مسألة قالها لي أتَصوَّرها خيراً منه، حتّى قرأتُ ظواهرَ المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبر.
ثم أخذتُ أقرأ الكتبَ لى نفسي، وأطالعُ الشروحَ، حتّى أحكمتُ علمَ المنطق، وكذلك كتاب أقليدس، فقرأتُ من أوله إلى خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم تولّيتُ بنفسي حلَّ باقيه، وانتقلتُ إلى المجسطي، ولما فرغتُ من مقدّماته… قال لي الناتلي: حلّها وحدك، ثمَّ اعْرضها عليَّ، لأبيِّن لك. فكم من شكل ما عرفه الرجل إلا وقت عرضته عليه، وفهمتُهُ إياه.
ثم سافر، وأخذتُ في الطبيعي والإلهي، فصارت الأبواب تنفتح علي، ورغبت في الطب، وبرزتُ فيه في مديدة، حتّى بدأ الأطباء يقرأون علي، وتعهدتُ المرضى، فانفتح علي أبواب المعالجات النفسية من التجربة مالا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر فيه، وعمري ست عشرة سنة.!
* ثم أعدت قراءة المنطق، وجميع أجزاء الفلسفة، ولازمتُ العلم سنةً ونصفا، في هذه المدة ما نمتُ في ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلتُ في النهار بغيره، وجمعتُ بين يدي ظهوراً، فكل حجة أنظر فيها أثبتُ مقدّمات قياسيّة، و رَتَّبتُها في تلك الظهور، ثمَّ نظرتُ فيها عساها تنتج، وراعيتُ شروطَ مقدّماته حتّى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة، وكلّما كنتُ أتحيّر في مسألة، أو لم أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددتُ إلى الجامع، وصلّيت، وابتهلتُ إلى مبدع الكلّ، حتّى فتح لي المنغلق منه، وتيسّر المتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، واشتغل بالكتابة والقراءة، فمهما غلبني النوم، أو شعرتُ بضَعف، عدلتُ إلى شُربِ قَدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوّتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما غلبني أدنى نوم أحلمُ بتلك المسائل بأعيانها.
* ثم إن كثيراً من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام، حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفتُ عليها بحسب الإمكان الإنساني، وكل ما علمتُه في ذلك فهو كما علمته، لم أزد فيه إلى اليوم، حتى أحكمتُ علمَ المنطق والطبيعي والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأتُ كتاب ” ما بعد الطبيعة ” فما كنتُ أفهم ما فيه، والتبس علي غرضُ واضعه، حتّى أعدتُ قراءتَه أربعينَ مرّة، وصار لي مَحفوظاً، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلتُ ” : هذا كتاب لا سبيل إلى تفهّمِهِ، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرتُ وقت العصر في الورّاقين، وبيد دلال مجلّد ينادي عليه، فعرضَه عليّ فردتُه ردَّ مُتَبَرّمٍ، فقال: إنّه رخيصٌ بثلاثة دراهم. فاشتريتُه، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ” ما بعد الحكمة الطبيعة ” ، ورجعتُ إلى بيتي، وأسرعتُ قراءتَه، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب، ففرحتُ وتصدّقتُ بشيءٍ كثير، شكراً لله تعالى.
* واتفق لسلطان بخارى، نوح بن منصور، مرضٌ صعبٌ فأجى الأطباء ذكري بين يديه، فأحضرتُ وشاركتُهم في مداواته، وسألتُه الإذنَ في دخول خزانة كتبهم ومطالعتِها وقراءة ما فيها من الكُتُب، وكَتْبِها، فأذنَ لي، ودخلتُ فإذا كتبٌ لا تُحصى في كلّ فنّ، ورأيتُ كتباً لم تقع أسماؤها إلى كثير من الناس، فقرأتُ تلكَ الكتبَ، وظفرتُ بفوائدها، وعرفتُ مَرتبَة كلّ رجل في علمه، فلمّا بلغتُ ثمانية عشر عاماً من العمر، فرغتُ من هذه العلوم كلّها، وكنتُ إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنّه معي اليوم انضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيءٌ.
* وسألني جارنا أبو الحسين العروضي، أن أصنّف له كتاباً جامعاً في هذا العلم، فصنفتُ له ” المجموع ” ، وسميته به، وأتيتُ به على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة.
* وسألني جارنا الفقيه أبو بكر البرقي الخوارزمي وكان مائلاً إلى الفقه والتفسير والزهد، شرح الكتب له، فصنفتُ له كتاب ” الحاصل والمحصول ” في عشرين مجلدة، أو نحوها، وصنَّفْتُ كتابَ ” البر والإثم ” ، وهذان الكتابان لا يوجدان إلّا عنده، ولم يعرفهما أحداً.
* ثم مات والدي، وتصرفت فيّ الأحوال، وتقلّدتُ شيئاً من أعمال السلطان …

ترحاله:

كان ابن سينا محبًّا للتّرحال لطلب العلم, رحل إلى خوارزم وهناك مكث عشر سنوات, ثمّ تنقّلَ بينَ البلاد ثمّ ارتحل إلى همدان وهناك مكث تسع سنوات غير أنّ حبّه للترحال دفعه إلى الرحيل إلى بلاط السلطان علاء الدولة في أصفهان.
* ثم انتقل إلى الري، وخدم السيدة وابنها مجد الدولة، وداواه من السوداء، فأقام إلى أن قصد شمس الدولة بعد قتل هلال بن بدر، وهزيمة جيش بغداد.
* ثم خرج إلى قزوين، وإلى همذان، ثم عالج شمس الدولة من القولنج، وصار من ندمائه، وخرج في خدمته.
* زار مدن عديدة منها: نسا، باورد، طوس، جاجرم ، جرجان، دهستان فمرض بها، ورجع إلى جرجان…
* ثم رد إلى همدان، ثم سألوه تقلّدَ الوزارة، فتقلدها، ثمّ اتّفق تشويش العسكر عليه، واتفاقهم عليه خوفاً منه، فكبسوا داره ونهبوها، وسألوا الأمير قتله، فامتنع وأرضاهم بنفيه، فتوارى في دار الشيخ أبي سعد أربعين يوماً، فعاود شمس الدولة القولنج، فطلب الشيخ فحضر، فاعتذر إليه الأمير بكل وجه، فعالجه، وأعاد إليه الوزارة ثانياً.
* ثم مات الأمير وبايعوا ولده، وطلبوا الشيخ لوزارته، فأبى، وكاتب علاء الدولة سراً، يطلب المصير إليه، واختفى في دار أبي غالب العطار، فكان يكتب كل يوم خمسين ورقة تصنيفاً في كتاب ” الشفا ” ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبة علاء الدولة، وأنكر عليه ذلك، وحثّ على طلبه، فظفروا به وسجنوه بقلعة فردجان، وفي ذلك يقول قصيدة، منها:
دُخُولِي بالْيَقِين كما تَرَاهُ … وكلُّ الشَّكِّ في أَمْرِ الخُروجِ
فبقي فيها أربعة أشهر، ثم قصد علاء الدولة همدان، فأخذها، وهرب تاج الملك، وأتى تلك القلعة، ثم رجع تاج الملك وابن شمس الدولة إلى همذان لما انصرف عنها علاء الدولة، وحملا معهما ابن سينا إلى همدان، ونزل في دار العلوي…
* ثم إنه خرج نحو أصبهان متنكراً، في زي الصوفية.

شعره:

انطَلَقَ الشّعرُ مِن شَفتَي ابن سينا كالماءِ فِي الجَداول , لم يجد فيه عناءً ولا مشقَّة ولا كُلفَةً, فكان الشعرُ عنده عَذبا فطريا ذكيًّا.
قسَّموا شعرَه إلى ثلاثة أقسام:
1ـ شَخصيٌّ . 2ـ   فلسفيٌّ . 3ـ تعليميٌّ.
ومن شعره القصيدة العينية، التي قالها في النفس، وولع الناس بشرحها، وحل رموزها، وكشف غوامضها، وهي هذه:
هَبَطتْ  إليكَ  مِن  المَحَلِّ   الأرْفَعِ  …  وَرْقَاءُ    ذاتُ    تَعَزُّزٍ    و   تَمَنُّعِ
مَحْجُوبةٌ  عن  كلِّ  مُقْلَةِ   عارِفٍ   …  و هِي  التي  سَفَرتْ  و لم  تَتَبَرْقَعِ
وَصَلتْ علَى  كُرْهٍ  إليك   و رُبَّمَا   …  كَرِهَتْ  فِراقَكَ  و هْيَ  ذاتُ تَفَجُّعِ
ألِفَتْ   و ما  ألِفَتْ  فلمَّا   وَاصَلَتْ  …  ألِفَتْ   مُجاوَرَةَ   الخَرَابِ    الْبَلْقَعِ
و أظُنُّها   نَسِيَتْ  عُهوداً   بالْحِمىَ  …  و   مَنازِلاً    بِفِرَاقِها     لم    تَقْنَعِ
حتى  إذا قَرُبَ الْمَسِيرُ مِن الْحِمَى   … و دَنَا  الرَّحِيلُ إلى الفَضَاءِ الأوْسَعِ
و غَدَتْ   مُفارِقةً   لكلِّ     مُخَلَّفٍ   … عنها  حَلِيفِ  التُّرْبِ  غيرِ   مُشَيَّعِ
وغَدَتْ  تُغَرِّدُ فوقَ ذِرْوَةِ   شاهِقٍ   … سَامٍ   إلى قَعْرِ الحَضِيضِ الأوْضَعِ
إنْ   كان  أرْسَلها   الإلهُ   لِحِكُمةٍ   … طُويَتْ  عن  الْفَطِنِ اللَّبيبِ الأوْرَعِ
فهُبُوطُها  إن كان ضَرْبَةَ لاَزِبٍ   …   في   العالَمِين   فَخَرْقُها  لم   يُرْقَعِ
وهي  التي قَطَع الزَّمانُ طَرِيقَها  …   حتى  لقد    غَرُبَتْ   بغيرِ  المَطْلَعِ
فكأنَّها     بَرْقٌ    تألَّقَ    لِلْحِمَى  …   ثم    انْطوَى    فكأنَّه     لم    يَلْمَعِ
تصوّر ابن سينا لأصل النفس:
من أين جاءت؟!
علاقة النفس بالبدن.
مصير النفس.
يقول: إنّها جاءت من محل أرفع؛ أي من فوق, وأتت رغما عنها وكارهة لذلك، ثم تتصل بالبدن؛ وهي كارهه لكنها بعد ذلك تألف وجودها بالبدن، وتألف البدن لأنّها نسيت عهودها السابقة كما يقول في قصيدته، إذن فهو يقول هبطت النفس من مكان رفيع، كرهت وأنفت البدن، ثم ألفته واستأنسته، ثم رجعت من حيث أتت وانتهت رحلتها.
* والآن في القسم الأخير من القصيدة يبدأ ابن سينا يتساءل لماذا؟ فيجيب أنها هبطت لحكمة إلهية، هبطت لا تعلم شيء لتعود عالمة بكل حقيقة ولكنها لم تعش في هذا الزمن إلا فترة.
* وله أبيات أخرى، وهو يجود بنفسه:
أقام رجالاً في مَعَارِجِه مُلْكَا … و أقْعَدَ  قَوْماً في غَوَايَتِهمْ هَلكَى
نَعُوذُ بكَ اللَّهُمَّ مِن شَرِّ فِتْنَةٍ … تُطَرِّقُ مَنْ حَلَّتْ بهِ عيشَةً ضَنْكَا
رَجَعْنَا إليكَ الآنَ فاقْبَلْ رُجُوعَنَا … وقَلِّبْ قُلوباً طال إعْراضُها عَنْكَا
فإنْ أنتَ لم تُبْرِئ سَقامَ نُفُوسِنَا … وتَشْفِ عَمَايَاهَا إذاً فلِمَنْ يُشْكَى
فقد آثَرتْ نفسِي لِقاكَ وقَطَّعَتْ … عليكَ جُفونِي مِن مَدامِعِها سِلْكَا
* قال ابن خلكان: ومن المنسوب إليه أيضاً، ولا أتحقق قوله:
اجْعَلْ غِذاءكَ كلَّ يَوْمٍ مَرَّةً … واحْذَرْ طَعاماً قبلَ هَضْمِ طَعامِ
واحْفَظْ مَنِيَّكَ ما اسْتَطَعْتَ فإنَّهُ … ماءُ الحياةِ يُصَبُّ في الأرْحَامِ
* ونُسبَ إليه أيضاً: من الخفيف
هذّبِ النَّفْسَ بالعُلومِ لِتَرقَى … وَ ذَرِ الكلّ  فهي  للكل بيت
إنّما النفس كالزجاجة والعل … م سراجٌ وحكمة الله زيت

شغفه بالعلم:
شُغِف ابن سينا بالعلم و تحصيله وتدوينه, لم يدع وقته يضيع هباءً في اللهو واللعب, فكان مكبا على العلم والاطلاع .
وكان يعود كل ليلة إلى داره، ويضع السراج ويشتغل بالقراءة والكتابة. فإذا غلبه النوم أو ابتدره ضعف مزاج شرب قدحاً من النبيذ.
وأحكم جميع العلوم، ووقف عليها بحسب الإمكان الإنساني. حتى فرغ من المنطق والطبيعي والرياضي. و(لم) يبالغ في علم الرياضي.
يقول ابن سينا:… ثم أعدت قراءة المنطق، وجميع أجزاء الفلسفة، ولازمتُ العلم سنةً ونصفا، في هذه المدة ما نمتُ في ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلتُ في النهار بغيره، وجمعتُ بين يدي ظهوراً، فكلّ حجّة أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية، ورتّبتُها في تلك الظهور، ثم نظرتُ فيها عساها تنتج، وراعيتُ شروط مقدماته حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة، وكلما كنت أتحيز في مسألة، أو لم أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق منه، وتيسر المتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، واشتغل بالكتابة والقراءة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما غلبني أدنى نوم أحلمُ بتلك المسائل بأعيانها.
* ومما يدل على شدة حرصه على العلم ما حكاه عن نفسه من أنه قرأ كتابًا للفارابي فلم يفهمه، وذات يوم وهو في السوق عرض عليه أحد البائعين كتابًا، فلم يلتفت إليه، فلما ألح البائع عليه، وعرضه بثمن رخيص اشتراه؛ فإذا به شرح لكتاب الفارابي، فأسرع ابن سينا إلى داره، وأخذ يقرأ الشرح، حتى فهم كل ما فيه، وقال في ذلك: وفرحت بذلك وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء شكرًا لله تعالى.

سبب تعلّمه اللغة:

وكان ابن سينا جالساً يوماً بين يدي الأمير، والأديب أبو منصور الجبان حاضر، فجرت في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فقال له أبو منصور: إنك حكيم، ولكنك لم تقرأ من اللغة ما يرضى به كلامك، فاستنكف ابن سينا من هذا الكلام، وأكب على درس كتب اللغة ثلاث سنين. وكان ينظر في كتاب تهذيب اللغة من تصنيف أبي منصور الأزهري.
فبلغ ابن سينا في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها. وأنشأ ثلاث قصائد وضمنها ألفاظاً غريبة، وكتب ثلاث رسائل على طريقة ابن العميد والصاحب والصابي وأمر بتجليدها وأخلاق جلدها. ثم سأل الأمير عرض تلك المجلدة على أبي منصور الجبان وذكر أنا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء في وقت الصيد، فيجب أن تنتقدها وتقرر لنا ما فيها. فنظر فيها الشيخ أبو منصور، وأشكل عليه كثير منها فقال له الشيخ أبو علي إن ما تجهله من هذا الكتاب مذكور في موضع كذا وكذا، وذكر له كتباً معروفة في اللغة، ففطن أبو منصور أن هذه القصائد والرسائل من إنشاء أبي علي فتنصل واعتذر إليه. ثم صنف ابن سينا كتاباً في اللغة وسماه لسان العرب، لم يصنف مثله، ولم ينقله إلى البياض فبقي على مسودته، لا يهتدي أحد إلى ترتيبه.

فكرُه الفلسفي:
يُعتَبر الفكر الفلسفي لأبو علي ابن سينا امتداد لفكر الفارابي و قد أخذ عن الفارابي فلسفته الطبيعية وفلسفته الإلهية, أي تصوره للموجودات وتصوره للوجود, وأخذ منه على الأخص نظرية الصدور وطوّر نظرية النفس وهو أكثر ما عني به.
كان يقول بنفس المبادئ التي نادى بها الفارابي من قبله بأن العالم قديم أزلي و غير مخلوق ، و أن الله يعلم الكليات لا الجزئيات ، و نفى أن الأجسام تقوم مع الأرواح في يوم القيامة . و قد كفره نتيجة افكاره هذه الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” ، و أكد نفس المعلومات ابن كثير في البداية و النهاية (12/43) .

نبذة من أخلاقه:
لاشك أن الرجل كان ذو شبهات دنيوية، محبا للحكام والسلاطين , محبا للجاه والمقام , ولكن كان يتوجه نحو هدفه بحذر وروية.
روى عنه تلميذه المخلص ابن أبي أصيبعة الذي صحبه 25 سنة: أن ابن سينا تناول حظه من شهوات الدنيا، وأنه أسرف في الجنس إسرافا كان من أسباب تدهور صحته، وأنه كان إذا فرغ من دروس الطب الليلية أحضر الشراب والآلات الموسيقية واستمر باللهو لساعات.
وكان ابن سينا دائمًا شارد الذهن، طويل التفكير، قلقًا مضطربًا، لانشغاله بقضية صعبة من القضايا الفلسفية أو العلمية التي تحير العقل وتشتت الذهن، طويل التفكير وكلما حدث له هذا، توضأ وخرج إلى المسجد؛ فيقضي نهاره في صلاة وعبادة وتضرع إلى الله، ثم يعود إلى داره بعد صلاة العشاء، فيشعل مصباحه ويراجع كتبه ويظل طوال الليل يفكر في الموضوع الذي يحيره، ومن شدة حرصه على إيجاد حل له كان يقرأ حتى يغلبه النوم.
قال أبو عبيد: وكان الشيخ قوي القوى وكان قوة المجامعة من قوات الشهوانية أقوى وأغلب، وكان كثيراً ما يشتغل، فأثر في مزاجه…

مؤلفاته:
وقد ألّف 200 كتاب في مواضيع مختلفة، العديد منها يركّز على الفلسفة والطب. إن ابن سينا هو من أول من كتب عن الطبّ في العالم ولقد اتبع نهج أو أسلوب أبقراط و جالينوس. وأشهر أعماله كتاب الشفاء وكتاب القانون في الطب.

ألّف فی الفلسفة:
الإشارات والتنبیهات : في كتابه كتاب الإشارات الذي ذهب فيه مذهب أرسطو وقربه قليلاً إلى الأديان، فهو مؤسس الإتجاه الفلسفي الذي تحدى العقيدة وفكرة النبوة والرسالة في الإسلام وكان يقول بقدم العالم وإنكار المعاد ونفي علم الله وقدرته وخلقه العالم وبعثه من في القبور.
الشفاء: في العلوم الآلية
وتشتمل على كتب المنطق، وما يلحق بها من كتب اللغة والشعر و العلوم و الطب.
ومن آثاره اللغوية: أسباب حدوث الخروف.
العلوم النظرية
وتشتمل على كتب العلم الكلّي، والعلم الإلهي، والعلم الرياضي.
في العلوم العملية
وتشتمل على كتب الأخلاق، وتدبير المنزل، وتدبير المدينة …
في الرياضيات
رسالة الزاوية, مختصر إقليدس, مختصر علم الهيئة, مختصر المجسطي…
في الطبيعيات وتوابعها
رسالة في إبطال أحكام النجوم, رسالة في الأجرام العلوية وأسباب البرق والرعد, رسالة في الفضاء, رسالة في النبات والحيوان .
في الطب
كتاب القانون في الطب. كتاب الأدوية القلبية , رسالة في الفصد,
كتاب دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية, رسالة في تشريح الأعضاء, رسالة في الأغذية والأدوية, أراجيز طبية, الألفية الطبية المشهورة التي ترجمت وطبعت …
في الموسيقى
مقالة جوامع علم الموسيقى, مقالة في الموسيقى.
ومقالات أخرى.
كشفت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة عن اقتنائها ثالث نسخة أصلية متوفرة في العالم لمخطوطة تشرح أرجوزة ابن سينا في الطب تم نسخها في مكة المكرمة اواخرا القرن الحادي عشر من الهجرة النبوية .

مذهبه الفقهي:
قال الصفدي صاحب الوافي بالوفيات :
وكان رأيه في الفروع رأي الإمام أبي حنيفة.
وعده التقي الغزي في الطبقات السنية في تراجم الحنفية – (ج 1 / ص 248)

عقيدته:
والناس في اعتقاده فرقتان، له، وعليه، والظاهر أنه تاب قبل موته، والله تعالى أعلم بحاله.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: وله كتابٌ “الشفاء” وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفّره “الغزّالي” في كتاب “المنقذ من الضلال”.
– وقال أيضا: وهو رأس الفلاسفة الإسلاميَّة، لم يأتِ بعد “الفارابي” مثله. فالحمد لله على الإسلام والسنَّة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله :… ومَن دخل في أهل الملل منهم كالمنتسبين إلى الإسلام كالفارابي وابن سينا ونحوهما من ملاحدة المسلمين…
– وقال أيضا: و”إشارات ” ابن سينا، يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أنَّ فيه إلحاداً كثيراً أ.هـ ‍” منهاج السنة ” (5/433).  
ذكر شيخُ الإسلامِ رحمه الله في كتابه المستطاب “منهاج السنَّة” بعضَ عقائد ابن سينا وردّ عليها، منها:
1. القول بقدم العالم.
2. قوله ” كلام الله هو ما يفيض على النُّفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعّال وإما من غيره”. “المنهاج” (2/359).
3. قوله ” إنَّ الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات”. “المنهاج” (2/575).

ابداعاته:
لقد كانت حياة ابن سينا حافلة بالنشاط والعمل، حتى إنه ترك لنا الكثير من المؤلفات في الرياضيات والمنطق والطبيعة والإلهيات والفلك والطب والصيدلة والأخلاق والسياسة وغير ذلك من علوم كثيرة، أما كتابه (القانون في الطب) فيعتبر من أعظم مؤلفاته على الإطلاق، وقد تناول فيه علم وظائف الأعضاء، وعلم الأمراض ومعالجتها وعلم الأدوية، كما بين فيه أخطاء الأطباء السابقين عليه من يونان وهنود.. وغيرهم.
وقد درس الأوربيون كتاب ابن سينا، وطوروا الطب من خلاله، ولشدة اهتمامهم بهذا الكتاب طبعوا منه ست عشرة طبعة في القرن الخامس عشر، ثم طبعوا منه عشرين طبعة في القرن السادس عشر، ثم تسعًا وثلاثين طبعة في النصف الأول من القرن السابع عشر، في الوقت الذي لم يطبعوا فيه من كتب (جالينوس) الطبيب اليوناني غير طبعة واحدة.
وبفضل جهود ابن سينا في مجال الطب، تقدمت تلك المهنة بسرعة كبيرة، وظهرت أجيال أخري من عباقرة الطب الإسلامي الذين طوروا الكثير من الأجهزة العلمية واكتشفوا الكثير من الأمراض مع بيان طرق علاجها والوقاية منها، ولابن سينا العديد من الاكتشافات، فقد اكتشف الديدان المعوية والدود المستدير (وهي ما نسميه الآن الإنكلستوما) وكان أول من نبه إلى أثر حالة المريض النفسية على جهازه الهضمي، وقرحة المعدة، والدورة الدموية وسرعة النبض، كما استطاع ابن سينا أن يصنف بدقة الأعضاء المختلفة لجسم الإنسان، كذلك سمى كل عضلة وعرق وعصب باسمه المشهور به، وابتكر عملية التخدير التي يجب أن تتم قبل إجراء أية عملية جراحية.
ولم يقتصر اهتمام ابن سينا على الطب، لكنه اهتم بعلم المنطق الذي ينظم تفكير الإنسان، وكتب في علمي النبات والحيوان، وكتب أيضًا في علم الكيمياء، كما كانت له دراسات في علم الفلك؛ فقد قرر حركة دوران الأرض وانجذابها إلى مركز العالم، كما تحدث عن سرعة الضوء والصوت، ولم يقف اهتمام ابن سينا على هذا الكم من العلوم، فقد اهتم أيضًا بدراسة النفس الإنسانية، وكانت أقواله في علم النفس ذات شأن كبير في العالم الإسلامي والأوربي، وقد استفاد من كتبه النفسيَّة كل من اطلع عليها في الشرق والغرب، وشهد أهل زمانه من العلماء والمفكرين بعلمه وفضله؛ حتى لقبوه بالشيخ الرئيس، ولقبه علماء الغرب (أبو الطب).
يقال: كان الطب معدوما فأوجده بقراط، وكان ميتا فأحياه جالينوس، وكان متفرقا فجمعه الرازي، وكان ناقصا فأكمله ابن سينا.

بعض إنجازاته:
* هو أول من حقن الإبر تحت الجلد.
* أول من استخدم التخدير لإجراء العمليات الجراحية.
* أول من فطن إلى تأثير النفس في الجهاز الهضمي.
* أول مَن صنَّف الديدان المعوية.
* أول من درس أحوال المعدة والأمعاء دراسة متخصصة متعمقة.
* أول من وصف الجهاز التنفسي .
* أول من وضع الثلج على الرأس.
* أول من اكتشف قانون الحركة في علم الديناميكا قبل “نيوتن”.
* أول من وصف خواص زيت الزاج والكحول, وأول من ابتكر طريقة تحضيرهما.
* أول من قال بالعدوى , وانتقال الأمراض المعدية عن طريق الماء , والتراب, وبخاصة عدوى السل الرئوي.
* أول من وصف التهاب السحايا.
* أول من اكتشف الفرق بين الإصابة باليرقان الناتج بسبب انحلال كريات الدم, واليرقان الناتج بسبب انسداد القنوات الصفراوية.

أقوال العلماء فيه:
دفعت عبقرية ابن سينا العلماء إلى الثناء عليه والإشادة به وبأعماله.
قال صاحب الطبقات السنية في تراجم الحنفية :
الحكيم المشهور، أحد فلاسفة المسلمين، ونادرة العصر في الذكاء والفطنة والعلم، بحيث صار ممن تضرب به الأمثال، وتعقد الخناصر عليه فحول الرجال.
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: كان ابن سينا آية في الذكاء هو رأس الفلاسفة الإسلاميين الذين مشوا خلف العقول، وخالوا الرسول.
وذكر ترجمته أيضا في سير, فقال: العلاَّمةُ الشَّهير، الفَيلَسُوفُ، أَبو عليّ الحسين بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن سينا البلخيُّ، ثمَّ البُخاريُّ، صاحب التَّصانيف …
وقال ابن خلكان: كان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه.
يقول ابن أبي أُصَيْبَعَةَ في كتاب” طبقات الأطباء”: كان أشهر من أن يُذكَر , وفضائله أظهر مِن أن تُسَطَّر.
يقول كارل بوير من علماء الغرب في كتابه تاريخ الرياضيات : أن الحضارة الإسلامية قد أنتجت عمالقة في العلوم كلها , بيد أن ابن سينا يعتبر حالة خاصة , فهو العالم الذي اكتسب علوم اليونان واستوعبها , ثم شرع بعدها في ابتكاراته, وانجازاته العلمية الكبرى , وهو الشيخ الرئيس , والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي.
ويؤكد رام لاندو في كتاب “الإسلام والغرب” قائلا:
ابن سينا من الطلائع العبقرية في الطب والفلسفة وبقية العلوم الأخرى, وظلّ طُوال ألف سنة يتمتع بشهرته الأصلية كواحد من أعظم علماء الطب والفلسفة في التاريخ.

وصية ابن سينا
لأبي سعيد ، فضل الله المِيْهَنِي:

ليكنِ اللهُ – تعالى – أَوّلَ فكرٍ لهُ وآخِرَه، وباطنُ كُلِّ اعتبَارٍ وظاهرَهُ، ولتكن عينُه مكحولَةً بالنَّظَر إِليه، وقَدَمُه موقُوفَةً على المُثُول بينَ يَديهِ، مُسافراً بعقله في المَلكُوتِ الأَعلَى وما فيهِ من آيات ربِّه الكبرَى، وإِذا انحط إِلى قراره، فليُنَزِّه اللهَ في آثَاره، فإِنَّه باطنٌ ظاهرٌ تجلَّى لِكُلِّ شَيءٍ بكُلِّ شَيءٍ ،
ففِي كُلِّ شيءٍ له آيَةٌ … تَدُلُ علَى أنَّه وَاحِدُ
فإذا صارت هذه الحال له ملكه انطبع فيها نقش الملكوت، وتجلى له قدس اللاهوت، فألف الأنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذ عن نفسه من هو بها أولى، وفاضت عليه السكينة، وحقت له الطمأنينة… وتذَكَّرَ نَفْسَه، وودَعَها، وكان معها كأنْ ليس معها، فأَفضلُ الحَرَكات الصَّلاة، وأَمثلُ السّكنَاتِ الصِّيامُ، وأَنفعُ البِرِّ الصَّدَقةُ، وأَزكى السِّرِّ الاحْتِمَالُ، وأَبطُل السَّعْي الرِّياءُ، ولن تخلُصَ النَّفسُ عَنِ الدوْنِ مَا التفتَتْ إِلى قيلٍ وقالٍ وجدال، وانفعلت بحال من الأحوال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما ينفرج عن جناب علم، والحكمة أمُّ الفضائل، ومعرفةُ الله أوّل الأوائل، (إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
… إِلى أَن قال: والمشروبُ فيُهجَرُ تلَهِّياً لا تَشَفِّياً.
ويعاشر كل فرقة بعادته ورسمه، ويسمح بالمقدور والتقدير من المال، ويركب لمساعدة الناس كثيراً مما هو خِلاف طبعه، ولا يقصِّر في الأَوضاع الشَّرعية، ويُعظِّمُ السُّنَن الإِلهية ، والمواظبة على التعبدات البدنية…

مرض ابن سينا و وفاته:
قال أبوعبيد وهو يذكر كثرة معاشرته مع النساء:
… وكان يعتمد على قوة مزاجه حتى صار أمره إلى أن أخذه القولنج وحرص على برئه حتى حقن نفسه في يوم ثمان مرات، فتقرح بعض أمعائه، وظهر به سحج، وسار مع علاء الدولة، فأسرعوا نحو إذج، فظهر به هناك الصرع الذي قد يتبع علة القولنج، ومع ذلك كان يدبر نفسه ويحقن نفسه لأجل السحج، فأمر يوماً باتخاذ دانقين من بزر الكرفس، في جملة ما يحتقن به، طلباً لكسر الرياح، وقصد بعض الأطباء الذي كان هو يتقدم إليه بمعالجته، فطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم، لست أدري أعمدا فعله أم خطأ، لأني لم أكن معه، فازداد السحج به من حدة البزر وكان يتناول المنزوديطوس؛ لأجل الصرع، فقام بعض غلمانه وطرح فيه شيءً كثيراً من الأفيون, فناوله فأكله, وكان سبب ذلك خيانتهم في مال كثير من خزانته، فتمنوا هلاكه ليأمنوا، فنقل الشيخ إلى أصبهان وبقي يدبر نفسه، واشتد ضعفه , ثم عالج نفسه حتى قدر على المشي لكنه مع ذلك يكثر المجامعة…
واشتد عليه المرض، فاشتاق للقاء ربّه وتصدّق بكلّ ماله، ولفظ أنفاسه الأخيرة في يوم الجمعة الأولى من رمضان سنة 428هـ/1037م.
قال ابن خَلِّكان: ثمّ اغتسل وتاب، وتصدَّق بما معه على الفقراء، وردَّ المَظالم، وأَعتقَ مماليكه، وجعل يَخْتِمُ القُرْآن في كلِّ ثلاثٍ، ثُمَّ مات يوم الجُمُعة في رمضان سنةَ ثمانٍ وعشرين وأَربعِ مائةٍ.
قال: ومولِده في صفر سنة سبعين وثلاث مائة.
قال الذهبي: إِن صَحَّ مولدُه، فَمَا عَاشَ إِلاَّ ثَمَانِياً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً وأَشهراً، ودُفن عند سُور همذان.
ولكن أخطأ الذهبي رحمه الله في العدّ, قال مرة : مات ابن سينا وله ثلاث وخمسون سنة, ومرة قال : 48سنة. والصحيح أنه عاش 58 سنة.
______________________________________________
من مراجع البحث:
الأعلام للزركلي – (ج 7 / ص 148)
معجم المؤلفين – للكحالة(ج 3 / ص 81)
الوافي بالوفيات – للصفدي (ج 4 / ص 252)
العبر في خبر من غبر – للذهبي (ج 1 / ص 196)
وفيات الأعيان – ابن خلكان(ج 2 / ص 160)
تاريخ الإسلام للذهبي – (ج 7 / ص 63)
سير أعلام النبلاء – للإمام الذهبي(ج 34 / ص 36)
مشاهير أعلام المسلمين / علي بن نايف الشحود.
ويكيبيديا  / الموسوعة الحرة.
تتمة صوان الحكمة – ظهير الدين البيهقي (ج 1 / ص 8)
الطبقات السنية في تراجم الحنفية – التقي الغزي (ج 1 / ص 248)
تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية لابن كثير – (ج 1 / ص 299)
وكالة الأنباء السعودية. الرياض 4 صفر 1430هـ الموافق 30 يناير 2009م واس.
ترجمة الفيلسوف الطبيب ابن سينا / إحسان بن محمد بن عايش العتيبـي.
عباقرة الإسلام ابن سينا/ محمد صديق المنشاوي

الكاتب: الشيخ أبو محمد البلوشي


تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات