اليوم :28 March 2024

نظرة إلى حياة‌ المؤلف‌ (رحمه الله)

نظرة إلى حياة‌ المؤلف‌ (رحمه الله)

إن‌ّ هذا العبد الضعيف‌ المسمى بـ”محمد شفيع‌ بن‌ الشيخ‌ محمد يسين” رحمه الله تعالی لا يدري‌ كيف‌ يشكر ربّه‌ علی‌ أنه‌ جعل‌ قرية “ديويند” التي هي‌ مركز للعلوم‌ الإسلامية‌ مسقطَ‌ رأسه‌، وجعلها موطنا له‌، وقدّر له أن يتربّى على والد كان عالما وحافظا لكتاب‌ الله ومعاصرا لجامعة دار العلوم‌ ديوبند.
لقد وفّق الله تعالى والدي الكريم ‌ للاستفادة‌ من‌ العلماء الربانين‌ ومجالستهم، فكان‌ دائماً يذكرهم‌ بخير، ويقص‌ّ علينا حكاياتهم‌، وقد قضی‌ حياته‌ من‌ الطفولة‌ إلی‌ الوفاة‌ في‌ ساحة‌ دار العلوم‌ ديوبند، فقد ترعرع‌ وتعلّم فيها‌، ثمّ اشتغل فيها بالتدريس‌ والتعليم إلی‌ أن توفّي رحمه‌ الله‌ تعالی‌.
قرأتُ القرآن‌ الكريم‌ باقتراح‌ من والدي علی‌ الحافظ‌ عبدالعظيم‌ والحافظ‌ “نامدارخانْ”‌ رحمهما الله‌ وكلاهما من أساتذة‌ دارالعلوم‌ ديوبند، ثم‌ّ تعلمت اللّغة‌ الأردية والفارسية‌ والحساب‌ والرياضيات‌ والقواعد الابتدائية للّغة‌ العربية‌ من‌ سيدي الوالد، بعد ذلك التحقتُ‌ بالقسم‌ العربي‌ عام‌ 1331هـ. وأكملت‌ الدراسة‌ حسب المنهج‌ النظامي‌ المعروف‌ عام‌ 1335 هـ وأتقنتُها علی‌ أيدي‌ أساتذة‌ بارعين قلّما يوجد أمثالهم‌ في‌ العالم‌.
كنتُ‌ أواظب‌ على حضور مجلس‌ العلامة‌ الكبير شيخ‌ الهند مولانا الشيخ‌ محمود الحسن‌ قدّس‌ سرّه‌ منذ صغري‌ إلی‌ المرحلة‌ المتوسطة‌، وكنت‌ أحضر ‌ دروس‌ صحيح‌ البخاري‌ لشيخ‌ الهند أحياناً، وقد بايعت‌ شيخ‌ الهند بعد إطلاق‌ سراحه‌ من‌ سجن‌ «مالطا‌» وعودته‌ إلی‌ الهند. (إن العلامة الكبير الشيخ محمود الحسن الديوبندي ملقّب بشيخ الهند)

أساتذة‌ المؤلّف‌
الأساتذة‌ الذين‌ درستُ عليهم‌ العلوم‌ العربية‌ والإسلامية‌ كما يلي‌:
1– الإمام‌ المحدث‌ صاحب‌ الكمالات‌، وجامع‌ العلوم‌، العلامة‌ الكبير “السيد محمد أنور شاه‌ الكشميري‌”.
2– العارف‌ بالله‌ مولانا المفتي‌ “عزيز الرحمن”‌.
3– العالم‌ الربّاني‌ مولانا “السيد أصغر حسين”‌.
4 – العلامة‌ الكبير شيخ‌ الإسلام‌ مولانا “شبير أحمد العثماني”‌.
5 – شيخ‌ الأدب‌ والفقه‌ مولانا “محمد إعزاز علي”.
6 – العالم‌ بالعلوم‌ النقلية‌ والعقلية‌ مولانا الشيخ‌ “محمد إبراهيم‌ البلياوي‌”.
7– مولانا الشيخ‌ “محمد رسول‌ خانْ”. وقد انتقل‌ الجميع‌ إلی‌ رحمة‌ الله‌ إلّا الشيخين‌ الأخيرين‌، أمدّ الله تعالی‌ في‌حياتهما مع‌ العافية‌ ونفع‌ بهما أهل‌ العلم‌. (وقد توفّي هذان الشيخان الجليلان ولحقا بالسلف بعد أن بدأ المؤلف يجدد النظر في تفسير معارف القرآن).
من‌ حسن‌ حظّي أني‌ كنت‌ أتمتع‌ بشفقة‌ الأساتذة‌ علي وعناية‌ المشايخ‌ بي‌.
عندما بدأت قراءة‌ بعض‌ الكتب‌ في‌ الفلسفة‌ مثل‌ “القاضي‌”، و”ميرزاهد”، و”الأمور العامة” ‌ سنة‌ 1336هـ. فوّض‌ إليّ‌ تدريس‌ بعض‌ الكتب‌ من‌ قِبَل‌ مشايخ‌ “دار العلوم”، فكنت‌ دارساً لبعض‌ الكتب‌ ومدرساً للبعض‌ في‌ تلك السنة،‌ ثم‌ عيّنتُ ‌مدرساً رسمياً ‌ عام‌ 1337هـ. من‌ الهجرة‌، فقمت‌ بتدريس‌ الكتب‌ في‌ مرحلتي‌ الثانوية‌ والعالية‌ نحو إثني عشر عاماً، ثم‌ جرى انتخابي كرئيس‌ المفتين‌ في‌ “دار العلوم‌” ‌ عام‌ 1349 من‌ الهجرة‌، كما فوّض‌ إليّ‌ تدريس‌ الحديث‌ والتفسير أيضاً.
وقد استقلتُ‌ من‌ “دار العلوم‌ ديوبند” عام‌ 1362هـ. وذلك‌ لمشاركتي‌ في‌ حركة‌ تأسيس‌ باكستان،‌ ولأسباب‌ أخری ‌يطول‌ ذكرها هنا.
قضيت‌ 26 عاماً في‌ خدمة‌ التدريس‌ والإفتاء بـ “دار العلوم‌ ديوبند”، وكنت‌ أهتمّ‌ بجانب‌ ذلك‌ إلی‌ تأليف‌ بعض‌ الكتب‌ في ‌الموضوعات‌ الخاصّة،‌ كما كنت‌ أهتمّ‌ بمجالسة‌ المشايخ‌، وكل‌ّ ذلك‌ سبّب‌ علاقة‌ بكتاب‌ الله‌ وسنة‌ النبي‌ صلّی الله عليه وسلم.
وممّا مَنّ الله‌ به عليّ أنّي‌ كنت‌ أحضر مجالس‌ الشيخ‌ المجدد، حكيم‌ الامّة‌ السيد “أشرف‌ علي‌ التهانوي‌” – قدسّ الله ‌سرّه‌ – أيام‌ دراستي‌، ثم‌ بايعته‌ عام‌ 1346هـ. ولازمت‌ صحبته عشرين‌ سنة‌ إلی‌ أن‌ توفّاه‌ الله‌ عام‌ 1362 من‌ الهجرة‌.
وإنّ الشيخ‌ “أشرف‌ علي‌ التهانوي‌” رحمه الله كان‌ من‌ الرّاسخين‌ في‌ العلم‌، وكان له‌ تبحّر في‌ جميع‌ العلوم‌ والفنون‌، لا سيما في التفسير والسلوك‌، فكان‌ له‌ علوّ كعب‌ فيهما، وتشهد بذلك‌ مؤلفاته‌ ورسائله‌ مثل‌ تفسير “بيان‌ القرآن” و”التكشف‌” و”التشرف‌”وغيرها‌.
لقد بدت للشيخ‌ أشرف‌ علي‌ التهانوي رحمه الله تعالی في‌ آخر عمره‌ ضرورة‌ تأليف‌ كتاب‌ في‌ موضوع‌ أحكام‌ القرآن‌ يسلّط‌ الأضواء علی‌ القضايا المعاصرة‌، فقَسّم‌ العمل‌ بين‌ أصحابه،‌ وفوّض‌ إليّ تأليف‌ جزء منه أيضا، فكتبت‌ بعض‌ ما فُوّض‌ إلي‌ّ في‌ حياته‌ وأكملته‌ بعد وفاته‌ بعون‌ الله‌ وتوفيقه‌، فطبع‌ في‌ مجلدين‌ باللغة‌ العربية،‌ هذا التأليف‌ بإشراف‌ سيّدي‌ حكيم الأمة التهانوي‌ رحمه الله أوجد في علاقة‌ خاصّة‌ بالقرآن‌ الكريم،‌ وزادني‌ طلباً في‌ معانيه‌ ومفاهيمه وحرصا عليها‌.
ثم‌ تقلّبت‌ الأوضاع التي أثرت في حياتي أيضا ابتداء من عام‌ 1365هـ. من‌ الهجرة‌ الموافق لـ‌ 1946 من‌ الميلادي حيث‌ حَدَثت‌ فكرة‌ تأسيس‌ باكستان‌، وتحوّلت‌ إلی‌ نهضة‌ شعبية‌ عمّت‌ الوطن‌، وكان‌ للمؤلف‌ إسهام‌ُ فيها بإشارة‌ من‌ الشيخ‌ التهانوي‌ والمشايخ‌ الآخرين‌ بعده‌، فقضيت‌ سنتين‌ ليلا ونهاراً لتطبيق‌ هذه‌ الفكرة‌، وقمت‌ برحلات‌ من‌ “مدراس‌” إلی‌ “بشاور” فكراتشي، وقد أدّت‌ جهودي ومشاركاتي لتأسيس‌ باكستان‌ إلی‌ الاستقالة‌ من‌ دار العلوم‌ ديوبند،, فحقق‌ الله‌ في‌ الأخير أمنية‌ المسلمين‌، فانقسمت‌ الهند، وتأسّست باكستان أكبر ‌دولة للمسلمين بهتاف الإسلام‌‌.
وإثر ذلك‌ تحوّلت‌ أحلام‌ الحكومة‌ الإسلامية‌ والنظام‌ الإسلامي‌ وتطبيقه‌ إلی‌ رجاء، ومن‌ ثم‌ اشتدت‌ حاجة‌ ‌الهجرة‌ إلی‌ باكستان‌ واتخاذها‌ موطناً، ولكن‌ كلما وقع‌ النظر إلی‌ الوطن‌ الأصلي‌ وإلى مدينة ديوبند وكونها مركزاً للعلوم‌ الإسلامية‌ وموئل‌ العلماء المتقين،‌ تذكرتُ‌ ما أنشده‌ السعدي‌ الشيرازي‌:
تولاي‌ مردان‌ اين‌ پاك‌ بوم‌ برانگيختم‌ خاطر از شام‌ و روم‌
[لأجل‌ محبة‌ رجال‌ هذه‌ البلاد تركت‌ فكرة‌ الشام‌ والروم‌]
ومن‌ ناحية‌ أخری‌ لم أكن‌ أری‌ مستقبلاً زاهراً للمسلمين‌ في‌ الهند والمراكز الدينية‌ هناك،‌ وذلك‌ نظراً إلی‌ الأوضاع ‌السياسية‌ السائدة،‌ ولكن‌ كنت‌ أرجو أن‌ تتوفّر عوامل‌ الإصلاح‌ والفلاح‌ في‌ باكستان‌، ومما يؤسف‌ أن‌ القتل‌ والخوف‌ والغارة قد عمّت‌ البلاد، وقد ضاقت‌ أرض‌ الهند على المسلمين، وشرّد‌ مئات‌ الألوف‌ منها إلی‌ باكستان‌، وكان الذين ‌يخرجون‌ إلی‌ باكستان يتعرضون‌ للقتل‌ والدمار والغارة‌ والاختطاف‌، فكانت‌ كارثة‌ مؤسفة‌، والذي‌ ينجح في الخروج‌ إلی‌ باكستان‌ كان‌ يعُدّ ذلك‌ كرامة‌ له، فلّما قلّت‌ هذه‌ المأسي والكوارث‌ بعد ثمانية‌ أشهر أراد أستاذي‌ شيخ‌ الإسلام ‌العلّامة‌ شبير أحمد العثماني‌ ووجهاء وأعيان من‌ كراتشي‌ أن‌ يقدموا خطة‌ للقانون‌ الإسلامي‌ إلی‌ الحكومة‌ تمهيداً لتحكيم ‌شرع‌ الله،‌ لأن‌َّ ذلك‌ كان‌ الهدف‌ الرئيسي‌ وراء تأسيس‌ باكستان‌، فدعيت‌ أنا وجماعة‌ من‌ العلماء من‌ الهند إلی‌ كراتشي‌.
كان‌ العشرون‌ من‌ جمادی الثانية‌ عام‌ 1367هـ. الموافق‌ لأوّل‌ 1948م. يوماً لايُنسي‌ في‌ حياتي‌ حيث‌ ودّعت‌ ديوبند مركز العلوم‌ الإسلامية‌، وفارقت‌ الوطن‌، وهاجرت‌ إلی‌ باكستان‌ مع‌ أولادي‌ الصغار، وتركت‌ الوالدة‌ وبعض‌الأولاد والأقرباء في‌ الهند، وكان‌ حادثاً مؤلما يشق‌ علی‌ النفس‌، وكانت‌ تهمني‌ مشكلات‌ الحياة‌ الآتيه‌ من‌ ناحية،‌ ومن ‌ناحية‌ أخری‌ تسرّني‌ فكرة‌ تأسيس‌ دولة‌ تطبق‌ فيها شريعة‌ الله‌، حتی‌ وصلت‌ إلی‌ ثغور باكستان‌ 26 من‌ جمادي‌ الثانية ‌عام‌ 1367هـ. واتخذت‌ كراتشي‌ وطنا واخترتها منزلا، واستغرق كل ذلك حتى الإقامة في‌ كراتشي‌ خمس‌ عشرة‌ سنة، ماذا رأيت‌ طوال هذه المدة، وماذا شاهدت‌ وبماذا واجهت‌ طوال هذه المدة‌،‌ فتلك‌ قصة‌ طويلة‌ لا يسعها هذا المقام‌، أمّا الأهداف‌ التي‌ أسست‌ لها باكستان‌ وما قدمنا من‌ الضحايا لأجلها فذهبت‌ أدراج الرياح‌ كالأحلام‌ التي‌ لم‌ تتحقق‌ وبقيت‌ كالخيال‌.
بلبل‌ همه‌ تن‌ خون‌ شد و گل‌ شد همه‌ تن‌ چاك ‌ اي‌ واي‌ بهاري‌ اگر اين‌ است‌ بهاري‌
[إن‌ البلابل‌ صارت‌ دامية‌ وتمزّق‌ الورد (لأجل‌ الربيع‌) وأسفی علی‌ الربيع‌ إن‌ كان‌ هذا ربيعاً]
ولا تزال‌ فكرة‌ التجديد وإصلاح‌ المجتمع‌ عن‌ طريق‌ الحكومات‌ تبقى كالخيال‌ والرؤياء، ولكن‌ الصحوة‌ الإسلامية‌ لا تزال ‌تزداد في‌ الجماهير المؤمنة‌ بحمدالله‌ وتوفيقه،‌ كما يوجد فيهم‌ عدد كبير من‌ أهل‌ التقوی‌ والدين‌ لا يستهان‌ بهم،‌ وهذا هو الشعور الذي‌ يفتح‌ الطرق‌ لخدمة‌ الإسلام‌ في‌ البلاد، كنا نفكر منذ فترة في تأسيس‌ مركز لخدمة‌ الإسلام‌ بجانب ‌جهودنا الاصلاحية‌ عن‌ طريق‌ الحكومات‌؛ ولتطبيق‌ هذه‌ الفكرة‌ بدأت‌ تفسير القرآن‌ وإلقاء الدروس‌ القرآنية‌ في ‌مسجد باب‌ الإسلام الواقع‌ بمنطقه‌ “آرام‌ باغ” في‌ كراتشي‌ وذلك‌ كل‌ يوم‌ بعد صلاة‌ الفجر، كما كنت‌ أجيب‌ عن‌ الأسئلة‌ الدينية،‌ فصار المسجد مركزاً للفُتيا وتفسير القرآن‌ الكريم‌، وقد أثرّت‌ الدروس‌ القرآنية‌ في‌ حياة‌ الناس‌ ونفعتهم‌ أكثر مما كنا نحسب‌، حتی‌ شوهدت‌ آثارها في‌ أعمالهم‌ وأخلاقهم‌.
وكان‌ هذا شغلي‌ الشاغل‌ إلی‌ أن‌ وفقت‌ بهذا العمل‌ الیومي‌ على أن‌ أكمل‌ تفسير القرآن‌ بعد سبعة‌ أعوام،‌ وقد كتبت‌ هذه‌ السطور في‌ شهر صفر عام‌ 1383هـ. عند ما أردت كتابة‌ تفسير معارف‌ القرآن‌، إلى أن‌ انقطع‌ العمل‌ ‌ سنة‌ 1388هـ. ثم‌ عزمت‌ علی‌ إنجاز عمل‌ التفسير، فاستمر ذلك‌ إلی‌ عام‌ 1392هـ. فاكتمل‌ في‌ خمسة‌ أعوام‌ وللّه‌ الحمد والمنة‌.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات