اليوم :29 March 2024

سلمة بن دينار (أبو حازم الأعرج)

سلمة بن دينار (أبو حازم الأعرج)

Imageهو الإمام, القدوة, الواعظ, الزاهد , القاضي , القاص, شيخ المدينة النبوية, أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج, التابعي الجليل, من عباقرة العالم الإسلامي. جذوره تمتد إلى الأصل الفارسي, فقد كان آباؤه وأجداده من طبقة الأوائل الذين أسلموا مبكرين, ودخلوا في دين الله, طوعا و رغبة.

مولده:

 ولد في أيام ابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهما.

 

أصله ونسبه:

أصله من فارس, أسلم آباءه ونزحوا عن ديارهم إلى أصول ومنابع الدعوة وألفوا الحياة مابين مكة والمدينة, وانتموا إلى بطن من بطون قريش بالولاء, فكانوا مخزوميين.

 

اسمه وكنيته:

اسمه سلمة وعرف أيضا بكنيته, أبي حازم, حتى إن كثيرا من المؤخرين آثروا ذكره وتعريفه بكنيته دون اسمه, لشدة الشهرة وغلبتها.

 

أساتذته:

روى عن سهل بن سعد الصحابي(وأكثر الرواية عنه) وأبي أمامة بن سهل, وسعيد بن المسيب, ومحمد بن المنكدر, وعطاء بن أبي رباح.

وروى عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص منقطعا.

هل سمع من الصحابة؟

ما سمع من الصحابة الا سهل بن سعد. قال ابنه: من حدث أن أبي سمع من أحد من الصحابة غير سهل بن سعد, فقد كذب.

 

تلاميذه:

روى عنه الزهري ومالك والثوري وابن عيينة وغيرهم.

 

توثقيه على لسان الأئمة:

وثّقه : ابن مَعين , وأحمد , وأبو حاتم .

قال ابن خزَيمةَ: ثقة، لم يكن في زمانه مثله.

و قال العجلي والنسائي: ثقة .

وذكره ابن حبان في الثقات.

 

علمه:

كان عالم المدينة وقاضيها وشيخها, وكانت حلقة أبي حازم في المسجد النبوي مهوى القلوب والأفئدة, ومحط أنظار العلماء والصلحاء.

وكان منزل سلمة بن دينار موردا عذبا لطلاب العلم, و رغَّاب الصلاح, يسألونه ويستزيدون من رقائق مواعظه, وبليغ حكمته, ودرر أقواله, على مختلف مراتبهم ومكانتهم, وكان يحترم أهل العلم جدا ولا يفرق في ذلك بين إخوانه و طلابه.

 

صفته و خلقه:

كان أعرجا فاشتهر أيضا بالأعرج, وكان أفزر(هو الأحدب الذي في ظهره عجرة عظيمة) وأيضا كان أحول, و أشقر(حمرة صافية وبشرته مائلة إلى البياض).

وقال الصفدي: كان أشقر, أحول, أفزر الشفة.

 وهذه العيوب والعاهات لا تؤثر في مقادير الرجال, ورفعة مكانتهم.

وكان رحمه الله قاصا يقص بعد الفجر, وبعد العصر في مسجد المدينة.

 

ذكاءه:

كان موهوبا, حاد الذكاء, شديد الفطنة, لماحا, يتمتع بواعية قل نظيرها. فأقبل على العلم إقبال النهم الظامئ حتى شبع وروى, وغدا في الطليعة, فكان عالم المدينة في عصره, فإذا قال أو أفتى كان في ذلك الفصل, فلا يعتد بغيره, ولا يؤخذ إلا برأيه.

وعليه فقد أسند إليه منصب القاضي في المدينة المنورة وما عرف عنه إلا الحق و نصاعة الكف.

 

أقوال العلماء فيه:

قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: ما رأيت أحدا, الحكمة أقرب إلى فيه من أبي حازم.

و قال ابن خزيمة: لم يكن في زمانه أحد مثله.

 

الزهد في الدنيا:

كان من عباد أهل المدينة, زاهدا زخارف الدنيا, بعث إليه سليمان بن عبد الملك صرة من الدنانير, فردها.

قال أبو حازم: قاتل هواك أشد ممن تقاتل عدوك.

قال رجل لأبي حازم إنك متشدد. فقال أبو حازم: وما لي لا أتشدد وقد ترصدني أربعة عشر عدوا, أما أربعة: فشيطان يفتنني, ومؤمن يحسدني, وكافر يقتلني, ومنافق يبغضني. وأما العشرة: فمنها الجوع والعطش والحر والبرد و العري والهرم والمرض والفقر والموت والنار, ولا أطيقهن إلا بسلاح تام , ولا أجد لهن سلاحا أفضل من التقوى.

 

الحكمة:

لقد تفاعلت في ذات أبي حازم أنوار التنزيل, فأضاءت قلبه بنور فياض, وتجاوبت بين جوانحه روائع الكلمات الزاخرات البينات من الحديث الشريف, بمنطوقها ومفهومها ودلالاتها.

ومن ثم تولدت لديه الحكمة والموعظة الحسنة,(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) البقرة/269.

 

قال له عبدالرحمن بن جرير: كثيرا ما حضضتنا على الشكر يا أبا حازم, فما حقيقة الشكر؟

قال: بكل عضو من أعضائنا حق علينا من الشكر.

فقال عبدالرحمن : فما شكر العينين؟

فقال: إن رأيت بهما خيرا أعلنته, وإن رأيت بهما شرا سترته.

ثم سأله فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيرا وعيته, وإن سمعت بهما شرا دفنته.

 فقال عبدالرحمن: فما شكر اليدين؟ قال: أن لا تأخذ بهما ما ليس لك, وأن لا تمنع بهما حقا من حقوق الله…..

ثم أضاف: فأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء, غير أنه أخذ بطرفه ولم يلبسه, فإن ذلك لا يقيه من الحر ولا يصونه من البرد.

 

اجتنابه من مخالطة الحكام:

كان رحمه الله لايدخل على الملوك, الا اضطرارا, اتقاء شرهم, ولا يقبل الهدايا منهم. وكان ينصح الحكام والأمراء, ولا يخشى في الله لومة لائم.

 

المجاهد في سبيل الله:

انخرط سلمة بن دينار في عداد الجند الذاهبين إلى أرض الروم غازيا مجاهدا في سبيل الله, تحت قيادة مسلمة بن عبد الملك.

وفي ليلة من الليالي أرسل الأمير إلى أبي حازم(وهم في المعسكر) يستدعيه ليحدثه و يفقهه.

فرد على الأمير: لقد أدركتُ أهلَ العلم وهم لا يحملون الدين إلى أهل الدنيا, ولا أحسبك تريد أن أكون أولَ من يفعل ذلك, فإن كانت لك حاجة فأتنا. والسلام عليك وعلى من معك.

فلما قرأ الأمير الجواب سعى إلى أبي حازم مسرعا, فسلم عليه, وقال:

يا أبا حازم, لقد وقفنا على ما كتبتَه لنا ؛ فازددتَ به كرامة عندنا وعزة لدينا, فذكّرنا و عظنا, جُزيتَ عنّا خير الجزاء.

وانطلق أبو حازم تتدفق الموعظة و الحكمة من فمه تدفق الماء الرقراق. وكان مما قاله:

أنظرـ أيها الأمير- إلى ما تحب أن يكون معك في الآخرة, فاحرص عليه في الدنيا, وانظر إلى ما تكره أن يكون معك هناك, فازهد منه هنا.

واعلم أيها الأمير أنه إن نفقَ الباطلُ عندك وراج ؛ أقبل عليك المبطلون المنافقون , والتفوا حولك.

وإن نفق الحق عندك وراج ؛ التف حولك أهلُ الخير, و أعانوك عليه, فاختر لنفسك ما يحلو.

 

من أقواله:

قال: اشتدَّت مُؤنَةُ الدِّينِ والدُّنيا.

قيل: وكيف؟

قال: أَمَّا الدِّين، فلا تجدُ عليه أَعواناً، وأَمَّا الدُّنيَا، فلا تمدُّ يدكَ إِلى شَيءٍ منها إِلاَّ وَجَدْتَ فاجراً قد سبقك إِليه.

و قال أَيْضاً: ليس للمُلُوك صديقٌ، ولا للحسود راحةٌ، والنَّظر في العواقب تلقيحُ العقول.

قال: لا تكُون عالِماً حَتَّى يَكُونَ فيكَ ثَلاَثُ خِصَالٍ: لاَ تَبغِ عَلَى مَن فَوقَكَ، وَلاَ تَحقِر مَن دُونكَ، ولا تَأخُذ على عِلْمِكَ دُنيَا.

قال: ما أَحببتَ أَن يَكُونَ مَعَكَ فِي الآخِرَةِ، فَاترُكهُ اليَوم.

وقال: يَسِيرُ الدُّنيا يُشغِلُ عَن كثير الآخرة.

وقال: انْظر الَّذي يُصلِحُكَ فَاعمل به، وإِن كان فَسَاداً لِلنَّاسِ، وَانظرِ الَّذِي يُفسِدُكَ فَدَعهُ، وَإِن كان صَلاَحاً لِلنَّاسِ.

وعنه، قال: شَيئَان إِذا عملتَ بهما، أَصبتَ خَيرَ الدُّنيا والآخرة.

قيل: ما هما؟

قال: تَحمِلُ ما تَكرهُ إِذا أَحَبَّهُ اللهُ، وَتتركُ مَا تُحبُّ إِذَا كَرِهَهُ اللهُ.

قال: لاَ تُعَادِيَنَّ رَجُلاً، وَلاَ تُنَاصِبنَّهُ حَتَّى تَنظرَ إِلى سَريرته بَينَهُ وبينَ اللهِ، فَإِن يَكُن لَهُ سَرِيرَةٌ حَسَنَةٌ، فَإِنَّ اللهَ لَم يَكُن لِيَخذِلَهُ بِعَدَاوتِكَ، وإِن كَانَت لَهُ سَرِيرةٌ رَدِيئَةٌ، فقد كفاك مَسَاوِئَهُ، ولو أَرَدتَ أَن تَعملَ به أَكثر من معاصِي اللهِ، لم تَقْدِر.

قال أَبُو حازم: وما إِبليسُ؟ لقد عُصِيَ فما ضَرَّ، ولقد أُطِيع فما نَفعَ.

وعنه: مَا الدُّنيا؟ ما مَضَى مِنهَا، فَحُلُمٌ، وَمَا بَقِيَ مِنهَا، فَأَمَانِي.

قال: السَّيِّئُ الخُلُقِ أَشْقَى النَّاسِ بِهِ نَفْسُهُ الَّتِي بَين جَنبَيه، هي مِنهُ في بلاءٍ، ثم زوجته، ثمَّ ولَده، حتَّى إِنَّهُ لَيَدخُلُ بَيته، وإِنَّهم لفي سُرُور، فَيَسمَعُون صَوتَهُ، فَيَنفِرُون عنه فَرَقاً منه، وحَتَّى إِنَّ دابَّته تَحِيدُ مِمَّا يَرمِيهَا بِالحِجَارَةِ، وَإِنَّ كَلْبَهُ لَيَرَاهُ فَيَنزو على الجدار، حَتَّى إِنَّ قطَّه ليفرُّ منه.

 

عن أَبي حازم، قال: إِذا رأيتَ ربَّك يُتَابعُ نِعمَةً عَلَيْكَ وأَنت تعصِيه، فَاحذَره، وإِذَا أَحببتَ أَخاً فِي اللهِ، فَأَقِلَّ مُخَالَطَتَهُ فِي دُنْيَاهُ.

 

عن أَبي حازم، قال: وَجَدتُ الدُّنيا شَيئَين: فَشيئاً هو لي، وشيئاً لغيري، فَأَمَّا مَا كَان لغيري، فلو طلبتُه بحيلة السماوات والأَرضِ لَم أَصِلْ إِلَيه، فَيُمنعُ رِزقُ غيري مِنِّي، كما يُمنَعُ رِزقِي مِن غيري.

قال: كُلُّ عَملٍ تَكرَهُ مِن أَجله المَوتَ، فَاترُكهُ، ثُمَّ لاَ يَضرُّكَ مَتى مِتَّ.

قال: لاَ يُحسِنُ عَبدٌ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ الله، إِلا أَحسن اللهُ مَا بَينه وبينَ العِبَاد، ولا يُعوِّرُ مَا بَينَهُ وَبَين الله ، إِلاَّ عَوَّرَ فِيمَا بَينه وبيْن العباد، لَمُصَانَعَةُ وَجهٍ وَاحِدٍ أَيسرُ مِنْ مُصَانَعَةِ الوُجُوه كُلِّها، إِنَّكَ إِذَا صَانَعتَه مالتِ الوُجُوه كلُّها إِليك، وإِذا استفسَدتَ مَا بينَه، شَنِئَتْكَ الوُجُوهُ كلُّها.

وقال: اكْتُم حَسنَاتِكَ كما تَكتُمُ سَيِّئَاتِك.

دخلَ أَبُو حَازم على أَمِير المَدِينة فقال له: تَكَلَّم.

قال له: انظر النَّاسَ ببابكَ, إِن أَدنيتَ أَهلَ الخير ذهَبَ أَهل الشَّرِّ، وَإِن أَدنَيتَ أَهلَ الشَّرِّ، ذَهَبَ أَهلُ الخَيرِ.

وقيل: إِنَّ بعض الأُمراء أَرسل إِلى أَبي حازم، فأَتاهُ وعنده الزُّهريُّ، والإِفريقيُّ، وغيرُهما، فقال: تكلَم يا أَبا حازم.

فقال أَبو حازم: إِنَّ خَيرَ الأُمراء من أَحَبَّ العُلَمَاءَ، وَإِن شَرَّ العُلَماءِ مَن أَحَبَّ الأُمَرَاءَ.

 

الجرأة في الحق:

ومما يدل على جرأته في قول الحق موقفه مع سليمان بن عبد الملك. وقد دخل المدينة زائرا بعد أن قضى مناسك حجه,

فلما حطَّ  رحاله فيها , أقبل وجوهُ الناس وذووا الأقدار للسلام عليه والترحيب به .

لكنَّ سلمة بنَ دينار قاضي المدينة وعالمَها الحجة , وإمامَها الثقة ؛ لم يكن في عداد مَن زاروا الخليفة .

ولما فرغ سليمان من استقبال المرحِّبين به , قال لبعض جلسائه :

إنّ النفوس لتصدأ كما تصدأ المعادن إذا لم تجد مَن يذكّرها الفينة بعد الفينة , ويجلوا عنها صدأها.

فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين .

فقال: أما في المدينة رجل أدرك طائفةً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا ؟

فقالوا بلا يا أميرالمؤمنين …

ها هنا ابو حازم الأعرج .

فقال : ومَن أبو حازم الأعرج ؟.

فقالوا سلمة بن دينار عالم المدينة وإمامُها , وأحد التابعين الذين أدركوا عددا من الصحابة الكرام.

فقال: ادعوه لنا , وتلطفوا في دعوته .

فذهبوا إليه ودعوه .

فلما أتاه رحّب به وأدنى مجلسَه وقال له معاتبا :

ما هذا الجفاء يا أبا حازم؟

فقال أبو حازم : وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟

قال سليمان: زارني وجوه الناس ولم تزرني!!.

فقال: إنما يكون الجفاء بعد المعرفة …

وأنت ما عرفتني قبل اليوم, ولا أنا رأيتك, فأي جفاء وقع مني؟

فالتفت الخليفة إلى الجلساء وقال: أصاب الشيخ في اعتذاره, وأخطأ الخليفة في عَتْبِه عليه.

ثم قال لأبي حازم: إن في النفس شئونا أحببت أن أفضِيَ بها إليك يا أبا حازم.

فقال: هاتها يا أمير المؤمنين, والله المستعان.

فقال الخليفة : يا أبا حازم ما لنا نكره الموت ؟

فقال : لأنّنا عمَّرنا دنيانا و خرَّبنا آخرتنا, فكرهنا أن ننتقل من العمار إلى الخراب.

فقال الخليفة: صدقت! صدقت! ثم سأل: يا أبا حازم ما لنا عند الله غدا ؟.

فقال: اعرِضْ نفسك و عملك على كتاب الله عزوجل تجدْ ذلك.

قال: وأين أجدُه في كتاب الله عزوجل؟

قال: تجده في قوله- سبحانه – (إنّ الأبرارَ لفي نعيم o وإنَّ الفُجَّارَ لَفي جَحيم)

[ الإنفطار:13-14].

فقال الخليفة : إذن فأين رحمةُ الله بعباده؟

فقال أبو حازم: (إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين)   [الأعراف:56].

قال الخليفة : قل لي يا أبا حازم, كيف قدومنا على الله تعالى؟

 قال: أمّا المُحسِن ؛ فكالغائب يكون  يقدَمُ على أهله وصحبه وأحبابه, في شوق ولهفة.

وأمّا المُسيءُ ؛ فكالعبد الآبق يُساقُ إلى مولاه سَوقا.

فبكى الخليفة حتى علا نحيبه, واشتدَّ بكاؤه ,

ثم قال: يا أبا حازم كيف لنا أن نَصلُحَ؟

قال: تَدَعون عنكم الصَّلَفَ(التكبر), وتتحلَّون بالمروءة.

فقال الخليفة : وهذا المال, ما السبيل إلى تقوى الله فيه؟

قال : إذا أخذتموه بحقه, ووضعتموه في أهله, وقسمتموه بالسوية, وعدلتم فيه بين الرعية.

فقال : أخبرني مَن أفضلُ الناس؟

قال : أولو المروءة والتقى.

فقال سليمان: وما أعدل القوم يا أبا حازم؟

قال: كلمة حق يقولها المرء عند من يخافه, وعند من يرجوه.

قال : فما أسرع الدعاء إجابة يا أبا حازم؟

قال: دعاء المحسن للمحسنين.

ثم سأله: وما أفضل الصدقة؟

أجاب: جُهد المقلّ من غير أن يتبعه منّ ولا أذى.

فقال الخليفة سليمان : من أكيس الناس يا أبا حازم ؟.

قال: رجل ظفِرَ بطاعة الله تعالى فعمل بها, ثم دلَّ الناسَ عليها.

قال : ومن أحمق الناس؟

قال: رجل انساق مع هوى صاحبه, وصاحبه ظالم, فباع آخرته بدنيا غيره.

وارتفع رصيد الإعجاب بأبي حازم عند الخليفة.

فقال له: هل لك أن تصحبنا, فتصيب منا, ونصيب منك.

فقال أبو حازم: كلا يا أمير المؤمنين.

فقال: ولم ؟!

قال: أخشى أن أركن إليكم قليلا, فيُذيقَني اللهُ ضِعفَ الحياة وضعف الممات.

قال: ارفع إلينا حاجتك. فسكت ولم يجب…

فأعاد عليه قوله: ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم نقضها لك مهما كانت.

قال: حاجتي أن تنقذني من النار, وتُدخِلني الجنة.

فقال الخليفة: ذلك ليس من شأني يا أبا حازم.

فقال أبو حازم: ما لي من  حاجة سواها يا أمير المؤمنين.

قال له: أدع لي يا أبا حازم.

قال: اللهم إنْ كان عبدُك سليمان من أوليائك فيسِّره إلى خيرَي الدنيا والآخرة، وإنْ كان من أعدائك فأصلحه، واهدِهِ إلى ما تحب وترضى.

فقال رجل من الحاضرين: بئس ما قلت منذ دخلتَ على أمير المؤمنين، فلقد جعلت خليفة المسلمين من أعداء الله، وآذيته بهذا الكلام.

فقال أبو حازم: بل بئس ما قلت أنت، فلقد أخذ الله على العلماء الميثاق بأن يقولوا كلمة الحق، فقال تعالى:

 ( سورة آل عمران : 187) .

ثم التفت إلى الخليفة، وقال:

يا أمير المؤمنين، إن الذين مضوا قبلنا من الأمم الخالية، ظلُّوا في خير وعافية، ما دام أمراؤهم يأتون علمائهم رغبة فيما عندهم، ثم وُجِد قوم من أراذل الناس تعلَّموا العلم، وأَتَوْا به الأمراء يريدون أن ينالوا به شيئاً من عرض الدنيا، فاستغنَتِ الأمراء عن العلماء، فتَعِسوا ونُكِسوا ، وسَقطوا من عين الله عز وجل.

ولو أن العلماء زهدوا فيما عند الأمراء، لرَغِب الأمراءُ في علمهم، ولكنهم رغبوا فيما عند الأمراء فزهِدوا فيهم، وهانوا عليهم.

فقال الخليفة : صدقتَ، زدني من موعظتك يا أبا حازم، فقال: إنْ كنتَ من أهل الاستجابة فقد قلتُ لك ما فيه الكفاية، وإنْ لم تكن من أهلها فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر.

فقال الخليفة: عزمتُ عليك أنْ توصيني يا أبا حازم .

فقال نعم: أوصيك وأوجز، عظِّم ربَّك عزوجل ونزِّههُ أن يراك حيث نهاك، وأن يَفْقِدَك حيث أمرك.

ثم سلم وانصرف .

*  *  *

ما كاد أبو حازم يبلغ بيته , حتى وجد أنّ أميرالمؤمنين قد بعث إليه بصُرَّة مُلئَت دنانير, وكتب رقعة قال فيها: أَنْفقها ولك مثلها كثيرٌ عندي،

فرَدَّها، وكتب إليه يقول: يا أمير المؤمنين، أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هَزْلاً ، ورَدِّي عليك باطلاً، فواللهِ ما أرضى ذلك يا أمير المؤمنين لك، فكيف أرضاه لنفسي؟!

يا أمير المؤمنين, إنْ كانت هذه الدنانير لقاءَ حديثي لك فالميتة ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ من هذه الدنانير،

وإن كانت حقاً لي من بيت مال المسلمين , فهل سوَّيتَ بيني وبين الناس جميعاً في هذا الحق؟!.

 

من مروياته:

عن أَبي حازم، عن سهل بنِ سَعد:

عن النَّبيِّ -صلَى اللهُ عليه وسلَم- قال: (مَن نَابَهُ فِي صَلاَتِهِ شَيءٌ، فَلْيَقُل: سُبحَانَ اللهِ، إِنَّمَا التَّصفِيقُ للنِّسَاءِ، وَالتَّسبِيحُ لِلرِّجَال).

قال الذهبي:

هذا حديث صحيح، أَخرجه: ابنُ ماجه، عن الثِّقة ، عن سُفيانَ بن عُيينةَ.

وهو في (صحيحِ البخاريّ): من طريق الثَّوريِّ.

 

عن أَبي حازم، عن سهل بن سَعدٍ:

سمعتُ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- يقول: (غَدوَةٌ في سَبيل الله، أَو روحَةٌ في سبيل الله، خيرٌ من الدنيا وما فيهَا، ومَوضِعُ سَوْطٍ في الجنَّة، خيرٌ مِن الدُنيا وما فيهَا).

أَخرجه: التّرمذي، من حديث العَطَّاف، وصحَّحه.

وهو في (البخاريِ)، و(مسلم): من رواية عبد العزيز بن أَبي حازم، عن أَبيه.

 

وفاته:

قال محمد بن مُطَرِّف : دخلنا على أَبي حازم الأَعرجِ لمَّا حضرَهُ الموتُ، فقلنا: كَيف تجِدُك؟

قال: أَجِدُني بخير، راجياً لله، حسنَ الظنِّ به، إِنَّه – والله- ما يستوي من غدا أَو راحَ يعمُرُ عقدَ الآخرة لنفسه ، فيقَدِّمها أَمامه قبلَ أَن يَنزِلَ به الموتُ، حتَّى يَقْدَمَ عليها، فيقوم لها وتقوم له، ومَن غدا أَو راحَ في عقد الدنيا يَعمُرُها لغيره، ويرجعُ إِلى الآخرة لا حظّ له فيها ولا نصيب .

ولما أقبل الموتُ على أبي حازم الأعرج, قال له أصحابه:

كيف تجدك يا أبا حازم؟

فقال: لئن نجونا مِن شرّ ما أصبناه من الدنيا, فما يضرّنا ما زَوَى عنّا منها.

ثم قرأ الآية الكريمة:

(إن الذين آمنوا وعملواالصالحات سيجعلُ لهم الرحمن ودا)

وما زال يكررها حتى أتاه اليقين.

 

مات: سنة أربعين ومائة, في خلافة أبي جعفر.

 

 

كتبه الشيخ عبدالحميد نور

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المنابع:

الوافي بالوفيات/ للصفدي.

تهذيب التهذيب/ للإمام ابن حجر العسقلاني.

موسوعة الأعلام/ وزارة الأوقاف المصرية.

سير أعلام النبلاء/ للإمام الذهبي. مؤسسة الرسالة.

موقع قصة الإسلام.

موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية.

تذكرة الحفاظ – (ج 1 / ص 133). للذهبي.

صور من حياة التابعين(ص185) للدكتور الباشا.

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات