علمنا الذي نتحدث عنه اليوم هو الفقيه المجتهد محمد أنور بن معظم شاه، ولد بكشمير سنة 1292هـ وقد تربى على والديه تربية مثالية، ولذلك كان معروفًا بالتقوى وغض البصر واحترام الأساتذة، كان يقول الشيخ مولانا القاري محمد طيب – رحمه الله -: كنا نتعلم السنن النبوية من سيرة الشيخ أنور وكأن الأخلاق النبوية تجسدت في صورته.
ودرس على والده الشيخ غلام رسول الهزاروي كتبًا في الفقه وأصوله ولما بلغ السابعة عشرة من عمره سافر إلى ديوبند، والتحق بدار العلوم هناك وتخرج فيها سنة 1313هـ، وقد حصل على إجازة درس الحديث من شيخ السنة مولانا رشيد أحمد الكنكوهي وشيخ الهند مولانا محمود الحسن – رحمه الله -، ويصل سنده إلى الإمام الترمذي والشيخ ابن عابدين الحنفي.
قوة حافظته وطريقته في المطالعة:
كان الشيخ – رحمه الله – شديد الاستحضار قوي الحافظة، شغوفًا بالمطالعة، وقد انتهى من مطالعة (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) للحافظ العيني في شهر رمضان المبارك وأراد بذلك أن يستعد لدراسة صحيح البخاري في العام الدراسي المقبل الذي كان يبدأ في شهر شوال، وقد استوعب (فتح الباري شرح صحيح البخاري) للحافظ ابن حجر مطالعة أثناء قراءته صحيح البخاري على شيخه مولانا محمود الحسن – رحمه الله -.
وكانت طريقته في المطالعة أنه إذا وقع في يده أي كتاب علمي مطبوعًا كان أو مخطوطًا أن يأخذه ويطالعه من غير أن يترك شيئا منه، وهو أول عالم بين علماء الهند طالع مسند الإمام أحمد بن حنبل المطبوع بمصر، فكان يطالع منه كل يوم مائتي صفحة مع نقد أحاديثه وضبط أحكامه.
مكانته العلمية:
كان الشيخ – رحمه الله – إمامًا في علوم القرآن والحديث، وحافظًا واعيًا لمذاهب الأئمة مع إدراك الاختلاف بينهم، وقادرًا على اختيار ما يراه صوابًا، ولم يقتصر في مطالعته على كتب علماء مدرسة بعينها – مع أنه كان حنفيًا – وإنما قرأ لعلماء مدارس مختلفة لهم انتقادات شديدة فيما بينهم، مثل الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم وابن دقيق العيد والحافظ ابن حجر – رحمهم الله -، وقد أحاط بكتب أهل الكتاب من أسفار العهد الجديد والقديم، وطالع بالعبرية وجمع مئة بشارة من التوراة تتعلق برسالة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -.
رحلاته العلمية:
سافر الشيخ – رحمه الله – بعد تخرجه إلى عدة مدارس، ودرس هناك عدة أعوام، وقد التقى في فرصة زيارة الحرمين الشريفين بعدد من رجال العلم، منهم الشيخ حسين الجسر الطرابلسي عالم الخلافة العثمانية صاحب الرسالة الحميدية والحصون الحميدية.
وبدأ بالتدريس في دار العلوم في ديوبند بعد عدة أعوام من رجوعه من الحرمين الشريفين، وظل مدرسًا بها حتى عام 1345 هـ، ثم رحل إلى (داهبيل) في مقاطعة (كجرات)، وأسس بها معهدًا كبيرًا يسمى (بالجامعة الإسلامية) وإدارة تأليف تسمى (بالمجلس العلمي).
آراء معاصريه من العلماء فيه:
وقد أثنى عليه العلماء المعاصرون، ولثناء المعاصر على المعاصر قيمة كبيرة. فقد قال الشيخ سليمان الندوي – رحمه الله -: هو البحر المحيط الذي ظاهره هادئ ساكن وباطنه مملوء من اللآلئ الفاخرة الثمينة.
وقال المحدث علي الحنبلي المصري – رحمه الله -: ما رأيت عالمًا مثل الشيخ أنور الذي يستطيع أن يجمع نظريات الإمام ابن تيمية والحافظ ابن حجر وابن حزم والشوكاني – رحمهم الله -، ويحاكم بينهم ويؤدي حق البحث والتحقيق مع رعاية جلالة قدرهم.
جهوده في الرد على القاديانية:
قد ظهرت في العالم فتن كثيرة، وقد عمل العلماء ضدها بجهد كبير، ومن الفتن الكبرى التي وقعت في هذه البلاد (الهند) بوحي من أعداء الإسلام وتأييد منهم (نشأة الفتنة القاديانية) وقد تصدى العلماء لهذه الفتنة الملعونة، وواجهوها وجدوا في القضاء عليها في جميع البلاد. وكانت جهود الشيخ أنور – رحمه الله – في مواجهتهم أكثر من جهود العلماء المعاصرين لأنه لم يكن يدخر جهدًا ولا يهدأ له بال ولا يرتاح له فكر في ليل أو نهار، وكان يفكر دائماً في إيجاد الطرق الكفيلة للقضاء على هذه الطائفة فأيقظ العلماء من النوم العميق في أنحاء العالم، وحثهم على القيام بواجبهم في القضاء عليها بالتبليغ والتصنيف، وقد تيسر لأصحابه وتلامذته تأليف كتب ورسائل ضد هذه الطائفة الكاذبة باللغات المختلفة.
وقد ألف الشيخ أنور بنفسه، مؤلفات صغيرة وكبيرة حولها منها:
إكفار الملحدين
التصريح بما تواتر في نزول المسيح
تحية الإسلام في حياة عيسى – عليه السلام
عقيدة الإسلام في حياة عيسى
خاتم النبيين
وهذه كلها باللغة العربية إلا كتاب خاتم النبيين فإنه باللغة الفارسية.
آثاره:
لقد ترك الشيخ آثارًا في صورة التلامذة والكتب المؤلفة، فأما عدد تلاميذه المشهورين فيزيد على ألفين وأكتفي بذكر بعض منهم:
حضرة الأستاذ الشيخ مناظر أحسن الجيلاني – رحمه الله -: كان عالمًا كبيرًا ومحدثًا جليلاً ومصنفًا عظيمًا وله مصنفات كثيرة. والمحدث الكبير مولانا حفظ الرحمن السوهاروي – رحمه الله -. والشيخ القارئ محمد طيب – رحمه الله -:
ومن تصانيفه ما يلي:
أصول الدعوة الدينية، نظام الأخلاق في الإسلام، شأن الرسالة، القرآن، والحديث.
والمحدث الجليل مولانا محمد إدريس الكاندهلوي – رحمه الله -.
كانوا مصنفين في علوم القرآن والسنة.
أما كتبه المؤلفة غير التي ذكرتها فهي كما يلي:
(فيض الباري شرح صحيح البخاري) في أربعة مجلدات، (عرف الشذى على جامع الترمذي)، (مشكلات القرآن)، (نيل الفرقدين في مسألة رفع اليدين)، (فصل الخطاب في مسألة أم الكتاب)، (ضرب الخاتم على حدوث العالم)، (خزائن الأسرار)، وكلها كتب باللغة العربية.
وفاته
وظل الشيخ عاكفاً على الدرس والإفادة، منقطعاً إلى مطالعة الكتب، لا يعرف اللذة في غيرها، حتى حدثت فتنة في المدرسة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف ألجأته إلى الاعتزال عن رئاسة التدريس وشياخة الحديث فيها، وغادر ديوبند بطلب من بعض تلاميذه وأصحابه فتوجه إلى ذابهيل قرية جامعة من أعمال سورت في جماعة من أصحابه وتلاميذه، وأسس له بعض التجار مدرسة فيها سموها الجامعة الإسلامية فعكف فيها على الدرس والإفادة، وانتفعت به هذه البلاد، وأمه طلبة علم الحديث والعلماء من الآفاق، وبقي يدرس ويفيد حتى برح به داء البواسير وأنهكته الأمراض، فسافر إلى ديوبند ووافاه الأجل لليلة خلت من صفر سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف، وصلى عليه جمع كبير من الطلبة والعلماء والمحبين له، ودفن قريباً من بيته عند مصلى العيد. فرحمه الله رحمة واسعة.
بقلم/ تاج الدين الأزهري
المصدر: موقع آل محمود
تعليقات