اليوم :5 December 2024

عبد الله بن المبارك، العالم المجاهد ( 3 )

عبد الله بن المبارك، العالم المجاهد ( 3 )

Image
إن العالم المسلم يجب أن يعيش لدينه وأمته ونشر العقيدة الصحيحة بين الأمة وأن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيعه من نفس ونفيس وغال وثمين، وهذا ما عبر به عبد الرحمن بن مهدي عندما وصف ابن المبارك بأنه كان أنصح علماء الأمة للأمة، و إن مهمة العالم المسلم ليست منحصرة في تعليم الناس العلم وتلقينهم الأحكام، بل إن مهمته أوسع من ذلك،

     

 

**************************************
**************************************
ثانياً: جهوده في علوم الحديث:

يعتبر ابن المبارك أحد الجهابذة النقاد المعتد بقولهم في الجرح والتعديل.

وله اجتهادات في علوم الحديث ومعرفة في عالم الرجال والعلل.

وقد عبر عن ذلك الخليفة هارون الرشيد عندما أتي بأحد الزنادقة ليقتله، فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال الرشيد: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها ويخرجانها حرفاً حرفاً [1].

وهذه جملة من أخباره وآرائه في هذا المجال: – قال الحافظ علي بن المديني: انتهى العلم إلى رجلين: إلى ابن المبارك ثم من بعده إلى يحيى بن معين [2].

– وقال فضالة النسائي: كنت أجالسهم بالكوفة، فإذا تشاجروا في الحديث قالوا: مروا بنا إلى هذا الطبيب حتى نسأله – يعنون ابن المبارك – [3].

– وقال علي بن المديني أيضاً: ابن المبارك أوسع علماً من ابن مهدي ويحيى بن آدم [4].

– وقال الإمام أحمد: لم يكن أحد في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه [5].

– وقال ابن المبارك – رحمه الله -: في صحيح الحديث شغل عن سقيمه [6].

– قال عبدان بن عثمان: سمعت ابن المبارك يقول: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء [7].

– وعنه أيضاً قال: الذي يطلب دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سُلم [8].

– وقال ابن المبارك: ليكن الذي تعتمدون عليه هذا الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث [9].

– وقال أيضاً: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن [9].

– وسئل عبد الله بن المبارك عمن نأخذ؟ قال: من طلب العلم لله وكان في إسناده أشد، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة، وتلقى الرجل غير ثقة وهو يحدث عن ثقة، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة [10].

ما أحوجنا اليوم نحن طلبة العلم إلى هذه الوصية وهذا التوجيه الكريم من الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، إنه يرسم منهجاً يجب أن يلتزم به طلبة العلم طول حياتهم.

إن آفة الأخبار رواتها، وما أقل الثقات في رواة الأخبار في عصرنا وأخص بالذكر طلبة العلم فهم قدرة الأمة وهم المخاطبون بوصية ابن المبارك، والمفترض فيهم التوثق، ودقة الفهم وتمحيص الأخبار والنظر فيمن يرويها: في دينه وعقله وضبطه وعدله، في سيرته واتجاهه الذي يسير عليه في حياته، لكن الواقع خلاف ذلك، إذ أن مجتمع طلبة العلم اليوم أصبح في الغالب مرتعاً خصباً للإشاعات والأراجيف التي لا أساس لها من الصحة – وآفتها من مروجيها بينهم- ولا سيما تلك الإشاعات التي تتعلق بسمعة أحدهم، فإنها تنتشر بينهم انتشار النار في الهشيم أو أسرع.

وكان الأولى بطلبة العلم وعلى وجه أخص من يزعمون أنهم دعاة إلى الخير أن يلتزموا منهج المحدثين في التثبت في الرواية والتمحيص للأخبار والنظر في أحوال الرجال، فإن ذلك هو الموافق لمنهج الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وهذا المنهج هو منقبة للأمة الإسلامية، وميزة لها عن سائر الأمم.

ثالثاً: مؤلفاته:

قال الإمام الذهبي: دَوَّن ابن المبارك العلم في الأبواب والفقه وفي الغزو، والزهد، والرقائق وغير ذلك [11].

وهذه جريدة أسماء مؤلفات ابن المبارك التي وقفت عليها فيما اطلعت عليه من المصادر:

1 – تفسير القرآن.

2 – السنن في الفقه.

3 – كتاب التاريخ.

4 -كتاب الزهد، طبع باسم: كتاب الزهد والرقائق بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.

5 – كتاب البر والصلة.

6 – رقاع الفتاوى.

7 – الرقائق.

8 – الجهاد، طبع بتحقيق الدكتور نزيه حماد [12].

9 – الأربعين في الحديث.

رابعاً: في مجال الإنفاق في سبيل الله:

كما كان ابن المبارك جواداً بنفسه في سبيل الله كان أيضاً كريماً جواداً بماله منفقاً في سبيل الله.

ولا غرو فقد ورث ذلك من القدوة الحسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي وصفه ابن عباس -كما في الحديث الصحيح – بأنه كان أجود من الريح المرسلة، وأجود ما يكون في رمضان.

وهذه نبذة من أخباره – رحمه الله – في هذا المجال: – قال الحسن بن شقيق: كان ابن المبارك ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم، وإنه قال مرة للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرت [13].

– وقال علي بن الفضيل بن عياض: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك.

أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، كيف ذا؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به على طاعة ربي، ولا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال له الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إذا تمّ ذا [13].

– وبإسناد الخطيب أيضاً إلى حبان بن موسى المروزي قال: عوتب ابن المبارك فيما يفرق من الأموال في البلدان، ولا يفعل في أهل بلده، قال: إنني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث فأحسنوا الطلبة للحديث، وقد احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعنَّاهم بثوا علمهم لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم -، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم [13].

هكذا يكون الفهم الصحيح لوظيفة المال في الحياة الدنيا، إنه لصون الوجه والعرض وإعانة طلبة العلم والصالحين والاستعانة به على مرضاة الرب، هذا هو فهم سلفنا الصالح لوظيفة المال، فهل يقتدي بهم أرباب الأموال من أثرياء المسلمين اليوم، فينفقون أموالهم في وجهها الصحيح.

إن الإمام ابن المبارك يرسم لنا بسيرته العملية في ماله منهجاً بيناً واضحاً.

إن هذا المنهج ليبين لأرباب الأموال الطريقة الصحيحة لتوزيع صدقاتهم وأموالهم التي ينفقونها في سبيل الله، في هذا المنهج يبدأ بالإنفاق على من نفعه لدينه ولأمته أكبر، أولئك هم طلبة العلم العاملون بعلمهم المشتغلون بنشر العلم لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – عن طلب الرزق.

إنه من المؤلم حقاً أن نرى أموالاً كثيرة – تعد بالملايين – تنفق سنوياً من قبل أثرياء المسلمين ثم لا تؤدي هذه الأموال الأثر المطلوب من إنفاقها، إنها تنفق دون تخطيط ودون هدف من إنفاقها سوى إرادة أصحابها أداء الحق الشرعي في أموالهم وكفى.

إن أموال اليهود تنفق لتخدم عقيدتهم وهدفهم الذي يسعون من أجل تحقيقه.

وأموال الرافضة تنفق لنشر العقيدة الرافضية بين أهل السنة في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

وأموال النصارى قد أدت دوراً مهماً في تنصير أبناء المسلمين في أفريقيا وآسيا، أما أموال أثرياء المسلمين فغالبيتها العظمى تنفق ولا تؤدي دوراً مهماً لأنها تنفق بدون وعي وبدون تخطيط، وغالبها يوضع في غير محله.

إن أعداداً كثيرة من خريجي الجامعات العربية والإسلامية من أبناء المسلمين في أفريقيا وآسيا بحاجة ملحة إلى من ينفق عليهم ليتفرغوا للدعوة إلى الله ونشر العقيدة الصحيحة بين المسلمين وغيرهم في تلك الديار المقفرة من الدعاة إلا من النزر اليسير، إنهم بحاجة إلى عشرات من أمثال عبد الله بن المبارك ليتفقدوا أحوالهم ويعينوهم على بث العلم لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – لشدة حاجة الأمة إلى علمهم لاسيما وهي تصارع الشرك والخرافة والتنصير والمبادئ الهدامة من علمانية وقاديانية وبهائية ورافضة وباطنية وغيرها.

– عن محمد بن عيسى قال: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث، قال فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب، وكان مستعجلاً فخرج في النفير، فلما قفل من غزوته ورجع الرقة سأل عن الشاب، فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه، فقال عبد الله: وكم مبلغ الدين؛ فقالوا: عشرة آلاف درهم، فلم يزل يستقصي حتى دُل على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه أن لا يخبر أحداً مادام عبد الله حياً، وقال: إذا أصبحت فاخرج الرجل من الحبس وأدلج عبد الله، فأخرج الفتى من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج، فخرج الفتى في إثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة، فقال: يا فتى إن كنت لم أرك في الخان؟ قال: نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين، قال: كيف كان سبب خلاصك، قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أعلم به حتى خرجت من الحبس، فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك، فلم يخبر ذلك الرجل أحداً حتى مات عبد الله [14].

وهذه منقبة أخرى لهذا العالم المجاهد عبد الله بن المبارك – وما أكثر مناقبه – وهي تفقده لأحوال تلاميذه وقضاؤه حاجاتهم، وهذه حال كثير من أئمة السلف – يرحمهم الله -، مع تلاميذهم [15]، وقدوتهم في ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي كان يتفقد أحوال أصحابه فيقضي حاجاتهم ويعين فقيرهم ويعود مريضهم…

ويعينهم جميعاً على نوائب الحق، فهل من مشايخنا وعلمائنا اليوم من يفعل ذلك مع تلاميذه؟؟ [16].

كم تخرج على أيديهم في الجامعات الإسلامية من أبناء أفريقيا وآسيا وغيرها؟ فهل سألوا عنهم بعد تخرجهم، هل عرفوا شيئاً من أخبارهم؟ ! ! إنهم يعانون في بلادهم من الفقر والفاقة ومن اضطهاد طواغيت بلادهم، كما يعانون من هجوم أعدائهم من مبشرين وقاديانيين ورافضة وعلمانيين، ولقد شاهدت ذلك بأم عيني أثناء زياراتي لغرب أفريقيا وجنوب شرق آسيا، إنهم يحتاجون إلى مديد المساعدة بالمال والنصح والتوجيه والكتب العلمية النافعة، وهم بحاجة إلى بناء مدارس لأبنائهم ليحفظوا عليهم دينهم وعقيدتهم وليحموهم من مدارس المبشرين والعلمانيين والباطنيين.

من غرر كلامه وشعره: لقد كان ابن المبارك شاعراً وأديباً كما كان إماماً في الفقه والحديث والتفسير واللغة وغيرها من الفنون، وكان والده يحفزه على حفظ الشعر وهو صغير ويكافئه على حفظ القصيدة بدرهم، وكان ابن المبارك شاعراً مجيداً صادق اللهجة فلذلك كان لشعره وقع في النفوس، لا سيما أنه كان مليئاً بالحكم والمواعظ والنصح.

قال الدكتور نزيه حماد: (وشعر ابن المبارك ليس بالقليل، غير أنه منثور في بطون مدونات العلم وكتب التراجم وأسفار التاريخ والأدب، ويحتاج لمن ينقب عنه في مظانه، ويعرف الناس بيواقيته ودرره ونفيس مكنوناته، وإنه لمهم حقاً باعتباره يمثل نموذجاً رفيعاً رائعاً من شعر الزهاد الأوائل والمجاهدين الحكماء من السلف الصالح، فصاحبه قد قضى عمره في الجهاد والرباط والعلم والزهد، فجاء شعره مرآة صادقة لتلك النفس الإنسانية السامية التي ارتقت في مدارج الكمال وعلت في مراتب الفضيلة ومقامات الإيمان والإحسان.

وقد وصف الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء موهبته الشعرية الصادقة بقوله: كان ابن المبارك – رحمه الله – شاعراً محسناً قوالاً بالحق).اهـ [17].

ومن شعره ما يلي: قال الذهبي: قال أحمد بن جميل المروزي: قيل لابن المبارك إن إسماعيل بن علية قد ولي القضاء فكتب إليه:

يا جاعل العلم له بازياً *** يصطاد أموال المساكين

احتلت للدنيا ولذاتها *** بحيلة تذهب بالدين

فصرت مجنوناً بها بعدما *** كنت دواءً للمجانين

أين رواياتك في سردها *** عن ابن عون وابن سيرين

أين رواياتك فيما مضى *** في ترك أبواب السلاطين

إن قلت أُكرهت فماذا كذا *** زل حمار العلم في الطين

لاتبع الدين بدنيا كما *** يفعل ضلال الرهابين [18]

وعن سلام الخواص قال: أنشدني ابن المبارك:

رأيت الذنوب تميت القلوب *** ويورثك الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها

وهل بدل الدين إلا الملوك *** وأحبار سوء، ورهبانها

وباعوا النفوس فلم يربحوا *** ولم تغل في البيع أثمانها

لقد رتع القوم في جيفة *** يبين لذي العقل إنتانها [19]

وأنشد أبو بكر الآجري لابن المبارك:

اغتنم ركعتين زُلفى إلى الله *** إذا كنت فارغاً مستريحاً

وإذا ما هممت بالنطق بالبا *** طل فاجعل مكانه تسبيحاً

فاغتنام السكوت أفضل من خو *** ض وإن كنت بالكلام فصيحاً [20]

وقال ابن المبارك يمدح حماد بن زيد مع التحذير من المبتدعة:

أيها الطالب علماً إئت حماد بن زيد

فاستفد علماً وحلماً ثم قيده بقيد

لا كثور وكجهم وكعمرو بن عبيد [21]

وقال يمدح الإمام مالك إمام دار الهجرة:

يأبى الجواب فما يراجع هيبة *** فالسائلون نواكس الأذقان

هدي الوقار وعز سلطان التقى *** فهو المهيب وليس ذا سلطان [22]

 

وهذه نماذج من كلامه:

* قال ابن المبارك: إن البصراء لا يأمنون من أربع: – ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب – عز وجل -.

– وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة.

– وضلالة قد زينت يراها هدى.

– وزيغ قلب ساعة، فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.

– وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج [23].

وقال أبو وهيب المروزي: سألت ابن المبارك: ما الكبر؟ قال: أن تزدري الناس، فسألته عن العجب؟ فقال: أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك، ولا أعلم في المصلين شيئاً شراً من العجب [23].

قال حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: غريزة عقل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: حسن أدب، قلت: فإن لم يكن؟ قال: أخ شقيق يستشيره، قلت: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل [24].

 

مكانة ابن المبارك واهتمامه بإخوانه العلماء:

– قال أبو أسامة: كان ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين في الناس [25].

– وعن أشعث بن شعبة المصيصي قال: قدم هارون الرشيد الرقة، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين الرشيد من برج من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت.

ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خرسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان [26].

– أخرج الخطيب البغدادي بإسناده إلى الحمادين [27] قالا: كان عبد الله بن المبارك يتجر في البز، وكان يقول لولا خمسة ما اتجرت، فقيل له من الخمسة يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ومحمد بن السماك وإسماعيل بن علية.

قالا: وكان يخرج فيتجر إلى خراسان فكلما ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج والباقي يصل به إخوانه الخمسة، قالا: وقدم سنة، فقيل له قد ولي ابن علية القضاء، فلم يأته ولم يصله بالصرة التي كان يصله بها في كل سنة فبلغ ابن علية أن ابن المبارك قدم فركب إليه فتنكس على رأسه، فلم يرفع به عبد الله رأساً ولم يكلمه فانصرف، فلما كان من غد كتب إليه رقعة: بسم الله الرحمن الرحيم، أسعدك الله بطاعته، وتولاك بحفظه، وحاطك بحياطته قد كنت منتظراً لبرك وصلتك أتبرك بها وجئت أمس فلم تكلمني ورأيتك واجداً علي، فأي شيء رأيت مني حتى أعتذر إليك منه؟ فلما وردت الرقعة على عبد الله بن المبارك دعا بالدواة والقرطاس، وقال: يأبى هذا الرجل إلا أن نقشر له العصا، ثم كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم

يا جاعل العلم له بازياً *** يصطاد أموال المساكين إلى آخر الأبيات

وقد سبق ذكرها كاملة في الكلام عن شعره، فلما وقف ابن علية على هذه الأبيات قام من مجلس القضاء، فوطئ بساط هارون الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين، ألله الله، ارحم شيبتي، فإني لا أصبر للخطأ، فقال له هارون: لعل هذا المجنون أغرى عليك؟ فقال: الله الله أنقذني أنقذك الله، فأعفاه من القضاء، فلما اتصل بعبد الله وجه إليه بالصرة [28] [*]..

دروس وعبر :

ونختم هذا البحث ببعض الدروس والعبر من تلك السيرة العطرة لهذا الإمام المجاهد والعالم الرباني – رحمه الله – ورضي عنه -:

أولاً: إن العالم المسلم يجب أن يعيش لدينه وأمته ونشر العقيدة الصحيحة بين الأمة وأن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيعه من نفس ونفيس وغال وثمين، وهذا ما عبر به عبد الرحمن بن مهدي عندما وصف ابن المبارك بأنه كان أنصح علماء الأمة للأمة.

ثانياً: الفهم الصحيح للزهد هو ترك ما بأيدي الناس والرغبة فيما عند الله، وأن طلب المال لصون العرض والاستعانة على طاعة الرب وإعانة طلبة العلم والصالحين لا ينافي الزهد.

وهذا الفهم جسده الإمام ابن المبارك في حياته العملية وفي قوله عندما عاتبه الفضيل بن عياض على أمره لهم بالزهد والتقلل مع اشتغاله بالتجارة فقال: إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال الفضيل: ما أحسن ذا إن تم ذا.

ومن ذلك نفهم أن زهد الصوفية الداعي إلى الكسل والخمول وتعطيل الحياة ليس صحيحاً، بل هو خلاف فهم السلف الصالح للزهد وخلاف ما أراده الشارع من المؤمنين.

ثالثاً: إن مهمة العالم المسلم ليست منحصرة في تعليم الناس العلم وتلقينهم الأحكام، وتحفيظهم المتون بل إن مهمته أوسع من ذلك، إنه القدوة العملية لمن يربيهم ويعلمهم الفهم الصحيح لطلب العلم والعمل به، والفهم الصحيح لوظيفة المال في الحياة الدنيا، والمعنى السليم للزهد.

فهو إلى جانب تعليمهم يتفقد أحوالهم وينفق عليهم ويوجههم توجيهاً عملياً فلا يعلمهم أحكام الجهاد وهو قاعد متخلف مع القاعدين، ولا يعلمهم سُبل الانفاق وهو مقتر بخيل أو فقير عاطل، ولا يعلمهم التواضع وسعة الأفق وهو متكبر غليظ القلب ضيق الأفق.

رابعاً: تلك المكانة التي كان يحتلها علماؤنا من السلف الصالح بين الأمة، إنها مكانة عالية مكانها القلوب والأرواح، مكانة لا يبلغها أرباب المال والجاه المتسلطون على الأمة بالقوة والقهر والذين غالباً ما تكون محبتهم مصحوبة بالرياء والمداهنة، وأصدق تعبير عن هذه المكانة لأئمتنا من السلف الصالح أمران: الأول: ما قاتله أم ولد لهارون الرشيد عندما رأت بأم عينها مكانة الإمام عبد الله بن المبارك في قلوب ونفوس الأمة، فانطلق لسانها معبراً عن تلك المكانة:..

هذا والله الملك لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلى بشرط وأعوان أو ترغيب وترهيب…

هذه المكانة لم يكن لينالها علماؤنا لو أن أعمالهم كانت تناقض أقوالهم أو كانوا يؤثرون الدعة والراحة على التعب والنصب أو كانوا يؤثرون أنفسهم بالرفاه والعافية عن باقي الأمة.

خامساً: إن لسلفنا الصالح منهجاً في طلب العلم يتدرج فيه حتى يبلغ درجة الاجتهاد ولا يتجاوز الطالب مرحلة من تلك المراحل إلى التي تليها حتى يتقن المرحلة السابقة وقد أوجز ابن المبارك المبادئ الأساسية لهذا المنهج فقال: أول العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ ثم النشر.

وقال: كانوا يطلبون الأدب ثم العلم.

سادساً: العناية بالنابغين والأذكياء من طلبة العلم والعمل على تفرغهم لطلب العلم وتعليمه للأمة ومساعدتهم بما يحتاجون من المال وغيره.

هذا ما فعله ابن المبارك مع النابغين من طلبة العلم في عصره ومن قبله فعله شيخه أبو حنيفة – رحمه الله – مع بعض تلاميذه النابهين.

هذا ما يسر الله لي أن أكتبه عن ابن المبارك وأسأله – سبحانه – أن يرزقنا العلم النافع وأن ينفعنا بما علمنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

د. محمد بن مطر الزهراني

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تذكر الحفاظ 1 / 273.

(2) تاريخ بغداد 10 / 164.

(3) سير أعلام النبلاء 8 / 357.

(4) تاريخ بغداد 10 / 164.

(5) سير أعلام النبلاء 8 / 351.

(6) المصدر السابق 8 / 357.

(7) مقدمة صحيح مسلم 1 / 15.

(8) الكفاية للخطيب البغدادي / 292.

(9) سير أعلام النبلاء 8 / 352 – 353.

(10) تذكرة الحفاظ 1/ 277.

(11) تذكرة الحفاظ 1 / 275.

(12) قدم له الدكتور نزيه بمقدمة عن حياة ابن المبارك جيدة، وقد استفدت منها في هذا البحث كثيراً، فجزاه الله عني خيراً.

(13) تاريخ بغداد 10 / 159 – 160، ط السلفية بالمدينة النبوية.

(14) تاريخ بغداد 10 / 159.

(15) انظر ما كتبه ابن جماعة في تذكرة السامع والمتكلم، الباب الثاني، الفصل الثالث، وخاصة النوع الثالث عشر منه.

(16) لا يفوتني أن أنوه هنا بجهود سماحة شيخنا الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – ، فهو من بقية السلف الصالح، له جهود طيبة في هذا المجال، رأينا آثارها في أفريقيا حيث يرعى كثيراً من خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية بإعانتهم من ماله الخاص، ومما يجمعه من المحسنين.

(17) مقدمة كتاب الجهاد لابن المبارك / 25.

(18) تاريخ بغداد 6 / 236، سير أعلام النبلاء 8 / 363 – 364 وسأذكر فيما بعد قصة هذه الأبيات.

(19) جامع بيان العلم وفضله 1 / 165.

(20) سير أعلام النبلاء 8 / 368.

(21) تاريخ بغداد 6 / 29، جامع بيان العلم وفضله 1 / 127.

(22) العقد الفريد 2 / 221.

(23) سير أعلام النبلاء 8 / 359، وهي هكذا في السير وغيره " خمس "، وليس أربع.

(24) المصدر السابق 8 / 352.

(25) تاريخ بغداد 10 / 156، سير أعلام النبلاء 8 / 340.

(26) تاريخ بغداد 10 / 156، سير أعلام النبلاء 8/ 340.

(27) حماد بن زيد بن درهم، وحماد بن سلمة بن دينار إمامان مشهوران.

(28) تاريخ بغداد 6/ 245 – 236.

(*) هذه النصوص وأمثالها في فرار أئمة السلف من تولي القضاء والتحريض على تركه محمولة على أمرين: أ – علمهم بوجود من يقوم به ب – تركه ورعاً وحيطة لدينهم أما إذا ترتب على ذلك خلو القضاء ممن يقوم به أو تسلط الكفرة أو الفجرة علية فتفسد مصالح الناس وتعطل أحكام الشريعة فلا، ولا يفهم من ذلك أنهم يحرصون على اعتزال المجتمع والحياة كما يفعل دراويش الصوفية وخوارج هذا العصر.

المصدر : موقع آل محمود

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات