اليوم :29 March 2024

مدينة اصفهان

مدينة اصفهان

Image
وقد أنجب هذا البلد كثيراً من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين وأهل اللغة وغير ذلك، ما لا يحصيها صحيحاً إلا الله ولكن الآن مع الأسف الشديد لا تجد فيها أثرا لهم. أسأل الله سبحانه وتعالی أن ينفع بهذا البيان كما نفع بجهد العلماء الذين باشروا في نشر السنة في حياتهم بهذه البلاد وأن يجعل هذا المقال وسيلة للوعي الجديد والإيمان الجديد الذي تشتد حاجة العالم الإسلامي إليه، إنه علی كل شئ قدير.

 

*******************************
*علي الرسولي

قال الله تعالی: «و آخرين منهم لما يلحقوا بهم» (الجمعة)
قال النبي صلی الله عليه وسلم: «و الذي نفسي بيده لو كان العلم بالثريا ليتناوله أناس من أبناء فارس» (رواه احمد 7950، 9440)
فلعلّ كثيراً من القراء الفضلاء يعلمون أن ايران سابقا كانت بيئة علمية مليئة بكبار العلماء من المحدثين والفقهاء والمفسرين وغيرهم وكان لأهلها اليد الطولی في العلوم المختلفة لا سيما في تدوين الحديث وعلومه بل فاقوا وسبقوا غيرهم  في جميع العالم الاسلامي. فلو استعرضنا المدونات في الحديث وعلومه لرأينا أن معظم كتب السنة وكتب الرجال يعود الفضل في تأليفها إلی علماء المناطق المختلفة في ايران؛ خاصة في منطقة خراسان الواسعة وفيها الجرجان ونيشابور ومنطقة الري وطوس واصفهان وغيرها، فكانت هذه المدن دار الآثار.
فصحيحا البخاري ومسلم والسنن الأربعة وصحيحا ابن خزيمه وابن حبان ومعاجم الطبراني الثلاثة وغير ذلك من الكتب، من آثار أولئك الجهابذة العلماء، وهذا دليل واضح علی سعة ثقافتهم العلمية التي انتشرت وعمت في تلك البلاد.
لقد كنا نشعر في هذا العصر بحاجة شديدة لبيان أحوال بعض مدن إيران التي يرجع إليها وإلی أبنائها الفضل في كثير من العلوم الإسلامية سابقاً.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

اصفهان

وجدنا اصفهان من أعظم هذه المدن وأهمها وأفضلها عند أهل السنة سابقا، وقد ثبت أن اصفهان كانت من القرون الأولی الإسلامية مهاجر العلماء لطلب الحديث ومحط رحالهم حتی كانت تضاهي بغداد في العلو والكثرة.
وقد أنجب هذا البلد كثيراً من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين وأهل اللغة وغير ذلك، ما لا يحصيها صحيحاً إلا الله ولكن الآن مع الأسف الشديد لا تجد فيها أثرا لهم. أسأل الله سبحانه وتعالی أن ينفع بهذا البيان كما نفع بجهد العلماء الذين باشروا في نشر السنة في حياتهم بهذه البلاد وأن يجعل هذا المقال وسيلة للوعي الجديد والإيمان الجديد الذي تشتد حاجة العالم الإسلامي إليه، إنه علی كل شئ قدير.

أسماء اصفهان قديماً وحديثاً

كانت هذه البقعة التي سميت اصفهان فيما بعد تسمی "ايرانشهر" (أخبار اصفهان 1/35)، وبعد أن عمرت سميت "جَي" وهي بالفتح ثم التشديد، فكانت المدينة تعرف بها.(تقويم البلدان لأبي الفداء 1/11، نصف جهان في تعريف اصفهان ص 144، معجم البلدان 2/202) و"جي" معناه الطاهر (كتاب اصفهان لدكتور لطف الله ص 60، تاريخ اصفهان ص 3 ، ميرزا حسن جابري)، وقيل أن "جي" نسبة إلی ملوك الجيان وهي جي أفرام بن آزاد، وكانوا يعتقدونه رسولاً (المصدر السابق ميرزا حسن، اقتصاد شهر اصفهان ص 34 لعلي كلباسي).
ثم تغير بمرور الزمان فصار الفرس يطلقون عليها اسپهان و اسپاهان. وبعد أن فتح المسلمون العرب و استولوا عليها وغلب التعريب علی ألسنة الناس فعربوها وقالوا "اصبهان" و"اصفهان" (بلدان الخلافة الشرقية ص 338، نصف جهان ص 162)، قيل إنما سمي بهذا الاسم لأنها تسمی بالعجمية "سپاهان"،  و"سپاه": العسكر، و"هان": الجمع، وكانت جموع عساكر الأكاسرة إذا وقعت لهم واقعة تجتمع في هذا الموضع، مثل عساكر فارس و كرمان (السمعاني في الأنساب 1/284، ابن خلكان وفيات 1/92، القمي في الكني و الالقاب)

موقع اصفهان

إنها تقع في وسط ايران وتميل إلی غربها أكثر، وهي في جنوب العاصمة تبعد عنها 313 أو 420 كيلومتراً، ما يزيد في حسنها أن عرضها شمالي وطولها شرقي. درجتها في خط الإستوا 32 و 38 . قد فاقت بجودة تربتها واستعدادها للزراعة وعذوبة مائها وطيب هوائها علی أكثر المدن الإيرانية، ومما زاد في حسن موقعها وجمالها أنها تقع علی ضفة النهر المشهورة بـ "زاينده رود" وهو يجري اليوم داخلها ومن هنا كان كثير من الملوك والأمراء يؤثرون اصبهان علی غيرها من المدن عاصمة للبلاد.
وذكر في كتاب "جغرافيا ايران" ص 85: أن اصفهان كانت عاصمة ايران في عهد آل بويه والسلاجقة والصفويين.
أما حدود اصفهان ومساحتها اليوم فهو كالتالي: يحيط بها من الشمال "أردستان" ونواحي "كاشان" و"كلبايكان" ومن الجنوب مدينة "ابازه" و"بهبان" ومن الشرق مدينة "يزد" و"نائين" ومن الغرب نواحي "بختياري" وحدود منطقة "خوزستان". (جغرافياي ايران ص 86 المقرر للسنة الثانية من الثانوية الحكومية)
فلا شك أن اصفهان ثالثة مدن ايران بعد العاصمة وتبريز.

أهمية اصفهان

إليكم بعض النقول المبينة أهمية اصفهان علی وجه عام:
قال القزويني: اصفهان مدينة عظيمة، من أعلی المدن ومشاهيرها، جامعة لأشتات الأوصاف الحميدة من طيب التربة وصحة الهواء وعذوبة الماء وصفاء الجو وصحة الأبدان وحسن صورة أهلها وحذقهم في العلوم والصناعات. (آثار البلاد وأخبار العباد ص 296)
وذكر ابن بطوطة في رحلاته حين سافر إلی اصفهان سنة 726 هـ فقال: اصبهان من كبار المدن وحسانها إلا أنها الآن قد خرب أكثرها بسبب الفتنة التي بين أهل السنة والروافض. (رحلة ابن بطوطة 2/199، 200)
وقال شواليه شاردن: أحسب أن عظمة اصفهان في آسيا كعظمة لندن في أروبا. (دانشمند وبزركان اصفهان ص 39، كتاب اصفهان ص 3)
 وقد بالغ بعض، فقالوا: اصفهان نصف جهان (المصدر السابق) أي اصفهان نصف الدنيا.

رغبة الناس بالإقامة في اصفهان

نظراً لما تقدم من أهميتها وتبيين مميزاتها، أصجت اصفهان محط أنظار الناس ومثار إعجابهم، فعلت بهذا منزلتها وزادت أهميتها واحتلت مكاناً علياً بين بقية المدن المجاورة لها، وظهر هذا الأثر بكثرة فيمن خرّجت من العلماء الأئمة والصناع المهرة والتجار الحاذقين. قال ميرزا حسن الأنصاري: نظراً لأهمية اصفهان هاجرت قبائل من العرب إليها من بني ثقيف وبني تميم وخزاعة وعبد القيس وبني خبة. (تاريخ اصفهان ص 13)
بل كان بعض التابعين يتمنی أن يكون من أهل اصفهان، فهذا سعيد بن المسيب التابعي الجليل يقول: لو لم أكن رجلا من قريش لأحببت أن أكون من أهل فارس أو اصبهان. وفي رواية أخری لأبي نعيم: لو تمنيت أن أكون من أهل بلد لتمنيت أن أكون من أهل اصبهان. (مقدمة الطبقات لأبي الشيخ ص 3 واخبار اصفهان 1/39 اسناده حسن لأبي النعيم)

ما ورد من الفضل لهذه البلاد

وليس بعجيب إقبال أهل اصفهان والإيرانيين علی العلم والدين، وقد صح عن النبي صلی الله عليه وسلم في رواية مسلم،  قال أبو هريرة رضي الله عنه: كنا جلوساً عند النبي صلی الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ «وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم»، قال رجل: من هولاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلی الله عليه وسلم حتی سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي- رضي الله عنهم- قال فوضع النبي صلی الله عليه وسلم يده علی سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هولاء». (مسلم 6498 فضائل صحابه)، وفي رواية لأحمد بلفظ: «لو كان العلم بالثريا لتناله أناس من أبناء فارس». (احمد 9440، 7950)
وذكر ابو الشيخ ابن حيان رحمه الله في مقدمة كتابه طبقات المحدثين باصفهان: خرج قوم من اهل إصبهان إلی ذي الرياستين (وزير المأمون) في حوائج لهم، فقال ذو الرياستين: من أين أنتم؟ قالوا من اصبهان. قال أنتم الذين لا يزال فيهم ثلاثون رجلا مستجابي الدعاء. قالوا وكيف ذلك؟ قال إن نمروذ بن كنعان لما أراد أن يصعد إلی السماء كتب في البلدان يدعوهم إلی محاربة رب العالمين، فأجابوه كلهم إلا أهل اصبهان، فحمل منهم ثلاثين رجلا مقيدين، فلما نظروا في وجه ابراهيم عليه السلام آمنوا به، فقال ابراهيم: اللهم اجعل أبداً باصبهان ثلاثين رجلا تستجيب دعاءهم؛ فلا يزال باصبهان ثلاثون رجلا يستجاب دعاهم.

ذكر فتوح اصبهان

حدثنا ابو الشيخ قال حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو قال: ثنا رستة عن عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثني حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن علقمة بن عبد الله المزني عن معقل بن يسار أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان في اصبهان، فارس، آذربيجان، بأيهن يبدأ، فقال له الهرمزان: يا أمير المؤمنين أصبهان الرأس، فارس وآذربيجان الجناحين، وإن قطعت الرأس وقع الجناحان. فدخل عمر المسجد، فإذا هو بالنعمان بن مقرن قائم يصلي فانتظره حتی قضی صلاته ثم قال: إني مستعملك. فقال: أما جابياً (هو الذي يجمع الخراج) فلا، ولكن غازياً. فقال عمر: فانك غاز وسرحه وبعث إلی أهل الكوفة أن يمدوه، فذهبوا ومعه حذيفة بن يمان والزبير بن العوام والمغيرة بن شعبة والأشعث بن قيس وعمرو بن معد يكرب وابن عمر، فذكر القصة. (مرتبة الأسناد رجاله كلهم ثقات كذا ذكره ابن كثير البداية 7/106 و ابن الاثيرفي الكامل 3/5)
ثم سار حتی التقوا بنهاوند، فالتقوا يوم الأربعاء، فكان من المجنبة اليمني انكشاف وثبتت المجنبة اليسری وثبت الصف ثم التقوا يوم الخميس، فكان في المجنبة اليسری انكشاف وثبتت المجنبة اليمنی وثبت الصف، ثم التقوا يوم الجمعة فأقبل نعمان علی بريذين (تصغير برذون) أحوي (أسود) قريب من الأرض يقف علی كل أهل راية فيخطبهم ويحضهم ويقول إن هؤلاء القوم قد أخطروا لكم خطراً وأخطرتم لهم خطراً عظيماً، أخطروا لكم جواليق ورثة (جوالق رثة) وأخطرتم لهم الإسلام وذراريكم… ثم إني هاز الدابة فيرم كل رجل ضيعته ويسير ثم هاز الثانية فليقف كل رجل منكم موقفه ثم هازها الثالثة فأحمل فاحملوا علی بركة الله ولا يلتفتن منكم أحد، قال: فحملوا فكان النعمان اول مقتول، قال: أخذ حذيفة الراية ففتح الله لهم… ثم أقبلت إلی عمر بن الخطاب وقد راث (أبطأ) عليه الخبر وهو يتطوف المدينة يسأل، قال فأقبلت علی راحلتي، فلما رآني قال لي: ويلك يا ابن مليكة ما وراءك؟ ويلك يا ابن مليكة ما عندك؟ ويلك يا ابن مليكة ماذا جئتني به؟ قلت يا امير المؤمنين الذي تحب، قال فلله الحمد، قال والله ما أتت علی ليلة منذ اندفعت من عندي أطول علي من هذه الليلة وما جعلت النوم فيها إلا تقديراً وقصصته، فكان النعمان أول مقتول، فقال: رحمه الله هي له الشهادة التي ساقه الله إليها وأكرمه بها، قال: ثم مه؟ قلت: ثم أخذ حذيفة الراية ففتح الله لهم، ثم لم يقتل أحد من المسلمين تعرفه. قال: لا أم لك؟ ما تصنعون بمعرفة ابن أم عمر؟ لكن يعرفهم من هو خير لهم منه معرفة، من ساق إليهم الشهادة وأكرمهم بها. قال وجعل يبكي ويكررها ويحادرالدموع علی خديه ولحيته حتی وددت أن الأرض انشقت عني فخسفت فيها ثم لم أقلع. (القصة بتمامها في: البداية و النهاية، والكامل، وتاريخ الخليفة، وطبقات المحدثين باصبهان)
والثابت من الروايات أن الذي باشر فتح اصفهان هو عبد الله بن عبد الله ابن عتبان الأنصاري وقد كان أمير الجيش، وعبد الله بن ورقاء الرياحي الذي كان علی مقدمة الجيش وعبد الله بن ورقاء الأسدي الذي كان علی مجنبة الجيش كما هو مصرح في كتاب عمر رضي الله عنه إلی عبد الله بن عبد الله الأنصاري. (تاريخ طبري 4/248، أخبار اصفهان 1/24،25)
وكان عمر قد أمّد عبد الله بن عبد الله بأبي موسی الأشعري من "البصرة"، فقدم عليه أبو موسی من "الأهواز"، وكان قد فتح "قم" و"كاشان" وقد صالح الفاذوسان الحاكم عبد الله فدخل أبو موسی وعبد الله مدينة "جي" وتولی بعد ذلك بعض السرايا ففتح بعض المدن والقری التابعة لاصبهان.
وذكر ابن حيان في مقدمة الطبقات، وأبو نعيم في أخبار اصفهان (1/24) نقلاً عن المدائني: إنه ذكر أن أبا مسلم قال لأبي بكر الهذلي: أخبرني عن الذي فتح بلدنا اصفهان، فقد اختلف علينا في ذلك. فقال أبوبكر الهذلي: تولی فتح بلدكم العبادلة: عبد الله بن عبد الله بن عتبان الأنصاري، وعبد الله بن ورقاء بن الحارث الأسدي وعبد الله بن ورقاء الرياحي وعبد الله بن قيس أبو موسی الأشعري وعبد الله بن عامر بن كريز القرشي وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وكل هولاء قد حضروا فتحها وفتح أطرافها، ومنهم كان أمير الجيش ومنهم كان رئيس سرية أو صاحب مقدمة. (مقدمة الدكتور عبد الغفور البلوشي علی الطبقات)

بدء التحديث باصفهان

وبالإضافة إلی ذلك فقد حل باصفهان عدد من الصحابه عند فتحها، ذكر صاحب الطبقات ثمانية عشر صحابياً  منهم الحسن بن علي بن ابي طالب، وعبد الله بن الزبير بن العوام، وسلمان الفارسي، وابو موسی الأشعري، ورافع بن خديج الأنصاري، وعبد الله بن عامر، وبديل بن عامر، وكذالك غيرهم من كبار التابعين مثل الأحنف بن قيس، والسائب بن الأمرع، وسعيد بن جبير وعطاء بن السائب، وليث بن سعد، واسماعيل بن حماد بن أبي سلميان؛ ومن كبار العلماء والمحدثين، اسماعيل بن خليفة، وابو داود الطيالسي، وقدامة بن ميمون، وابوالفرج الاصفهاني صاحب الأغاني، والحافظ أبو نعيم صاحب حلية الأولياء، وراغب الاصفهاني صاحب مفردات القران، والآخرون من العلماء المعروفين بالعلم والزهد والتقوی. (طبقات المحدثين باصفهان)

نشاط العلماء بأصفهان

فلا عجب إذاً أن تصبح اصفهان دار السنة فيما بعد ومهاجر العلماء ومحط رحلهم، وكان المساجد والمدارس محل نشاط العلماء، وقد بنی نظام الملك في القرن الخامس عدة مدارس في عدة مدن، منها اصفهان وبغداد والبصرة وهراة و نيشابور. (گنجينه آثار تاريخي اصفهان 59، تاريخ اصفهان ص 216، تاريخچه اوقاف اصفهان)
يقول السيد مصلح الدين مهدوي: إن اصفهان كان مركز العلم والعرفان في القرون الإسلامية الاولی ونبغ فيها جماعة من العلماء والعرفاء والحكماء والشعراء والمحدثين والخطباء والوعاظ، وكانوا يرحلون لأخذ العلم وطلب الحديث من كل بلد، وكانوا يحضرون مجالس العلماء والمحدثين. (تذكرة القبور أو دانشمندان و بزرگان اصفهان المقدمة)
وقد نبغ فيها العلماء في كل فن، فكم من مهاجر إليها وكم من قادم عليها لطلب العلوم وأخذ الحديث.

اهتمام العلماء بتاريخ اصفهان

واهتمام العلماء بتاريخ اصبهان ورجالها العلماء والمحدثين والشعراء دليل علی ذلك؛ نحو «التاريخ الكبير» لحمزة بن الحسين الإصبهاني (ت 360 هـ) وطبقات المحدثين باصبهان لأبي الشيخ ابن حيان الذي تضمن تعريفا لنحو ستمائة وستين علماً من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من جهابذة المحدثين، «وذكر اخبار اصبهان» الذي تضمن التعريف لنحو ألفي شخص من محدثي اصبهان والقادمين عليها، وغير ذلك من المؤلفات خير شاهد علی نشاط الحركة الفكرية فيها.
قال السمعاني: خرج منها جماعة من العلماء في كل فن قديما وحديثاً وصنفت في تاريخها كتب عدة. يقول ياقوت الحموي: خرج من اصبهان من العلماء والأئمة في كل فن ما لم يخرج من مدينة من المدن بأسناد عالية، فإن أعمار أهلها تطول ولهم مع ذلك عناية وافرة بسماع الحديث وبها من الحفاظ خلق لا يحصون ولها عدة تواريخ…. ومن نسب إلی اصبهان من العلماء لا يحصون. (معجم البدان 1/209، 210)
قال القزويني: أما أرباب العلوم كالفقهاء والأدباء والمنجمين والأطباء فأكثر من أهل كل مدينة، بلغ نشاط العلماء باصبهان إلی حد يتفاخر به أهلها وينكر وجود العلماء في غيرها.
ولنستمع إلی أبي عبد الله المقرئ محمد بن عيسی (ت241هـ)، هو أصله من أصفهان ونشاء في "الرّي"، ومع ذلك يخاطب اهل الري فيقول: يا أهل الري من الذي أفلح منكم؟ إن كان ابن الإصبهاني فمنا، وأن كان ابراهيم ابن موسی فمنا، وإن كان جرير فمنا، وإن كان الخط فجدّي علمكم ما أفلح منكم إلا رجل واحد ولن أقول لكم حتی تموتوا كمداً. (طبقات المحدثين2/105 لأبي الشيخ ابن حيان)

نشاط الحديث في قری اصفهان

لا شك أن الحركة العلمية في اصبهان أثرت علی المدن والقری المجاورة التابعة لها حيث لم تجد في قری اصبهان في القرن الثالث وما بعدها إلا وخرج منها جماعة من العلماء والمحدثين.
وإليك ذكر بعض المدن والقری التابعة لها، وقس الباقية عليها.
قال السمعاني في قرية الأسواري: إنها قرية من قری أصبهان خرج منها جماعة من العلماء والمحدثين، منهم أبو علي الحسين بن زيد الأسواري (الأنساب 1/247) وابو الحسن علي بن محمد بن المرزبان الأسواري من أهل اصبهان، كان أحد الزهاد المشهودين بالصلاح والزهد والعفاف، وكان الناس يعتقدون فيه وحق له ذلك، وابو الحسين محمد بن أحمد بن محمد الأسواري من أهل اصبهان كان ثقة مأموناً صاحب أصول، كثير الحديث عن العراقيين يروي عن أبي مسرة أبي اسماعيل الترمذي وأبي حاتم الرازي….(الأنساب 1/163)
ذكر السمعاني تحت كلمة "جورجيد" أنها محلة كبيرة معروفة باصبهان، بها الجامع الحسن وكان بها جماعة من المحدثين قديماً وحديثاً (الأنساب 1/393)
وذكر السمعاني في نسبة الجوزداني نسبة إلی جوزدان ويقال كوزدان، وهي قرية علی باب اصفهان كبيرة وكثيرة الخير. بت بها ليلة وسمعت بها الحديث. ثم ذكر أسماء المحدثين المنسوبين إليها منهم ابو عبد الله محمد بن هارون بن عبد الله الجوزداني، وقال: ذكر ابو الشيخ أنه كان يختلف معه إلی البزرا (الأنساب 2/402)، فكيف لا تبقی اصبهان خلال التاريخ الإسلامي مورد عناية العلماء وهي مركز المحدثين ومبعث نشاط الرواة حيث بلغ إلی حد كان العلماء يرحلون إليها ويستوطنوها.
فمن مشاهير المحدثين الحفاظ الذين قدموا إلی اصفهان و استوطنوها: أبو سعيد الرازي الذي أقام باصفهان 45 سنة ثم رحل إلی العراق، ثم راجع منها إلی اصفهان واستوطنها وقد صنف المسند والكتب. أحمد بن مهدي المديني توفي سنة 272 ولم يحدث في وقته من الإصبهانيين أوثق منه وأكثر حديثاً، وقد أقام الطبراني بإصبهان ستين سنة يحدث بها واستوطنها أخيراً وتوفي بها سنة 360 ودفن عند قبر حممة بن أبي حممة الصحابي عند باب مدينة جي. (اخبار اصبهان 1/335 وتذكرة الحفاظ 3/915)
كذلك الحافظ أبوبكر عبد الله بن أبي داود السجستاني قدم اصفهان فقال: حدثت من حفظي بإصفهان ستة وثلاثين ألفاً ألزموني الوهم فيها في سبعة أحاديث، فلما انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها علی ما كنت حدثتهم به. (تذكرة الحفاظ 3/915) فهذا يدل علی اهتمام الاصفهانيين بالحديث.
وكذلك ابو داود الطيالسي سليمان بن داود قدم اصفهان وحدث بها مرات وهو صاحب المسند وغيرهم كثير.
لقد عفني علماء المسلمين باصبهان واهتموا اهتماماً تاماً في التصنيف والتأليف في جوانب شتی خلال التاريخ الإسلامي، وقد ذكر الشيخ الدكتور عبد الغفور في مقدمته علی طبقات المحدثين باصبهان 55 من الكتب المؤلفة في اصفهان قديماً وحديثاً.

مذهب أهل اصفهان قديماً وحديثاً

ذكر مؤرخو المذاهب والأديان أن أهل اصفهان في القديم انقسموا إلی ثلاث فرق: فرقة اتبعت الزرتشتية المجوسية، وفرقة اتبعت الديانة النصرانية المسيحية كما هو مصرح في قصة سلمان الفارسي، وفرقة اتبعت الديانة اليهودية.
والمجوسية كانت المذهب الرسمي للإصبهانيين، فعبدوا النار وقدسوها، وبنوا لها البيوت في أماكن بارزة ومتعددة، ويعد أبو الشيخ وأبو نعيم سلمان الفارسي الإصبهاني من مفاخر اصفهان، ويذكران أن والده كان من عباد النار. (طبقات ابي الشيخ ترجمة 3 اخبار اصبهان 1/491)
ولم تزل بعض آثار بيوت النار باقية حتی اليوم. وفتح المسلمون اصبهان وحولوا بعض بيوت النار إلی مساجد فيما بعد، وانتشر الإسلام باصبهان وما حولها، وسارع المسلمون فأسسوا المساجد بها، وأول مسجد أسس بها هو مسجد "خشينان" وقد أسسه أبو خناس مولی عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهد خلافة علي ابن أبي طالب وهذا ما رجحه أبو نعيم في أخبار اصفهان 1/17.
واستمر الحال علی هذا إلی أن استقام أمر أهل السنة فيها وقوي أمرهم واشتد إلی أن لجأ إليها الخوارج في عهد بني أمية، ولكن عتاب بن ورقاء واليها من قبل مصعب بن الزبير أخرجهم منها فلجأوا إلی الأهواز وعادث القوة فيها لأهل السنة، ويغلب عليهم المذهب الشافعي والحنفي سوی ما كان من ظهور الشيعة والزيدية بين الفينة والفينة، لكن الصبغة العامة كانت غلبة أهل السنة و الجماعة. (اقتصاد شهر اصفهان ص 20)
وحاول الإسماعيليون إثارة الفتنة عدة مرات لتنغيص هدوء المدينة واستقرارها وكاد يستفحل أمرهم، لكن فتوی قتلهم التي أصدرها الفقيه الشافعي أبو القاسم الخجندي ساعدت علی القضاء عليهم وإخراجهم منها، وعادت الغلبة لأهل السنة، وفي سنة 908 استولی الشاه اسماعيل الصفوي أول داع متعصب ومروج لمذهب التشيع علی اصبهان وغيرها من المدن الإيرانية، فأجبر أهل السنة علی اتباع مذهب الشيعة مستعملاً أسلوب الرغبة والرهبة، فمن الناس من تبدل إلی الشيعة من السنة خوفاً من القتل، ومنهم من آثر الشهادة ودار الآخرة، ومنهم من هاجر إلی البلاد الأخری فراراً بدينه ونفسه.
ويقول الدكتور علي كلباسي: ففي عهد الصفوية صار مذهب الشيعة المذهب الرسمي لأهم المدن الإيرانية، منها اصفهان، وهذا البلد الذي كان مركزاً مهماً لأهل السنة والجماعة صار الآن مركزاً مهماً للتشيع. ومن بداية دور الصفوية إلی الآن لا يوجد فيها من أهل السنة ولا في توابعها حتی الآن (اقتصاد شهر اصفهان ص 201) سوی كثير من المهاجرين الأفاغنة الذين تركوا بلدهم فراراً من الفقر وسكنوا بعض المدن في ايران ومنها اصفهان، وكانوا يصلون في اصفهان صلاة الجمعة والعيدين مع الجماعة ولكن منذ أشهر مفنعوا عن الجماعة وأجبروا علی تركها.
وهنا أترك للقارئ الكريم حرية المقارنة، ليری موقف الشيعة من بلد انتشر فيه مذهب أهل السنة والجماعة، وعم واستقر، كيف عاملوهم وما هو موقفهم الآن تجاه أهل السنة الموجودين فيها.
بلد أنجب عدداً كبيراً من الأئمة الفقهاء والمحدثين واللغويين وغيرهم وارتفعت فيه راية أهل السنة وكان في يوم من الأيام قاعدة من قواعد أهل السنة ليری كيف حوّلوه بالقهر والغلبة والتسلط، ونسخوا وجود أي مسلم سني، وقضوا علی حضارتهم وآثارهم.
وقد اعترف بهذا الدكتور علي كلباسي كما تقدم، وكاتبهم ومؤرخهم ميرزا حسن الأنصاري فقال (تاريخ اصفهان 1/38): إن مذهب أهل السنة والجماعة كان هو المذهب الرسمي السائد في اصفهان إلی بداية القرن العاشر الهجري (سنة 910)، فسيطرة أهل السنة في اصبهان كانت هي الغالبة في جميع هذه الفترة.
فأهل اصفهان اليوم كلهم شيعة اثنی عشرية وقليل من اليهود والنصاری، وذكر الدكتور "لطف الله هنرفر" أن اصفهان اليوم تضم 95% من الشيعة الإثنی عشرية و 2% من اليهود و 2% من النصاری. (كتاب اصفهان ص 6)

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

«أكثر هذه المقالة مأخوذة من مقدمة الدكتور عبد الغفور البلوشي علی طبقات المحدثين باصبهان»

 

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات