ما أشبه مصرع عبد القادر ملّا، مساعد الأمين العام للجماعة الإسلامية في بنغلاديش الذي قتلته الحكومة البنغالية ثأرا من الصحوة الإسلامية في هذا البلد وتشفيا بالمؤمنين؛ بمصرع الصحابي الجليل خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه، الذي قتله كفار قريش ثأراً وتشفيّاً بعباد الله المؤمنين.
سُجن الصحابي الجليل انتظاراً لتنفيذ الجريمة البشعة فيه، ثم خرجت به قريش إلى التنعيم (خارج حدود الحرم)، واجتمع الرجال والنساء والأطفال يحضرون مصرع الصحابي الجليل وصلبه، وعندما رفع إلى خشبته وأوثقوه، قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. وفي هذا الموقف العصيب قال قصيدته المشهورة:
لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا *** قبائلهم واستجمعوا كل مَجمعِ
وكلُّهم مُبدي العداوةِ جاهدٌ ***عليّ لأني في وَثاقي بمضيع
وقد جمّعوا أبناءهم ونساءهم *** وقُربت من جذع طويل مُمنّع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي *** وما أرصدَ الأحزابُ لي عند مَصرعَي
فذا العرشِ صبّرني على ما يُراد بي *** فقد بضّعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصالِ شلْو ممزّع
كذلك سجن عبدالقادر ملّا وهو شابّ مؤمن نشط، مكث في السجن أربعين سنة، ثمّ أتى الأعداء إليه لينقلوه إلى المصرع.
وهذه صفة اللحظات الأخيرة من حياته كما ورد في رسالته التي كتبها من زنزانته إلى أهله وذويه:
“أعدّت لي ملابس جديدة، الماء موجود في الدلو للغُسل، أمر الشرطي أن أستعجل في الغُسل، كثر المجيء والتردد إلى زنزانتي، مجيئهم يخلّ بتلاوتي، لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، لا يعلم أحد سوى الله تعالى عدد الأنفاس التي تصدر من الإنسان بين حياته وموته، فرّج الله عن الشعبين الباكستاني والبنغالي، ويردّ كيد أعداء الدين والمسلمين إلى نحورهم. لقد صمدت وثبتّ على الصراط الذي اخترته وأنا على يقين بأن هذا الصراط سينتهي إلى الجنة بإذن الله تعالى”.
لم أكن أعرف عن عبد القادر ملّا قبل مصرعه الكثير كما أن الكثيرين منا لم يعرفوه إلا بعد إعدامه بتلك التهم الواهية.
أراد الله تعالى أن يعيش عبد القادر ملّا مخلصا غريبا في زاوية السجن، ويبقى صريعا شهيدا ليُروي بدمه شجرة الإسلام الطيبة في تلك البلاد النائية. يمكن لواحد منا أن يدرك من خلال الرسالة المذكورة مدى حبه لوحدة المسلمين وحريتهم وكرامتهم وعزتهم.
قرأت أيضا أن في الآونة الأخيرة من حياته لمّا أتاه الضابط وأسمعه حكم الإعدام، قال الضابط المذكور له: ستعدم، فإن كنت تطلب العفو فافعل! فأجاب عبد القادر ملا: “العفو يطلب من الله العلي القدير الذي إذا دعي استجاب، لكن كيف أطلب العفو من مخلوقة عاجزة (حسينة واجد)، إن الله تعالى يشهد على برائتي وعلى أني أعاقب على إسلامي ونشاطاتي الإسلامية”.
ثمّ لمّا نقل إلى المصرع بدأ ينطق بالشهادتين، فأكمل “لا إله إلا الله” وبدأ ينطق بـ “محمد رسول الله”، لكن نفذ المجرمون الحكم قبل أن يتمّ شهادتيه هذه المرة، فنحسبه ولا نزكي على الله أحدا، مصداقا لقول الرسول الكريم “مَنْ كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ”. غفر الله لعبد القادر وأدخله جنات الخلد.
كان عبد القادر رحمه الله تعالى يحنّ إلى وحدة الأمة المسلمة واستقلالهم. شارك في النشاطات والمسيرات دفاعا عن وحدة الدولة الجديدة للمسلمين المضطهدين في الهند الذين أذاقهم الاستعمار البريطاني أولا ثمّ التطرف الهندي ثانيا سوء العذاب.
لمّا هبّت رياح الحرية والاستقلال للمسلمين في الهند وصارت لهم مملكة واحدة، ازداد الأعداء حقدا وعداوة أكثر، فتربصوا الفرص وخططوا لتقسيم هذا البلد، وأعانهم الخونة و العملاء والأغبياء والسفهاء من بني جلدتنا الذين نادوا بالقومية العفنة النتنة، ثمّ تعاونوا مع الأعدا ليقسّموا الوطن الذي لأجله ضحّى الملايين بأرواحهم أمثال عبد القادر.
وقف عبد القادر وهو شاب في العشرينات من عمره وبذل جهده للدفاع عن سيادة الوطن الإسلامي الذي انتمى إليه، لكن حالت بينه وبين غايته المنشودة تلك الجماعات الكاذبة التي لا ترضى لهذه الأمة إلا الخزي والهوان والفساد والطغيان. أوذي عبد القادر بالمطاردة والمضايقة، وألقي في السجن بأوهن التهم وأهواها.
فضّل عبد القادر أن يلقى في السجن ويشيب في زواياه على أن يرضى بالخنوع والذل والهوان والاستسلام.
أمّا اليوم وبعد هذا الإعدام المخجل، فقد عرف الشعب البنغالي أن عبد القادر لو تخلّى عن مبادئه ونشاطاته في الدفاع عن كرامتهم لأطلق سراحه، بل لما يسجن من أول يوم! وعلموا أيضا أنه لو أوقف نشاطات أحبابه وأتباعه الإسلامية بإشارة خفية من نافذة زنزانته، لأعيد في موكب رسمي من الحكومة إلى أهله وذويه؛ لكنه وقف ضد الفساد والطغيان وقوف البواسل الأبطال، وصبر في السجن صبر الثكالى!
لقد علم الجميع أن عبد القادر لو اتخذ من شعبيته مركبا لأطماع الطغاة في بنغلاديش، ولو اتخذ المداهنة والمساومة سبيلا ومنهجا، لأوقفت السلطات إعدامه أيضا في أي لحظة شاء هو!
عرف الشعب البنغالي صبره أربعين سنة؛ عرفوا وقوفه وقوف الأبطال البواسل في السجن والمحكمة، وعرفوا أيضا أن أعدائه وأعداء الدين أرادوا بتصفيته فتنة ولعبة جديدة بمصير النشاط الإسلامي في بلدهم بعد ما عجزوا مقابل الصحوة الإسلامية التي ظلت تحيط بهم من كل جانب؛ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
لقد عرفنا نحن عبد القادر متأخرين، لكنا عرفناه صريعا شهيدا في سبيل الله مقبلا غير مدبر، وعلمنا كيف ظلمته الحكومتان البنغالية والباكستانية! لكن في المقابل أحبه الشعبان الباكستاني والبنغالي، وبل الشعوب الحرة المؤمنة كلها؛ فتلك الجموع التي تجهشت وانفجرت بكاء حول مثواه الأخير، وتلك الدماء الزكية التي أريقت بعد استشهاده في الاحتجاجات، لأعظم دليل على محبته وشعبيته بين شعبه.
ولقد بعث عبد القادر بمصرعه في الضمائر الحرة روح الحرية والهمة في سبيل عزة الأمة المسلمة، ورسم بمصرعه درسا جديدا لنا في الثبات والصمود على خطى الصحابي الجليل، خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه الذي اختار الموت بدل الكفر، والاسلام على الاستسلام، ولبى دعوة ربه منشدا:
وقد خيروني الكفرَ، والموت دونه *** وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حِذارُ الموت، إني لميّتٌ *** ولكن حذاري جحم نار مُلفع
فلست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي
ولست بمبدٍ للعدو تخشّعاً *** ولا جزِعاً، إنّي إلى الله مَرجعي.
تعليقات