اختطاف المعارضين البلوش ثم قتلهم وإلقاء جثثهم في الشوارع والطرقات أو الصحارى ليست ظاهرة جديدة في تاريخ بلوشستان بعد سيطرة المخابرات والقوى الأمنية في المناطق البلوشية، لكن هذه الجريمة ذهبت لتدخل مرحلة جديدة وتفجر أزمة صراع بين المعارضين السياسيين البلوش والحكومة الباكستانية (الجيش والمخابرات الباكستانية) من جديد في السنوات الأخيرة.
لقد تجاوزت الجريمة أبجديات حقوق الإنسان في بلوشستان كلها عندما وجد الشعب البلوشي في هذه المنطقة جثث خيرة أبنائهم مشوهة ممسوخة ممثلة بأبشع طريقة، ورأى كيف يتم بمسمع ومشهد من القوى الأمنية والمخابرات الباكستانية استهداف طلاب معاهد الشرعية وعلماء البلوش في مدينة “كويتا” مركز إقليم بلوشستان من دون القوميات الأخرى. حتى الآن سجلت منظمات حقوقية إقليمية ودولية قرابة ألف شخص في سجل المختطفين المفقودين في هذه المنطقة، والناشطون المحليون في بلوشستان يؤكدون أن عدد المختطفين خلال السنوات العشر الماضية تجاوز 18 ألف شخص، وهم ليسوا من طبقة أو جماعة خاصة، بل ينتمون إلى كافة طبقات هذا المجتمع من العامة ورؤساء القبائل والمحامين والمثقفين والآكاديمين والعلماء وطلبة المدارس الدينية.
لكن من وراء اختطاف هؤلاء وقتلهم والتمثيل بجثثهم؟
كادت تتفق كلمة كافة الجماعات السياسية المسلحة وغير المسلحة في بلوشستان ومنظمات حقوق الإنسان أن القوات الأمنية التابعة للجيش الباكستاني (إف سي) هي المسئولة أولا وآخرا عن الجرائم التي تحدث في بلوشستان بما فيها أزمة الاختطاف والاعتقالات العشوائية.
بعد مقتل الزعيم البلوشي المعروف أكبر بوغتي، تدهورت الأوضاع وظهرت احتجاجات كثيرة في أنحاء بلوشستان ضد مشرف على اغتيال زعيم طاعن في السن. كان جليل البلوشي هو أحد الشباب المتحمسين الذين أقاموا عدة احتجاجات. سرعان ما اعتقلت المخابرات الباكستانية الشاب المتحمس جليل البلوشي . علم والد الجليل بعد مدة أن ولده معتقل لدى المخابرات. لما جاء ضابط من المخابرات ليتحدث مع عبد القدير والد جليل، طمأنه عبد القدير البلوشي بأن نجله ناشط سياسي وليس معارضا مسلحا ولا إرهابيا كما يزعم. و قال والده أيضا إن كان ولده إرهابيا كما يزعم هو لا بأس بمحاكمته في محكمة بطريقة عادلة، وناشده الأب المسكين أن لا يقتلوا ولده من غير محاكمة.
مرت أيام حتى أهدى جسد الولد الممثل به إلى عبد القدير.
عبد القدير البلوشي لم يكن سياسيا ولا معارضا ولا ناشطا. لقد أمضى جلّ حياته كموظف في أحد المصارف لمدة 35 سنة، وهو الآن في السبعين من عمره. فلما استلم الوالد جثة ولده الهامدة كان يعتبر نفسه صاحب حظ حيث أنه متأكد مطمئن من مقتل ابنه بعد الاختطاف، بينما المئات من العوائل البلوشية منذ عقود لم يجدوا من مفقوديهم حتى الجثة المعذبة التي وجدها عبد القدير البلوشي. هنا شعر عبد القدير بمرارة فقدان قريب وعزيز من أسرته ودمه ولحمه وأحس بالمؤاساة مع تلك الأرامل والأيتام من الأسر البلوشية التي تنتظر عقودا أن يعود الأب أو الزوج أو الأخ الذي اختطف من غير أن يتضح لهم سببه.
بناء على هذا نذر هذا الوالد العجوز أن ينفق باقي حياته في متابعة ملف المفقودين والمختطفين والبحث عن مصائرهم.
قبل سنوات أقام هو مع أقارب بعض المختطفين المفقودين احتجاجا في إسلام آباد. في ذلك الوقت كان رئيس حكومة إقليم بلوشستان عبد المالك البلوشي سناتورا، وحضر عند المحتجين وقال أيضا في ذلك الوقت للصحافيين “لن يستقر الأمن في بلوشستان بغير حل أزمة المختطفين البلوش”.
والغريب أن عبد المالك البلوشي الآن هو رئيس حكومة إقليم بلوشستان، وعبد القدير البلوشي لم يزل يواصل احتجاجه لأجل استعادة المفقودين المعتقلين مع جماعة من ذويهم وأقاربهم وعدد من الناشطين من طلبة الجامعات وغيرهم. ففي يوم السبت 27 أكتوبر بدأ عبد القدير نوعا جديدا من الاحتجاج في باكستان وهذا النوع من الاحتجاج لم يكن لها سابقة في باكستان التي تعوّد المحتجون فيها بحرق المنازل وإغلاق الطرقات وإحراق الممتلكات العامة، بل عبد القدير بدأ مسيرة احتجاجية طويلة مشيا على الأقدام من مدينة كويتا (عاصمة إقليم بلوشستان) إلى منطقة لياري في كراتشي (عاصمة إقليم سند) واستمرت هذه المسيرة الطويلة المذكورة إلى 22 نوامبر.
فلما قال أحد الصحافيين في مقابلته مع عبد القدير البلوشي أن رئيس حكومة إقليم بلوشستان عبد المالك البلوشي لا يملك اختيارات كافية لحل هذه الأزمة، فأجابه عبد القدير نعم لا شك فيه، لكن ألا يملك رئيس الوزراء نواز شريف أيضا اختيارات كافية لحل هذه المشكلة؟ سكت الصحافي وماذا يستطيع أن يقول؟
الغريب أن كلا من نواز شريف ووزير الداخلية نثارعلى خان كانا يؤاسيان مع ذوي المفقودين ويطالبان الحكومة بحل هذه الأزمة، وكانا يأتيان ويجلسان مع العوائل المحتجة في الشوارع، لكن لما جلسا على كراسي الحكم، تبدل كل شيء، وأصبحا محتاجين إلى أن يوقظهما شيخ في السبعين من عمره بمسيرة احتجاجية من كويتا إلى كراتشي في مساحة تبلغ 700 كيلومترا.
لاشك أن الدكتور عبد المالك البلوشي وكذلك نثار على خان ونواز شريف جميعا يريدون استعادة المفقودين إلى أهلهم وذويهم وحل هذه الأزمة بين بلوشستان والحكومة الباكستانية المركزية، لكن لما وصلوا إلى القدرة، تولوا المنصب ولم يتولوا الاختيارات كلها. فهم مسئولون محرومون عن حل القضايا الأمنية وفق رؤيتهم وسياستهم، وهذا هو الوضع في المحاكم الباكستانية أيضا؛ فهي أكثر قوة من الدولة الفائزة في الانتخابات والتي تأتى عبر صناديق الانتخابات. فإذا كانت المحاكم عاجزة في الملفات الأمنية، فكيف تقدر عليها الدولة؟
والإعلام أيضا يعتبر نفسه قوة مستقلة أخرى في باكستان، وربما للإعلام صوت قوي في الإطاحة بالوزراء والرؤساء، لكن ما إن رفع إعلامي أو صحافي قضية الملفات الأمنية والبحث عنها مثل الملف المذكور، توجه إليه سهام الغدر والخيانة للوطن حتى ينتهي نشاطه الإعلامي؛ وإن لم ينته فالقادم أسوأ للصحافي أو الإعلامي المسكين.
لقد أثبتت أزمة المختطفين والاحتجاجات الجارية لها وخاصة الاحتجاج الأخير أن هناك تناقضات غريبة صريحة في المجتمع والسياسة في باكستان من عجز المسؤولين وفقدان العدل والانصاف في المحاكم. وأثبتت أيضا أن القوة العسكرية البوليسية الاستبدادية هي التي تحكم هذا البلد وهذا الشعب الطيب في الحقيقة، والانتخابات ليست إلا خداعا وتخديرا لعقول الشعب، وغطاء تختفي ورائها تلك العقلية العسكرية التي تستمر في الإيغال في دماء المعارضين لاستبدادها في بلوشستان وقمع الأصوات المناوئة للحكم العسكري البوليسى في المناطق الأخرى من هذا البلد.
الكاتب: عبد الله البلوشي
تعليقات