اليوم :25 April 2024

ميدان التحرير .. من هنا كانت الثورة

ميدان التحرير .. من هنا كانت الثورة
tahrir_egypt_newفي تاريخ الإنسانيَّة بعض الأماكن تصبح علامة على نقطة تحوُّل في تاريخها، وليس ثمة شك أن ميدان التحرير في القاهرة عبر بالمصريين من زمانٍ إلى زمان، وحرَّرَهم من الخوف والاستبداد والفساد، وسوف نتذكَّر هذا الميدان الذي يقع في قلب العاصمة المصريَّة بوصفه مهد ثورة بيضاء فريدة من نوعها لم تطلقْ رصاصة واحدة على النظام الذي رغبت في إسقاطه، ألا وهي ثورة 25 يناير 2011 التي انتهت إلى إسقاط النظام الحاكم لمصر.

في ميدان التحرير اندلعت الثورة وكتبت فيه نهاية نظام، وفيه بدأ ما يسميه المحللون السياسيون الجمهورية المصرية الثانية بعد تسعة وخمسين عامًا من الجمهورية الأولى التي دشنها الضباط الأحرار وقائدهم الشاب حينها جمال عبد الناصر، ومنه أيضًا فتح جيل شاب أبواب عصر ثورة المعلومات ليسقطوا الطاغية ونظامه المتعفن الفاسد، لم يحتج الأمر إلى مدافع وبنادق وجمال وبغال وسيوف وبلطات وسواطير ليحصل ذلك، بل تطلب الأمر فقط الضغط على أزرار لوحة مفاتيح الكمبيوتر لتتجمع كل هذه الملايين من البشر في ميدان لا يتسع لها، وتهتف بحناجرها المبحوحة: الشعب يريد إسقاط النظام، وكان لها ما أرادت، فإذا الشعب يومًا أراد الحياة، يستجيب القدر.. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”..
يعد ميدان التحرير، أكبر ميادين مدينة القاهرة في مصر، إذ يصل اتساعه إلى 45000 متر مربع، سمي في بداية إنشائه باسم ميدان الإسماعيليَّة، نسبة للخديوي إسماعيل، ولم يكن الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر الفترة من عام 1863-1879, يتخيل أن يتحوَّل هذا الميدان الذي تأسس بعهده إلى ساحة انطلقت منها واحدة من أكبر وأهم صيحات التغيير التي عرفتها مصر على مرّ التاريخ، وقد اهتمَّ إسماعيل بهذا الميدان بشكلٍ خاص بعد انتقاله من مقرّ الحكم بالقلعة إلى قصر عابدين القريب من ميدان التحرير, الذي حمل في هذا الوقت اسم ميدان الإسماعيلية نسبة إليه، وتغير اسم ميدان الإسماعيلية ليصبح ميدان التحرير بعد ثورة 1919, ثم ترسخ الاسم رسميًّا بعد عام 1952، ثم حمل بعد ذلك اسم الرئيس الراحل أنور السادات بعد اغتياله، لكن الناس ظلّوا يطلقون عليه ميدان التحرير، وبقي هو الأكبر والأفضل تخطيطًا بين كافة الميادين المصرية, حيث يشبه في تصميمه ميدان شارل ديغول الذي يضمُّ قوس النصر بالعاصمة الفرنسية باريس.
ويحتلُّ ميدان التحرير أهمية كبرى لكونه يطلُّ على أهم الوزارات والمصالح والهيئات الحكوميَّة ويقع في قلب القاهرة الكبرى، فعلى الضفة الأخرى منه تقع محافظة الجيزة وعلى بعد عدة كيلو مترات قليلة تقع منطقة شبرا الخيمة بمصانعها وعمالها، وهي تتبع محافظة القليوبية وعلى بعدٍ قليل من الميدان تقع محطة القطارات الرئيسية التي تصل كل محافظات مصر ببعضها، وعلى الميدان تطلُّ الجامعة الأمريكيَّة وكبرى الفنادق المصرية الشهيرة وتتفرع منه عدة شوارع رئيسة تصلك بميادين أخرى أصغر منها:
شارع البستان الذي يوجد فيه أهم مراكز التسوق في وسط القاهرة، بالإضافة إلى العديد من البنوك ومؤسسات الدولة مثل وكالة أنباء الشرق الأوسط التي تقع في تفرع شارع هدى شعراوي المتفرع من شارع البستان، شارع محمد محمود البسيوني، شارع طلعت حرب، شارع التحرير، شارع الفلكي، شارع القصر العيني (والذي يضمُّ مقرّ تسع وزارات مصرية ويضم أيضًا مجلسي الشعب والشورى)، ميدان طلعت حرب، ميدان الشهيد عبد المنعم رياض، ميدان محمد فريد، شارع شامبليون، وشارع قصر النيل.
وتوجد به العديد من الأماكن الشهيرة مثل:
المتحف المصري، الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة، مجمع المصالح الحكوميَّة المعروف اختصارًا بمجمع التحرير، والذي قام بتصميمه الدكتور المهندس محمد كمال إسماعيل ويعد أكبر وأهم مجمع للهيئات والوزارات الحكوميَّة ويعمل فيه عدة آلاف من العمال والموظفين ويتردد عليه يوميًّا الآلاف لقضاء مصالحهم، مقر جامعة الدول العربية، القصر القديم لوزارة الخارجية المصرية، فندق النيل هيلتون، مسجد عمر مكرم، جراج عمر مكرم (المكون من أربع طوابق تحت الأرض ويتكون سطحه من حديقة عامة يتوسطها تمثال عمر مكرم)،
ويتم حاليا إنشاء جراج التحرير أمام المتحف المصري لحل أزمة الانتظار بالعاصمة، ويوجد بالميدان إحدى أكبر محطات مترو القاهرة الكبرى وهي محطة السادات والتي تضم الخط الأول والثاني معا.

مشاهدات من الأمس القريب
ثمة ملاحظة جديرة بالذكر ألا وهي أن هناك وشائج عديدة وصلات وثيقة بين كل الحركات والهبات والثورات والانتفاضات المعادية للاحتلال سواء كان الانجليزي أو الإسرائيلي أو النفوذ الأمريكي، أو المنادية بالحرية السياسية، أو الداعية للعدل الاجتماعي في مصر، ولعل من أهم هذه الوشائج التوجه إلى ميدان التحرير والسعي نحوه بوصفه المنتهي والنقطة الأخيرة، ومن بين هذه الوشائج أيضًا أن تلك الحركات اختارت شهري يناير وفبراير علي وجه الخصوص طوال الفترة السابقة علي الألفية الجديدة عندما اندلعت الاحتجاجات العنيفة واستغرقت نحو عشر سنوات حتي سقط النظام أخيرًا.
كان شهر يناير مثلا هو الذي شهد الاحتجاجات العنيفة عام 1975 حينما تجمع عمال حلوان أمام محطة المترو القديمة في أول شارع منصور بباب اللوق في الصباح المبكِّر ضدّ نظام السادات، وسرعان ما لحق بهم يهتفون: (…. كيلو اللحمة بقى بجنيه) و (…. جوز الجزمة باتنين جنيه) إلى جانب شعارات أخرى ذات طابع سياسي، ووصل الأمر إلى مقارنة عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء آنذاك بهتلر (حكم النازي ولاحجازي!)..
استمرَّت مظاهرة يناير عام 1975 يومًا واحدًا، لكنه أيقظ مصر بكاملها، فقد كانت هذه المظاهرة هي أول مظاهرة واسعة ذات مطالب اقتصاديَّة منذ ثلاثة عقود تقريبًا، لأن أقرب مظاهرات كانت هي مظاهرات الاحتجاج على أحكام قادة الطيران، وقبلها بعدة شهور كانت مظاهرات رفضت تنحي عبد الناصر، وكلتاهما ذات طابع سياسي.
وبعد عامين فقط، وفي شهر يناير أيضًا، اندلعت مظاهرات الخبز التي أطلق عليها السادات انتفاضة الحراميَّة!! في 18 و19 يناير عام 1977 حيث كانت الأزمة الاقتصادية تعصف بالجميع (جميع الفقراء بالطبع)، وكانت خطة الإعلام الحكومي التي استند عليها السادات في حكمه أن الرخاء قادم قادم، بعد الانفتاح الاقتصادي ووصول مراكب الدولارات الأمريكيَّة إلى الميناء، لكن مجلس الشعب اتخذ قرارات مفاجئة بزيادة أسعار عدد من السلع الأساسيَّة ليلة 17 / 18 يناير، وفي الصباح كان الزلزال كانت هذه المظاهرات تلقائيَّة تمامًا، لكنها مع ذلك جاءت علي أرضيَّة المطالب والشعارات التي كانت القوى السياسيَّة المعارضة، واليسارية علي الأخص، قد طرحتها في معاركها المختلفة سواء في الجامعات أو المصانع أو أثناء انتخابات مجلس الشعب عام 1976.
لعب ميدان التحرير طوال اليومين اللذين استغرقتهما الانتفاضة دورًا أساسيًّا، لأن مجرد تعطيله كان كفيلا بجذب انتباه الناس إلى ما يجري. موقع ميدان التحرير محوري في الحقيقة وعبقري ويربط بين الاتجاهات الأربعة ويطل علي جسرين ضخمين يربطان ضفتي النيل، لذلك كانت المظاهرات التي اندلعت خلال اليومين تصب فيه وتخرج منه.
وعلى مدى يومين كاملين خرج الملايين في أغلب المدن المصريَّة ينددون برفع الأسعار وسياسة الحكومة، وهوما دعا السادات للهروب إلى أسوان استعدادا للفرار، وقام المتظاهرون بتحطيم وحرق عدد كبير من مقار الحزب الحاكم وأقسام الشرطة والمباني الحكومية، وخرج البلطجيَّة والمجرمون من الجحور بعد فشل قوات الأمن المدجَّجة في وقف المظاهرات وسقط عدد من الشهداء وكثير من الجرحي، كان أداء الجهاز الأمني خلال وفي أعقاب الانتفاضة بالغ التهافت والرداءة.
مرَّت السنوات التالية علي نحو بطيء ثقيل، وبدأ ميدان التحرير يخلد للسبات، ففي خلال عقد الثمانينات لم يشهد الميدان سوى المظاهرات التي أعقبت غزو إسرائيل الهمجي لبيروت في صيف 1982 وإجبار جيش منظمة التحرير الفلسطينيَّة على الرحيل والتوزع بين المنافي على مرأى ومسمع من كل النظم العربيَّة.
بينما كان عقد التسعينيات من القرن الماضي كئيبًا وقفرًا توقفت فيه بلادنا عن النمو ليستشري الفساد ويتحوَّل إلى فساد منظم له قادته وميليشياته، وبدأنا في التحول تدريجيًّا إلى نظام أمني محكم ومحكوم بجهاز أمن الدولة، واستمرت أسماء مقررة علينا لأعوان رأس النظام تلعب نفس أدوارها المكرورة الكاذبة، ويتدهور التعليم والصحة والثقافة، وتظلّ نفس الوجوه في أماكنها سنوات وسنوات، ويتم العبث بالدستور والممارسة السياسية إلى آخر كل ما ميز هذا العقد الكئيب، أما ميدان التحرير فقد كاد يفقد بهاءه وزادت معدلات التلوث وازداد الزحام حوله فعاد للخلود إلى السبات.

خلوهم يتسلُّوا!
ولكن بقاء الحال من المحال، تغير الحال خلال سنوات العقد الأول من الألفية الجديدة والتي انتهت بثورة 25 يناير وعاد ميدان التحرير ليلعب دوره، وشهد للمرة الأولى المظاهرات المليونيَّة، سواء التي تتجاوز المليون أو تقترب منه أثناء غزو العراق أو الهجوم على غزة، وشهدت بلادنا خلال هذه السنوات عشرات الحركات الاحتجاجيَّة والمنظمات المستقلة والحركات السياسيَّة، ولم تقتصرْ مطالب هذه الحركات علي المطالب الاقتصاديَّة فقط، بل شغلت المطالب السياسيَّة حيزًا لا يُستهان به.
خلال هذا العقد أيضًا حاول نظام الحكم تدمير الروح المصريَّة مستخدمًا أكثر الأوراق خطورة مثل الفتنة الطائفيَّة، وغدا الفساد أسلوبًا للحكم، ورفض هذا النظام بصلفٍ وغرور الالتفات مجرد الالتفات لمطالب الرعيَّة وململتها وضجرها بثقل الوجوه التي ظلَّت تتكرر كأنها كوابيس.
المثير للدهشة هذا الانسداد الذي أصاب النظام، فالصحف تكتب وتتمتع بقدر لا بأس به من الحرية، وبسبب توقيع الحكومة المصريَّة على معاهدات دوليَّة بالسماح لأشكال التعبير السلمي عن الرأي، تقف مظاهرات صغيرة جدًّا تحيط بها دروع الأمن المركزي، ومع ذلك فإن الحكومة والنظام لا يلتفتان دون أدنى التفات لمطالب الناس، بل عرف عن الرئيس انه مولع بمفاجأة الناس باتخاذ عكس القرارات التي يحتاجها المجتمع ويمكنها أن ترفع بعض العبء عنهم دون أي عبء علي النظام، لقد بدأ النظام يعمل ضد نفسه ولم يعد يعبأ بورقة التوت بل يباهي الناس بسوءاته.
كثير من عقلاء النظام بل وأصدقائه والمشمولين ببركته، وكذلك المعارضين المستأنسين له والأكثر منهم راديكاليَّة، كلهم قدَّموا النصح وصاغوا قوانين وقرارات وقدموها للنظام لإنقاذ بلادنا قبل الكارثة، لكنه أعرض وأصرَّ على أن يسير نحو الهاوية بصلف وغرور وتصلُّب واحتقار للآخرين، حتى إن الرئيس عندما تناول ما سوف يحدث بعد يومين من خطابه حول المظاهرات التي كان الشباب قد أعلنوا عن القيام بها في 25 يناير سخر من الجميع قائلا: خلوهم يتسلوا!
مئات الحركات الاحتجاجيَّة خلال السنوات الست الأخيرة وسيطرة مطلقة ومباشرة للأجهزة الأمنيَّة وفساد يرتع ويلعب وملايين تئن من البطالة والفقر بعد أن دق النظام المسامير الأخيرة في نعوش التعليم والصحة.. كل ذلك دون أن يرعوي أحدًا منهم، بل على العكس المزيد من الصف والغرور والسخرية والتنكيل بالمعارضين والنَّيْل من الجميع.
مئات الفرص أُتيحت للنظام ليغطي سوءاته: احتجاجات المحلة الكبرى، والعشرات الذين افترشوا شارع مجلس الشعب لتنفيذ مطالبهم العادلة، احتجاجات القضاة وحركات التغيير، ما كان يجري يوميًّا على سلم نقابة الصحفيين، مظاهرات حاشدة في عابدين والسيدة زينب وأمام وزارة الداخليَّة وفي مئات المدن الإقليميَّة الصغيرة، مئات الفرص فرّط فيها النظام بكل صلفٍ وتصلب.. أما ميدان التحرير فقد بدأ في استعادة حيويته، إلا أن المؤكَّد أنه حتى الميدان نفسه لم يكن يتخيلْ أن يحدث فيه ما حدث بالفعل، لكنه حدث!!
ميدان التحرير إنه بالفعل مكان سيذكرُه التاريخ طويلا، ففيه صنع المصريون تاريخهم الجديد..

محمد بركة
المصدر: الإسلام اليوم

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات