اليوم :29 March 2024

ارتباط قضية فلسطين بالوعي الإسلامي

ارتباط قضية فلسطين بالوعي الإسلامي

Imageإنّ قضية فلسطين كانت سبب الاتصال بهذا العالم الإسلامي، وكانت سبب الاطلاع على العالم الإسلامي، ولا أكون مجازفاً إذا قلت: إنها سبب اكتشاف هذا العالم الإسلامي، فكانت قضية مباركة من هذه الناحية، فقد عرفنا هذا العالم من جديد، وعرفنا ما ينقصه وما يحتاج إليه.

 ——————————————————————————

بقلم: المفكّر الإسلامي الكبير الإمام السيد أبوالحسن علي الحسني النّدوي رحمه الله

[محاضرة ألقيت في 26 يونيو( حزيران)1956 م في المؤتمر الإسلامي الثاني في دمشق.]

 

أيها السادة!.. إنّنا اعتمدنا في حلّ قضية فلسطين على العالم الإسلامي، والوعي الإسلامي، أكثر مما اعتمدنا على الحكومات والجيوش والأسلحة، ولو ذهبتُ أنقل ما قاله القادة والمفكرون، وما كتبوه في هذه الناحية لملأ الأسفار، وهذا موقف يشرِّفنا، ويبيّض وجوهنا، ويرفع رؤوسنا، فإنَّ الاعتماد على الوعي العالمي والشعور اليقظ، لم يزل من شأن القضايا العادلة، ومن شأن المظلوم السليب الذي غمط حقه، من شأن المظلوم الذي يؤمن بأنّه على حقٍّ، ويؤمن بأنّ الحق لا يعدم ـ في دور من أدوار التاريخ ـ من يعترف به، ويغضب له، وينتصر لصاحبه، فكان هذا الاعتمادُ إيماناً بالضمير الإنساني، وإيماناً بالضمير الإسلامي، وكان إيماناً بأنَّ قضية فلسطين ـ القبلة الأولى ومسرى الرسول صلي‌‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليست لأهل فلسطين فحسب، ولا للعرب فحسب، بل للمسلمين جميعاً والعالم الإسلامي بأجمعه.

وإنَّ العالم الإسلاميَّ الّذي يمتدّ من جزر المحيط الهندي إلى مراكش، وتكوينه مجموعةً تكاد تكونُ أكبر مجموعة بشرية تلتقي على عقيدة واحدة ورسالة واحدة، لخليق ـ والله ـ وجدير كل الجدارة بأن يعوّل عليه، ويرجع إليه في حلّ كل مشكلة من مشكلات النوع الإنساني، وردّ كل عدوان عن أي أمّة من الأمم، واسترداد كلّ حقٍ مغتصبٍ، وانتصاف من كل ظالمٍ عاتٍ عنيدٍ، فضلاً عن مشكلة واحدة كمشكلة فلسطين، فلا عجب إذاً ـ أيها السادة ـ إذا اعتمدنا على هذا العالم الإسلامي في حلّ مشكلة فلسطين، وهي مشكلته، وفي استرداد فلسطين وهي حقه.

ولكن اسمحوا لي ـ أيها السادة ـ أن أسأل: ماذا تعنون بالعالم الإسلامي؟ أتعنون به مجموعة بشرية تسكن في ساحة واسعة، وتعيش كما تعيش الأمم، من غير عقيدةٍ وخلقٍ وعملٍ؟

إنّي أجلّكم وأربأ بعقولكم الناضجة عن هذا التفكير، فما صلة قضية فلسطين ـ وهي قضية تقوم على العقيدة والشعور والعاطفة ـ بهذه القطعان البشرية التي تعيش بغير عقيدةٍ وغايةٍ ورسالةٍ؟! وما غناؤها في حلّ مشكلة كمشكلة فلسطين؟!

إنّي أسبقكم وأقول لسادتكم: إننا إذا اعتمدنا على العالم الإسلامي، فقد اعتمدنا على تلك القوة الكامنة في نفوس هذه الأمة العظيمة، التي تسكن في هذه المنطقة، هذه القوة الكامنة التي صنعت المعجزات في الماضي، وجديرة بأن تصنعها في الحاضر، هذه القوة التي انتزعت هذه البلاد كلها من أيدي الروم الظالمين، وأفاضت عليها حياةً جديدةً، ونوراً جديداً، وضمت قُدُساً جديداً إلى قُدُسها القديم، هذه القوة التي لم تعرف الحذر، ولم تعرف الهزيمة، ولم تفهم لغة الأرقام، ومنطق الأسباب والعدد، هذه القوة التي لا أجد لها تعبيراً في لغات البشر جمعاء أبلغ من (الإيمان).

إنَّ هذا الإيمان وما ينتجه من أسلوب للحياة، ونوع من الأخلاق، هو سمة هذا العالم الإسلامي وقوته وسلاحه، وهو القوة الكبرى التي اكتشفها البشر، وعرفها التاريخ، وهو القوة التي تخلق الحكومات، وتخلق الأمم، هو كالمفتاح لكلِّ قفلٍ من أقفال الحياة البشرية، فإذا اعتمدتم عليه، فقد اعتمدتم على أكبر قوة يملكها الإنسان، وإذا وجدتموه فقد ملكتم المفتاح الذي تفتحون به كلّ قفل.

فهل استعرضتم العالم الإسلاميّ الذي تعتمدون عليه في حلّ هذه المشكلة؟

وهل استعرضتم ـ أيها السادة ـ قوة الإيمان والوعي الإسلامي التي تعتمدون عليها في تمكن العالم الإسلامي من حلّ هذه المشكلة؟وهل تعرفون ما جدّ فيه من حوادث وتطورات، وما فعلت به العوامل القوية في الزمن الأخير؟

إنّي أخاف ـ ومعذرتي من هذه الصراحة ومن هذه المرارة ـ أنّكم تتصورون عالماً إسلامياً يعيش في التاريخ أكثر مما يعيش في واقع الحياة، ذلك العالم الجميل الرائع الغيور، الذي لا يظلم، ولا يسمح بالظلم في أي مكان، ذلك العالم الذي لا يأخذ حق غيره، ولا يتنازل عن حقه، ذلك العالم الذي إذا نادت في ناحية منه عجوز: وامعتصماه، أجاب المعتصم في ناحية أخرى:لبيك، هذا العالم الذي كان يعتبر كل فرد منه نفسه مسؤولاً عن كل شبر من هذا العالم الواسع، ويرى هذا العالم الإسلامي على سعته وطناً واحداً، ويرى هذه الأمة جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ذلك العالم الذي كان كل فرد من أفراده يحنّ إلى الشهادة في سبيل الله، كما يحنّ الواحد إلى الحياة.

هذا العالم  ـ أيها السادة ـ لا تقع فيه كارثة ككارثة فلسطين، وإذا وقع فإنها تعالج في أقصر وقت وأقرب مدة.

أمّا العالم الإسلامي اليوم فلا تؤاخذوني إذا قلت: إنّه فقد ـ على حين غفلة من الدعاة والمربين ـ شيئاً كثيراً من معنوياته والعناصر التي تكون شخصيته، وهي:

1-الإيمان بالغيب إيماناً يفوق إيمان الماديين بماديتهم.

2- وإيثار آجل الآخرة على عاجل الدنيا.

3ـ والاستهانة بزخارف الدنيا ومتعها.

4ـ والاستقامة على الحق، والتفاني في سبيله.

5ـ والحمية الدينية.

فكانت هذه النكسة في النفس هي السبب الحقيقي للنكسة الفظيعة التي واجهها العالم الإسلامي في جميع ميادين الحياة، وسبب كل النكبات التي نكب بها في العصور الأخيرة.

لقد طرقتنا حوادث العصر الأخير، ونحن نتصور ذلك العالم الإسلامي الذي كان يعيش في القرون الأولى،أو يعيش في أذهاننا وتصوّراتنا، فلجأنا إلى ذلك العالم نطلب فيه الحل لهذه المشكلات الطريفة،  ونستمد منه القوة والزاد؛ فإذا بنا نفاجأ بعالم جديد لا عهد لنا به، ولا غناء لنا فيه في هذه المشكلات وفي هذه النكبات، فكانت مفاجأة أليمةً تهزُّ مشاعرنا، وتبخِّر آلامنا.

واسمحوا لي ـ أيها السادة ـ أن أنقل ما كتبتُه قبلَ عدة سنوات في هذا الموضوع، ولا أرى أنّه يحتاج إلى تعديل:

« أتى على العالم الإسلامي حين من الدهر، وهو مستخفّ بهذه القوة المعنوية، لا يحفل بها، ولا يحتفظ بالبقية منها، ولا يغذيها، حتى نضب معينها في قلبه.

فلمّا خاض العالم الإسلامي المعاركَ التي تحتاج إلى الإيمان والصبر والثبات، وتحمّل الشدائد والنكبات، وزلزل بعض الزلزال، ولجأ إلى القوة المعنوية الكامنة في نفوس المسلمين، كانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، هنالك عرف أنه جنى على نفسه جنايةً عظيمة بإهمال هذه القوة الروحية، وتضييعها، وبحث في جعبته فلم يجد شيئاً ليسد مكانها ويغني غناءها.

وخاض العالم الإسلاميُّ معارك حاسمة، وهو يرى أنّ المسلمين لا بد أن يهرعوا للدفاع عن الإسلام، وحماية بلادهم المقدسة، وسيغضبون لـلّه ورسوله صلي‌‌الله‌عليه‌وسلم ، وحرماته، وأنّ الأقطار الإسلامية ستشتعلُ ناراً، وتتوقدُ حميّة وحماساً، فإذا الحادث لم يؤثر في المسلمين التأثير المنتظر، وإذا النصر ضئيل، والسخط خافتٌ، وإذا المسلمون كعادتهم في غدواتهم وروحاتهم، منهمكين في لذاتهم وشهواتهم، كأن لم يحدث كبير شيءٍ، فعرف أنَّ الحميةَ الدينية قد ضعفت في المسلمين، وأن شعلة الجهاد قد انطفأت، أو كادت، وهنالك عرف الناس ضعف العالم الإسلاميِّ وخذلانه، وهوانه على المسمين أنفسهم».

وبعد ذلك أقول: إنّ العالم الإسلامي على ضعفه وانحرافه مستعدٌّ كلَّ الاستعداد ليكون ذلك العالم الإسلامي السليم القوي، الدافق بالحياة، الذي يصحّ الاعتماد عليه في حلّ المشكلات الإنسانية كلّها، فضلاً عن مشكلة واحدة، ولو كانت ضخمة معقدة كمشكلة فلسطين.

إنّه مستعد ليكون ذلك، لأنّه لا يزال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالنبوة المحمدية، على صاحبها الصلاة والتحية، إنّه لا يزال متصلاً بمنبع الحياة والقوة، ومصدر النور والفيض، إنّه ليس كالأمم والمجتمعات البشرية التي انقطعت صلتها بالنبوات ورسالات السماء، إنه إذا ذُكِّر ذكر وإذا نُبِّه انتبه.

هذا العالم الإسلاميُّ ـ أيها السادة ـ في حاجة إلى بعثٍ جديدٍ، في العقيدة والإيمان، والأخلاق والأعمال، وبتعبير أدقّ: إنه ليس في حاجة إلى دين جديدٍ، ولكنه في حاجة إلى إيمان جديد بالحقائق الخالدة، والعقائد الخالدة، والرسالة الخالدة، والدين الخالد، وأنا أحمي سمعي وبصري ولساني وقلمي، أن أسمّيه القديم، فإنّ الدينَ ليس فيه قديم ولا جديد، إنّه دين واحدٌ، وإنّه دين خالدٌ، ولكنّي أُلحُّ على أن أسمّي الإيمانَ جديداً، إنّ من الإيمان ما هو قديم، وإنّ من الإيمان ما هو جديد.

إنّ قوة الرعيل الأول، والطراز المتقدم من هذه الأمة، في أنّه كان يحمِلُ إيماناً جديداً، فعجز الإيمان القديم الضعيف البالي الذي كانت تحمله بعض الأمم عن مقاومته، وكان كالشمس الجديدة التي تطلع على العالم، فتسطع على كل شيء، وتبهر كل شيء.

إنّه قد جدّت فتنٌ، وجدّت خطوبٌ، وجدّت معارك فليتجدّد الإيمان.

إنّ هذا العالم الإسلاميّ يملك أعظم ثروةٍ من الإيمان، ولكنّها ثروة دفينة تحتاج إلى إثارة واستثمار.

إنّ الأسس التي تبنى عليها الحياةُ، لا تزالُ موجودةً في هذه الأمة؛ حين فقدتها الأمم الأخرى وضيّعتها، وهي أسس الإيمان، فليبن عليها البنّاؤون، وليقَم عليها صرح الإسلام من جديد.

إذاً فالعالم الإسلامي في حاجة إلى تجديد الإيمان، والإيمان بالله، والإيمان بالرسالة، والإيمان باليوم الآخر، إيماناً حقيقياً لا صورياً، فإذا تحرك هذا الإيمان في النفوس، وتحوّل من الصورة إلى الحقيقة، وشمل الحياة كلَّها، انحلّت كلّ مشكلةٍ، وتفتّحَ كلُّ قفلٍ.

إنّ العالم الإسلاميّ لا يزال مجهولاً، والناس في هذا الجهل طبقتان:

1-فمنهم مَن يكوِّن له في نفسه صورة يعيش فيها، إنّه يبالغ في حُسن الظنّ به، فيُحمِّله ما لا يَحمل، ويطلب منه ما لا يملك، إنّه يرجو الثمرة من غير أن يعتني بالشجرة، إنّه يهمل جانب الإيمان وجانب العقيدة، ولكنّه يطلب منه أفعال المؤمنين الصادقين، ويتوقع منه أن يظهر منه ما ظهر من الجيل الإسلامي الأول، وتلاميذ مدرسة الرسول الأعظم صلی‌الله‌علیه‌وسلم من روائع البطولة وخوارق الجهاد.

2- ومنهم من يجهل طبيعته، وعقيدته، وتاريخه، والقوى المودَعة فيه، والكنوز المدفونة في أرضه، فيعامله معاملة أمة لا تدين بدين، ولا تؤمن برسول، ولا تحمل كتاباً، فيعالج مشكلاته كما تعالج مشكلات أمة جاهلية، ويلتجئ في حل مشكلاته، وفتح أقفاله وعقده إلى كل وسيلة، إلا الدين والعقيدة وإثارة الإيمان فيه؛ فكلاهما في تعبٍ وصراع.

والوقع أنّ العالم الإسلامي اليوم ليس في إيمانه وصلته بالله كالعالم الإسلامي في العصر الأول، فلا نطلب منه ما يصدر عن إيمان عميق، متغلغل في الأحشاء، وليس ـ على عِلَّاته ـ كالأمم الجاهلية، فتعالج مشكلاته بطرق مادية، ووسائل صناعية، إنّه  

مؤمنٌ، ولكنَّ إيمانه يحتاج إلى تجديد، وإثارة وتحريك وإلى تنظيم.

إنّ قضية فلسطين كانت سبب الاتصال بهذا العالم الإسلامي، وكانت سبب الاطلاع على العالم الإسلامي، ولا أكون مجازفاً إذا قلت: إنها سبب اكتشاف هذا العالم الإسلامي، فكانت قضية مباركة من هذه الناحية، فقد عرفنا هذا العالم من جديد، وعرفنا ما ينقصه وما يحتاج إليه.

فلنعملْ على تكوين هذا العالم، وبعثه من جديد على أساس من الإيمان والخلق، ولنعرفْ أنّ المفتاحَ الذي يفتح هذا القفل ـ وكلّ قفل من أقفال هذه الأمة ـ هو وجودُ الإيمان القوي، والوعي الإسلامي الصحيح في الشعوب الإسلامية وهو الضامنُ بالانتصار في معركة فلسطين، والكافلُ بالانتصار في كل معركة، الحافظ من كل خطر، ومن كل ضيم، والسبب في كل مجد، وفي كل سعادة.

فليفكر قادة الرأي في العالم الإسلامي ودعاة الإسلام المخلصين، في بدء هذه الحركة المباركة، وفتح معسكر الدعوة الإسلامية من جديد، وتنظيم حملة ـ هي حملة هادئة سليمة مباركة ـ على العالم الإسلامي، وليعرفوا كيف يزرعون الإيمان، وكيف يغرسون الإسلام في قلوب المسلمين أنفسهم، وكيف يشعلون العاطفة الدينية في هذه القلوب الباردة، والأجساد الهامدة، وكيف ينشرون الدعوة إلى الله ورسوله صلي‌‌الله‌عليه‌وسلم ، والإيمان بالآخرة على منهاج الدعوة الإسلامية الأولى.

ولهذا المؤتمر الإسلامي الكبير أن يبثَّ دعاته في العالم الإسلامي، ينتشرون في أنحاء الأرض، ويكونون في حركة دائمة، ونشاط دائم في سبيل الدعوة والتذكير، والتربية الإسلامية، وبذلك يستطيع المؤتمر بإذن الله أن يحلَّ مشكلة فلسطين، ويؤمّن العالم الإسلامي من كل مشكلة جديدة.

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                  

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات