اليوم :16 April 2024

الأضحية بين العادة والعبادة!..

الأضحية بين العادة والعبادة!..

Image
حكت لي جدتي قصة رمزية كانت ولا زالت صداها في قلبي .. قالت في بساطة تحاول أن تخفيها وراء سذاجة العوام ـ وهي تسلمني مبلغا من المال لأشتري لها أضحية قبل العيد بثمانية أشهر ـ:  فإنه كان يا ما كان، في سالف الأزمان رجل فقير يبكي ويتضرع بين يدي الله عز وجل ليرزقه شاة.

 

 

****************************
• نور محمد جمعة
محاضر بكلية اللغة العربية والحضارة الإسلامية، بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد ـ باكستان.
****************************

حكت لي جدتي قصة رمزية كانت ولا زالت صداها في قلبي .. قالت في بساطة تحاول أن تخفيها وراء سذاجة العوام ـ وهي تسلمني مبلغا من المال لأشتري لها أضحية قبل العيد بثمانية أشهر ـ:  فإنه كان يا ما كان، في سالف الأزمان رجل فقير يبكي ويتضرع بين يدي الله عز وجل ليرزقه شاة فإنه قد حرم اللحم منذ سنين. فجاءه هاتف في المنام بأن الله عز وجل يقول لك؛ إذهب إلى وادي الأضاحي، فلي فيها من الشياه والأنعام ما تملأ الأرض، وخذ منها ما تشاء. ذهب الرجل إلى تلك الوادي ووجد بها ملايين الغنم والإبل والبقر. فنزل بينها ليختار منها شاة واحدة. وبعد يوم من البحث لم يجد بينها شيئا ينفعه، فرفع أكفه إلى السماء يقول: يا رب! ما أكثر غنمك! ولكن ليس بينها واحدة تصلح. فسمع هاتفا من السماء يقول: إن هذه أضاحي عبادي قدموها لي ….
قصة رمزية لطيفة تخفي وراءها معاني خطيرة لم أكن أشعر بها يوم أن كنت أعيش في قريتي التي تمتلئ فقرا وبساطة وسذاجة وربما جهلا كذلك..
فإن للأضحية في قريتي معنى آخر، يختار القروي البسيط أضحيته قبل عيد الأضحى بثمانية أشهر وربما قبل ذلك بعناية فائقة، ثم يبدأ يربي هذا الحيوان الصغير ويعده. فيطعمه قبل أن يأكل وربما مما يأكل. وطالما يجلس معه ويحكي معه الحكايات وعلى وجه الأخص حكاية سيدنا إبراهيم وابنه الذبيح إسماعيل عليهما السلام، و… فيتعلق الحيوان بالقروي الساذج تعلق الابن بأبيه، ويصبح القروي كذلك يحبه كما يحب الرجل ابنه.
وفي يوم العيد ترى الرجل وهو يذبح أضحيته هذه يكاد يفقد وعيه من شدة الحزن عليها، أما المرأة فتسمع بكاءها وعويلها وهي تقف على رأسه أضحيتها التي ربتها كابن لها وهي تذبح بين يديها..
صورة تشبه الأصل وتزكي القلوب وتطهرها..
أحيانا أقول في نفسي: أليس هؤلاء القرويين السذج أفقه لمعنى عبادة الأضحية من كثير منا نحن المشايخ؟!.. والله أعلى وأعلم.
وأما في المدينة!..
تشتد هجمة الدعايات لجمع الأضاحي قبل عيد الأضحى بشهر… ففي باكستان مثلا:
كبرى مؤسسات الخيرية؛ وهي مؤسسة يقودها رجل قادياني كافر يظنه معظم أهل البلد شيخا مسلما صالحا، فشكله وصورته تخدع الناس (!)،  وقد قرأت عنه نقده لعبادة الأضحية واقتراحه بأن تنفق هذه المبالغ في وجوه الخير والإغاثة الإنسانية، فحاجة الفقير إلى الكساء أشد من حاجته إلى اللحم(!)… ولا عليه! فالمسكين لا يدرك معنى عبادة الأضحية عندنا نحن المسلمين. ولا عليه! فإنه لا يدرك دوام الصلة بين أبينا إبراهيم عليه السلام وأمة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، وبالتالي نقل قيادة البشرية إلى هذه الأمة. ولا عليه! فإنه يجهل بأن الأضحية ليست قروشا تنفق، وإنما جشع يذبح وقلوب ترتقي إلى سمو المعاني الروحية وأمة تتصل بنبعه الأول و…
ومؤسسة أخرى يرأسها رجل علماني باسم أمه شوكت هانم، تخرج كل عام دعاية سخيفة أشبه بدعايات الأفلام الخليعة (!): "اللحم لله، والجلد لشوكت هانم"، فتجارة جلود الأضاحي تعتبر من أنجح الأسواق التي تكسب المؤسسات الإغاثية مبالغا ضخمة.
بجانب هذه الدعايات الرنانة لتلك المؤسسات الضخمة التي تساندها الدعايات الإعلامية على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز، هناك العديد من المؤسسات الإسلامية التي تؤدي دورا مباركا مشكورا نسأل الله أن يبارك في جهود القائمين عليها وأن يسدد خطاها وأن يوفقهم لما يحبه ويرضاه…
ولأن هذه المؤسسات تعكر الجو الإستغلالي لتلك المؤسسات العلمانية وللنشاط التنصيري بشكل عام فتبقى تحارب بشتى الوسائل والأساليب…
وقد أثرت هذه الأجواء المشبوهة من التنافس على بعض المؤسسات الإسلامية مما أثرت سلبيا على العمل الخيري والإغاثي مما يجعلني أقول: لابد من النقد الذاتي، ومن إعادة صياغة العمل الخيري في ظل المفاهيم العبادية والمعنوية بعيدا عن ضجيج المادة الإعلامية!
ففي العام الماضي شاهدنا دعايات لبعض المؤسسات الخيرية الإسلامية ـ نحسبها على الخير ولا نزكي على الله أحدا ـ تقول بأن المشاركة الواحدة للبقرة بـ 2000روبية، بل البعض قالوا: 1800روبية باكستانية للحصة الواحدة. أي أن البقرة الواحدة ـ سبع مشاركات أو سبع حصص ـ ستكون بـ 14000روبية فقط!
وقد كنت على شيء من العلم بسوق المواشي يومذاك، وكنت أعلم أن هذا المبلغ لا يصلح لشراء عجل صغير في أي مكان من هذا البلد، وربما حتى في العالم كله!
فيا ترى! كيف تتصرف تلك المؤسسات، وبماذا عساها أن تضحي؟!
ورأيت مؤسسات أخرى قدمت من أروبا لتضحي عن المسلمين الذين لا يتمكنون على أن يضحوا هناك، فكان صاحب المؤسسة أو من يدير شؤونها هنا ترى نفسه مكلفا بذبح عدد معين من الأضاحي، فيحاول أن يكمل العدد بأرخص سعر ليوفر بقية المال لمشاريع أخرى. والله أعلم (!) دون أن يدرك بأن الأضحية عبادة…
ورأيت الواحد منهم لا يدخل السوق إلا في الساعات المتأخرة من اليوم الثالث من العيد ليصبح البائع الفقير مضطرا ليساوم على السعر! ـ علما بأن بعض المذاهب الفقهية، إشعارا لمعنى العبادة فيها، لا تجيز المساومة على سعر الأضحية ـ.
وكان مما علق على الموقف أحد الظرفاء أن قال لهم: يا إخوتي! أنتم بعملكم هذا كمن يسحب اللقمة من فم فقير مضطر ليضعها في فم فقير آخر!!
وسمعت أحدهم جلس يقول مفتخرا: والله فقد ضحيت بخمسة آلاف بقرة سعر الواحدة منها 16000 ألف روبية فقط! أي الحصة الواحدة بأقل من 2300 روبية!!
أما أين كانت تقدم هذه الأضاحي؟ فهذه معضلة أخرى!
أضطرت هذه المؤسسات بحثا عن أرخص الأسعار أن تذهب إلى المناطق الجبلية الخضراء ـ الغنية ـ التي تكثر فيها المواشي. وتقدم أضاحيها لأناس يرون الأضحية واجبا على أنفسهم!..
ولم أزل أسمع كل عام أن كذا وكذا من لحوم الأضاحي تعفنت بمنطقة كذا، للمؤسسة الفلانية أو غيرها…
وفي العام الماضي فاتحت إحدى هذه المؤسسات أن يقدم أضاحيها للمناطق التي عاشت سبع سنين دأبا من القحط في السند وبلوشستان وقندهار ولمخيمات مهاجري الأفغان. فقال لي: يا أخي! سعر أرخص بقرة هناك 30.000 روبية، وفي كشمير أجد أبقارا بأقل من 16000 ألف!!
وهكذا ساهمت كثير من المؤسسات الإغاثية في ضياع المعاني المعنوية والروحية في العبادات.
فالأضحية سنة إبراهيمية ورثناها من المصطفى عليه الصلاة والسلام ـ وفي بعض المذاهب واجب ـ على القادر! فإن كنت يا أخي لا تستطيع أن تقدم أضحية مناسبة، وأن توصله إلى المحتاج إليها، أوليس من الأفضل أن تقدم ما تستطيعه في وجه آخر من وجوه الخير، وما أكثرها…
وقس سائر وجوه العمل الخيري على هذه!
فكثير من المؤسسات الخيرية حفرت آبارا في مناطق تكثر فيها المياه، ولا يحتاج المرء للبحث عن الماء إن لزمه الأمر إلا أن يترك ابنه يثقب الأرض بعصاه!
وسمعت أحدهم يقول: يا أخي، تكلف البئر الواحدة في صحاري السند وبلوشستان أكثر مما تكلفنا عشرة آبار في كشمير أو المناطق الشمالية، والبئر الواحدة تعني تقريرا واحدا وثلاث صور، وعشرة آبار تعني عشرة تقارير وثلاثين صورة أرفعها إلى المكتب الرئيسي!..
والفضيحة القبيحة التي قصمت ظهر العمل التربوي في إحدى البلاد الإسلامية يوم أن كشف أن مدير إحدى المؤسسات كانت تترك الأموال التي لابد أن تصرف على دور تحفيظ القرآن في بنك ربوي ويطعم طلاب العلم من أرباح تلك الأموال لينهب رأس المال في النهاية!
وأعجبني تعليق أحدهم في اجتماع حضره مندوبي عدد من المؤسسات الإغاثية على سؤال طرح في الجلسة؛ لماذا بعض من نكفلهم من طلاب العلم، يستغلون المال في شرب الدخان وسائر المحرمات؟
فقال: يا أخي! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. هذا المال الذي يقدم إلينا؛ منه ما جاء على وجه الإخلاص والصلاح فلا يذهب إلا في وجه الخير والتقوى، ومنه ما جاء رياء وسمعة أو ربا أراد صاحبه أن يتخلص منه، فلا يذهب إلا في وجه الشر…
والعاقل تكفيه الإشارة…

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات