اليوم :20 April 2024

من اليوم.. خطط لليلة القدر

من اليوم.. خطط لليلة القدر

هَلْ خَمْسَةٌ وَعفشْرفونَ يَوْمًا مفدَّةٌ كَاففيَةٌ لفتَحْقفيقف النجاحف؟

وهل هي فترةٌ كافيةٌ لأنْ يبلغ الإنسان أقصى ما يمكنفهف من درجاتف التهيّؤ والاستعداد؟

وهل هو مدى زمنيّ وافف لبلوغ الآمالف، وحصولف الرّفغابف؟

كان هذا ما فكرتف فيه حين أوحى إليَّ فاضلٌ من الفضلاء بالحديثف عن (التخطيطف لليلةف القدرف) بلغنا الله وإياكم بركتها وهداها.

أنا إذن أشعرف أن الحديث اليوم عن التخطيط لليلة القدر هو حديث (متأخر) عن وقتفهف، وليس مبكرًا كما قد يتوهم البعض!.

لذلك اسمحوا لي أن أصرفَ وجهَ الحديثف عن الصيف وعن المدارسف وعن شعبانَ وحتى عن فضائل رمضان ونحو ذلك من الموضوعات المتوقّعة التي هي على شرفها وعدم الاستغناء عنها وضرورة تكرارها قد باتت مبذولةً سهلةَ المتناولف!

سأترك ذلك كله وأتحدث اليوم بلغةف مباشرةف وواضحةف عن موضوع محددف هو: كيف نخطط بشكلف صحيحف لاغتنامف ليلةف القدرف؟

بعبارةف أخرى.. ما هي الخطواتف التي بوسعنا أن نفعّفلها حتى نكونَ أدنى وأقربَ إلى إدراك الهبة الربانية العظيمة في تلك الليلة الكريمة؟

والحقيقة أنني أعتبر هذه المقالة إثارةً للسؤال لا جوابًا عنه!!

لأنني أعتقد أن مجرد تساؤلف أحدفنا عن (تخطيط) أمثلَ يستعدّف به لليلة القدر خطوةً عفظمى للوصول إلى الهدفف.

ومع ذلك سأحاول معكم رسم ملامح للجـوابف، وذلك عبر (مفاتيح) نتوسّلف بها للنجاحف في هذا التخطيط.

المفتاحف الأول:

لا شك أن أول المفاتيح تكون في شعورف القلبف بقيمةف هذه الليلةف، ومقدار التحول الذي يمكنف أن تحدثه في حياةف الإنسانف.

وأظنني قد أشرتف مرةً إلى فرق ما بين إدراك العقلف وشعورف القلبف، وبينت أن العقل هو (مستودع) معلومات، وأن القلب هو (مخزن) مشاعرَ. في جهاز الحاسوب هناك (أوامر) مخزنة في الذاكرة، هذه الأوامر تظلّف جامدةً حتى تجري في الجهازف حرارة الكهرباء، فيتمكّن الجهاز من تحويل تلك الأوامر إلى (إنجازاتف) تشاهدف عبر الشاشة.. ما في عقولنا من معلوماتف هو كهذه الأوامر.. تظل جامدةً حتى يتدفق تيار المشاعرف القلبيّ.. حينئذف فقط تتحول إلى عملف.

كم في عقولنا من معلوماتف عن فضل رمضانَ وشرفف ليلةف القدر؟

كلنا نحفظف سورة القدرف.. بسم الله الرحمن الرحيم: “إفنَّا أَنْزَلْنَاهف ففي لَيْلَةف الْقَدْرف * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةف الْقَدْرف * لَيْلَةف الْقَدْرف خَيْرٌ مّفنْ أَلْفف شَهْرف * تَنَزَّلف الْمَلاَئفكَةف وَالرّفوحف ففيهَا بفإفذْنف رَبّفهفم مّفن كفلّف أَمْرف * سَلاَمٌ هفيَ حَتَّى مَطْلَعف الْفَجْرف”.

وكلنا سمع قوله صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم ذنبه”. [الشيخان].

وغير قليل منا قد طرق سمعه قوله صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم” [ابن ماجه، وحسنه الألباني].

والذين تعوّدوا أن يبحثوا في فضائل رمضان مرت بهم عباراتٌ شريفةٌ للسلف الصالحف، كقول كعب الأحبار: (إنا نجد هذه الليلة حَطوطاً تحطّ الذنوب). وقول قتادة: هي خير كلها إلى مطلع الفجر. وقول الوراق: سفمّيت ليلة القدر؛ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملَكف ذي قدر على رسول ذي قدر وعلى أمةف ذاتف قدر.

هذا كله قدر (لا بأس به) من المعلوماتف.. ومفتاح النجاحف الأول أن تتحول هذه المعلومات إلى (تيارف دافقف من المشاعرف والأحاسيس) يغدو معه الإنسان متحرقًا إلى ساعةف الصفرف ليبذل كل وسعه في تحقيق حلمفهف.

تعالوا لنفكر معًا.. لنفكر عميقًا في هذه المعلوماتف.. لعل هذا التفكير يبعث في مشاعرنا الحياة.

خيرٌ من ألف شهر؟!

ما معنى هذا؟ هل معناه أنها في فضلها وشرفها خير من ألف شهر؟

لا.. يقول مجاهدٌ رحمه الله: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر! يعني أن من عمل فيها صالحًا كان خيرًا ممن عمل صالحًا في ألفف شهرف ليس فيها ليلةف قدر!!

ما معنى هذا؟!!

معناه أن من (نجح) في هذه الليلة فإنه سيتفوق في درجتفهف على من أمضى ثلاثًا وثمانين سنةً وأربعةَ أشهرف صائمًا قائمًا، تاليًا ذاكرًا، عابدًا خاشعًا!! (ليلة القدر خير من ألف شهر).

ودونك هذا الحديث يبيّن لك صدق ما أقول.. ذكر ابن أبي حاتم بإسناده إلى رسول الله أنه ذكر أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عامًا، لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، قال: فعجب أصحاب رسول الله من ذلك، فأتاه جبريل فقال: “يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خيرًا من ذلك، فقرأ عليه: إفنَّا أَنزَلْنَاهف ففي لَيْلَةف الْقَدْرف وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةف الْقَدْرف لَيْلَةف الْقَدْرف خَيْرٌ مّفنْ أَلْفف شَهْرف، هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك، قال: فسفرّ بذلك رسول الله والناس معه”.

لنحسبها بطريقةف أخرى..

ليلةف القدرف لا تزيدف عن اثنتي عشرة ساعة.. وألف شهرف تساوي سبعمائة وعشرين ألف ساعة!! وإذنْ فالذي ينجحف في اغتنام هذه الساعات الثنتي عشرةَ يكون كالذي أمضى سبعمائةً وعشرين ألفَ ساعةف يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا يفتر!! “ليلة القدر خير من ألف شهر”.

لنحسب بطريقةف ثالثةف..

لنفترض أن أحدنا قد مدّ الله في عمرفهف فعاش ثلاثًا وثمانين سنةً، وأنه في كل يومف منها قرأ صفحةً واحدةً من القرآنف، فكم سيكون حظه من الحسناتف؟ لقد صحّ في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها.. لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف”.

ويمكنف أن يقال: إن متوسط عدد الأحرف في كل صفحةف من كتاب الله هو ثلاثمائة حرف.

وبهذا يكون نصيبف صاحبنا اليومي من الحسناتف هو ثلاثة آلاف حسنة!

ويكون نصيبفهف خلال ثلاثف وثمانين سنةً هو مليارف حسنةً!!

هذا الكنز قد حصله من تلاوة صفحةف واحدةف من القرآن يوميًّا، فإذا أضفت إلى ذلك ما يحصله من حسناتف بأدائفهف للصلواتف الخمس، وللنوافل، وبذكره لله تعالى، وبصلته للأرحامف، وبرّه للوالدين، وقيامفهف بإعالةف الأسرةف، والصدقةف، إلى غير ذلك مما لا تخلو منه حياة مسلمف إذا أضفتَ هذا كله إلى المليارف فكم من حسنةف تكونف في رصيدفهف؟ إنه رقمٌ لا نستطيع تخيله!!

حسنًا.. عندما تنجحف في ليلة القدر فأنت تحصّل أكثرَ من كل هذا!! “ليلة القدر خير من ألف شهر”.

هل بدأنا الآن (نحسّ) ولا أقول (نعلم) معنى قوله تعالى: “ليلة القدر خير من ألف شهر”؟!!

لنفكر في معلومةف أخرى.. في مغفرةف الله لمن قام هذه الليلة إيمانًا واحتسابًا.

لنقف هنيهةً مع أنفسفنا.. كم هي المعاصي التي ارتكبناها؟

كم مرةف نظرنا إلى الحرامف؟ كم مرة سمعنا الحرام؟ كم مرة نطقنا بما يسخط الله؟ كم مرة قصرنا في حقوق الوالدين والأرحام؟

كم منا من وقع في الفواحش؟

وكم منا من كذب؟

وكم منا من خالط جوفه مالٌ حرامٌ؟

كم في خفايانا من ذنوبف سرّ لا يعلمفها إلا الله.. يؤرقنا مجرد التفكيرف فيها؟

ثم.. هل فكرنا كم من الرزق حرمناه بسبب هذه المعاصي؟ وكم من التوفيق فاتنا بسببها؟ وكم من العقوبة حلت بنا جراءها؟

ثم.. هل فكرنا فيما ينتظرنا في القبر ويوم القيامةف من عقوبةف لا قبل لنا بها جراء اجترائنا على حرمات الله؟

كل هذا البلاء الآخذ بأكظامف النفسف يمكنفك أن تتحرر منه في ليلةف واحدةف!!

يا ألله..!

ليلةٌ واحدةٌ تمحو عذابات السنين؟!!

ليلةٌ واحدةٌ تذهبف بأوزارف كأمثالف الجبالف ناءت بها ظهورنا.. ووجلت لها قلوبنا؟

ليلة واحدةٌ تنفض عنا عوائق التوفيق، وموانع البركة؟

نعم.. كذلك هي ليلةف القدرف.. تغسلك يا سيدي.. تغسلك بالكليةف.. وتخرجفكَ نقيًّا كماء السماء.. أبيضَ كسحابف السماء.. حرًّا كهواء السماء..

هل تدرك قيمة ذلك؟

 
 
أقصد.. هل (تشعر) بقيمةف ذلك؟

شيءٌ آخر في هذا السياقف..

هل تدرك الفرق بين عمر بن الخطابف رضي الله عنه قبل الإسلام وعمر بعد الإسلام؟

هل تدرك الفرقَ بين عبد الله بن المبارك المغنّي شاربف الخمر وعبد الله بن المبارك العلم الإمام المحدث الرباني؟

هل تدرك الفرقَ بين الفضيل بن عياضف قاطعف الطريقف اللصّ النهّابف والفضيل العابد الزاهدف التقي النقي؟

لقد كان في حياة هؤلاء جميعًا (لحظةٌ) تحول فيها مسار حياتهم، وتبدلت شخصياتهم، واعتدلت بوصلتهم.. إنها لحظةف الهدايةف والتوفيقف بها صاروا من حال إلى حال.

اصدقني.. ألا تتمنى في حياتك لحظةً كهذه.. تنفضك نفضًا، وتنقلك من الدرك الذي أنت فيه فإذا بك وليّ من أولياء الله الصالحين، وعلمٌ من أعلام الأمة العاملين؟

تذكر إذنْ أن ليلة القدر التي (تنجحف) فيها هي أرجى أوقاتف حياتك لتحقيق لحظة الهداية هذه. إنها الليلة الأرجى! “ففيها يففْرَقف كلّف أمرف حكيمف”. قال قتادة: يقضى فيها ما يكون في السنةف إلى مثلها.

شيءٌ أخيرٌ أختمف بها محاولاتف استثارةف دفائن المعلومات لتتحول إلى مشاعر وأحاسيس.

تصوّرْ نفسك وقد عبدت الله خمسين سنةً.. ثم لقيتَ الله فلم تلقَ في ميزانك شيئًا!! كم أنت محروم حينها؟

تصور نفسك وقد صرت من الذين قال الله فيهم: “قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا”!! كم أنت محروم حينها؟

تصور نفسك وأنت ترغب في العمل الصالح فلا توفق إليه، وتسعى فلا تسدد، وتجتهدف فلا تفعان!! كم أنت محرومٌ حينها؟

أتراك شعرت بمرارة الحرمانف؟ أتريد أن تنجو منها وتفرّ؟

عليك بالنجاح في ليلة القدر.. فقد قال نبيّك صلى الله عليه وسلم: “من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم” [ابن ماجه وحسنه الألباني]، وقال: “من حرم خيرها فقد حرم” [النسائي وحسنه الألباني].

رباه..!!

هل بدأنا نشعرف (بقيمة) هذه الليلة، وبمقدار ما يمكنف أن تحدثه في حياتنا من أثر؟!!

هل بدأت هذه المعلوماتف تتحول إلى شعورف دافقف يحفزنا شوقًا إلى ليلة القدر فنردد مع الشاعر الولهان:

وليلة قدر أشرقتْ في تطلعي إلى الله أدعو أستمدّ الرضا الأعلى

وأدنو بخفق القلب ملء ضراعتي بصمتف وبعض الصمت من كَلفمف أَجْلَى

أيا ليلة القدر السنية ليت لي شعاع تجلّ منك يسعف في الجَلَى

ويسمو بهذا الحب حرًّا لربه من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى

[الأميري، ديوان قلب ورب : 291 ] .

هذا هو المفتاحف الأول: استشعارف قيمةف هذه الليلة استشعارًا يجعل القلبَ متشوقًا للعبادة، والجوارحَ مستفزة للطاعةف.

المفتاح فالثاني: الاستعانة بالله

 
 
وهذا مفتاحف صدقف لا يجوزف التفريطف فيه.

ولو تأمّل الإنسانف في سورة الفاتحة التي يتلوها كل ركعةف لوجدَ ذلك الربط العجيب بين العبادة والاستعانة في قوله تعالى: “إياك نعبد وإياك نستعين”. فكأن المعنى: لا عبادة بدون استعانة! ومن همَّ بالعبادة والطاعة غافلاً عن طلب العونف لم يكد يوفّق!

وفي المقابل من مدّ يد الاستعانة لمولاه، ورجاه أن يفتح عليه أبواب الطاعةف رأى من ألطافف ربه وعون مولاه ما لا عهد له بمثلفهف.

قال ابن أبي الحواري قال لي أبو سليمان أصاب عبد الواحد الفالج -وهو الشلل الرباعيّ- فسأل الله أن يطلقه في وقت الوضوء فكان إذا أراد الوضوء انطلق وإذا رجع إلى سريره ففلفجَ [السير 7/179].

أترون عجائب الاستعانة بالله على الطاعة؟!!

تحرك المشلولف فقام يتوضأ!!

فكيف بك أيها العبدف إذا بدأت منذ اليوم تلحّف على مولاك في الدعاء أن يفتحَ عليك أبواب الطاعةف، وأن يعينك على ذكره وشكره وحسنف عبادتفهف، وأن يقيمك بين يديه مصليًا داعيًا متذللاً، وأن يفتح على قلبك وعينكَ فتذوق حلاوة المناجاة وجمال البكاء؟

كيف بك إذا كنت في كل سجدةف منذ اللحظةف تسأل الله التوفيق لليلةف القدر والعون على إدراكها؟

افعل وكن حسن الظنّ بمولاك.. فقد روى مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: يقول الله عز وجل: “أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة”.

هذا هو ربك الكريم.. إذا استعنت به وأحسنت الظن أعانك.. وكلما دنوتَ منه دنا منك أكثر.

المفتاحف الثالثف: تدريج النفس إلى الطاعةف

فالنفسف شموسٌ، عصيةف القيادف، ومن الشاقّ أن تحملها فجأة في ليلةف واحدةف على خلافف ما ألفتْ! وقد كان التدريجف في تحريم الخمرف برهانًا واضحًا على هذه الحقيقةف.

ولذلك فإن من مقتضى التخطيط لليلةف القدرف أن يدرّج الإنسانف نفسه إلى مراتب الكمال العبادي، أي: يدنيها إليها على التدريج.

لنأخذ تلاوة القرآن مثلاً..

بيننا وبين رمضان أسبوعان.. فليبدأ الجادّ ختمةً بمعدل جزأين في اليوم حتى يختم قبل رمضان! فإذا دخل الشهرف الكريمف ختم في العشر الأول ختمةً، ثم في العشر الثانية ختمتين بمعدل ستة أجزاء في اليوم، ثم تدخل العشر الأواخر فيأخذ نفسه بختمةف في كل ثلاثةف أيام وإن كان أكثر جدًّا وحزمًا ختمَ في الثلاثة الأولى ختمةً، ثم ختمة في يومين، ثم في كل يومف ختمةً!.

وهذا مثالٌ على التدريجف يجعلف ما يبدو عسيرًا أقربَ إلى التحقق؛ لأن النفس إذا عفوّفدتف اعتادتْ.

ومثلٌ آخرف في الأذكارف والمأثوراتف..

في هذين الأسبوعين يبدأ الإنسان بمراجعةف الأذكار وحفظ ما لم يكن يحفظف ومعرفةف ما لم يكن يعرفف أن له ذكرًا. فإذا دخل الشهرف الكريم شرعَ في تطبيق شطرف من ذلكَ ثم يزيد فيزيدف حتى إذا جاء موسم ليلةف القدرف كان قد رطّب لسانه بذكر الله وعوّده عليه حتى ما يفتفرف منه.

ومثلٌ ثالثٌ في الفرائضف..

يحرص الإنسانف فيما بقي من شعبانَ على ألا تفوته جماعةف المسجدف، ثم يتدرجف في التعويد على التبكير إلى الصلاةف حتى يكون ممن يفدف إلى المسجدف قبل الأذان ويطيل المكث بعد الصلاةف.

ويدرجف نفسه إلى طول المكثف في المسجد نصف ساعةف فساعةف فساعتين، وهكذا…

وقل مثل ذلك في القيام والصدقةف وسائر ألوانف البر وأنواع الطاعةف.

وبمثلف هذا التدرج يسوس المرء نفسه في شأن المعاصي، فيراجع صفحتَهف ويرى ما فيها، ثم يخفف من سوءاتها شيئًا فشيئًا، فإن كان مدمنًا لفضائح القنوات الفضائية تخفف من ذلك، وإذا كان سمّاعًا لغناء السوءف تدرج في تركه، وإذا كان يلوكف الكذبَ حزمَ أمر نفسه.. وهكذا فلا يبلغ موسم العشر إلا وقد تخفف من كثير من ذنوبه وبات أقرب للنجاح.

إن هذا التدريج يجعلك وقتَ الموسمف كالخيل التي ضفمّرت وأفعدتْ.. تسابقف فلا تكادف تفسبق.

المفتاحف الرابعف: المشاريعف العباديّة

 
 
وخلاصة هذا المفتاحف أن عليكَ من الآن أن تحدّد ما تريدف فعله من الطاعاتف، وإياك أن يدهمك الشهرف وأنت لا تحملف إلا الرغبةَ المبهمة في كثرة العبادةف.

فكّر من الآن..

ما الذي تريد تحقيقه من الطاعاتف سعيًا لاغتنام فضيلةف ليلةف القدر؟

يمكنك أن تقول مثلاً:

سألزم نفسي ألا أفوت ركعةً من التراويح ولا من التهجّد.

أو: سآخذ نفسي بأن أزيد على التراويح والتهجد ركعاتف أتقرب بها إلى الله.

أو: سأحملف نفسي على تطويل الصلاةف وطولف القيامف فأقرأ في الركعةف جزءًا أو جزأين.

أو: سأستغفر في اليوم قرابة ألف مرة وأصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوًا من ذلك.

أو: سأختم من الختماتف كذا وكذا…

أو: سأقرأ خلال الشهرف تفسير ثلثف القرآن وأتأمل في معانيه متدبرًا.

ومن الطبيعي أن هذه المشاريع تختلف باختلاف أحوال الناس وإمكاناتهم، لكن ينبغي أن توضع بهمّةف عاليةف، ورغبةف طموحةف.

وهكذا لا يأتيك رمضان إلا ولديك (مشاريع عبادية) محددة تريد إنجازها، وتلقائيًّا ستجدف نفسك ترتب برنامجك اليومي على وجه يعينك على الإنجاز، وتلقائيًّا ستجد بين يديك معيارًا واضحًا تقوّم به جدّك واجتهادَكَ، وتلقائيًّا ستجدف نفسك مشدودًا إلى هدفف محددف تتمنّى إنجازه وتحقيقه وتلقائيًّا ستجدف نفسك تحسّف بتقدّمك وإنجازك.

المفتاح الخامس: التحرر من سيطرةف الليلة الواحدةف

 
 
فالكثيرف من الناسف يسّاءلف عن ليلةف القدر متى هي؟ ويشغل نفسه بما ورد في الصحيح والضعيفف من علاماتفها، ويتتبّع ما قد يشيع من رؤى وخواطر تشيرف على تحديدف ليلةف معينةف.

وهذا كله لا بأس به في الأصل؛ لأنه ورد عن بعض السلف الاحتفاء ببعض الليالي أكثر من بعضها الآخر، وقد كان من السلفف من يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل. وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر. وكان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبان المسجد بالنضوح في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر! قال ثابت: وكان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.

أين المشكلة إذن؟

المشكلة أن يتحوّل إلى عائقف يحول بين العبد والطاعة إلا في تلك الليلةف التي يظنّها ليلة القدر!.

وبالتالي يبطل اجتهادفهف، وتأسيه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في اجتهاده طوال العشر.

ولكي أساعدَ على (التحرر من سيطرة الليلة الواحدةف) أذكر لكم أن القول بتنقل ليلةف بين ليالي أوتار العشر قول قوي ظاهر جمعًا بين الأخبار، ففي السنة التي رأى فيها أبو سعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين كانت ليلة إحدى وعشرين، وفي السنة التي رآه فيها ابن أنيس كانت ليلة ثلاث وعشرين، وفي السنة التي رأى فيها أبي بن كعب علاماتها من ليلة سبع كانت في تلك الليلة، وهكذا…

وبالتالي فإن التعويل على ليلةف بعينها مظنّة فوات المقصودف.

ووجهٌ آخرف هو أن من أهل العلم من أحصى ليالي الوتر باعتبار نهاية الشهر، أي لليلة بقيت أو ثلاث ليال بقين أو خمس ليال بقين، وهكذا… وقد جاء في الحديث “لتاسعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى”، وعليه فلو كان الشهر ثلاثين يومًا فإن الليلة التي هي لسابعة تبقى ليلة أربع وعشرين والتي هي لتاسعة تبقى ليلة اثنين وعشرين، وهكذا…

أرأيتم؟!!

لا سبيل للجادّ إذن في إدراك هذه الليلة سوى أن يخطط لاغتنام العشر كلها، ويتخلص من فكرةف (البحث) عن ليلة بعينها يفردها بالطاعة والعبادة.

وقد أخفى الله عز وجل موعد هذه الليلة ليجتهد العباد في العبادة، وكي لا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها فأراد منهم الجد في العمل أبدًا، ويدل لذلك ما في معجم الطبراني الكبير بسند حسن عن عبد الله بن أنيس أنه قال: “يا رسول الله أخبرني أي ليلة تبتغي فيها ليلة القدر فقال لولا أن يترك الناس الصلاة إلا تلك الليلة لأخبرتك”.

وفي حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أذن لي لأنبأتك بها وذكر كلمة أن تكون في السبع الأواخر” [ابن خزيمة في صحيحه].

ربما كنتف مباشرًا للغايةف فيما قلتفهف.

وربما أعفيتف نفسي من كثيرف من تزويق العبارةف، وتنميق الكلام.

وربما تخففتف كذلك من كثرةف النصوصف.

ولكنني كنت أهدف إلى شيء واحدف.. هو أن أثير في قلبي وقلوبكم فكرة الاستعدادف المبكر نسبيًّا لليلة القدر، والتخطيطف للنجاح فيها.

طرحتف السؤال..

وحاولت أن أرسمَ بعض ملامح الإجابةف…

ولكنْ يبقى العبءف الأكبر على كل واحدف منّا على حدةف!

وحقيقةً لا أدري إن كنتف أهلاً لكل هذه المعاني التي أسلفتفها أم لا.. لكنني على يقين أن فيكم من هو لها أهلٌ، وأن فيكم من ستقدح زناده هذه المعاني فيفوز بإذن الله بليلةف العمرف..

فطوبى لمن يحظى بشمّ عبيرها .. فيسجد مغشيًّا عليه من البشر

ويضرع في حب ويبكي من الجوى .. ويكتم أشواقًا تأجج كالجمر

ويصغي إلى صوت السماء كأنه .. صدى خفقات القلب ينبض في الصدر

——————————————————————————–
الدكتور عادل بن أحمد باناعمة
عضو هيئة تدريس بجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، ورئيس تحرير مجلة الجسور.
 
المصدر : موقع اسلام اون لاين

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات