أقلّب أوراق المجلّد الأخير من البداية والنهاية للبحث عن مطلب قرأته سابقا. المجلد الأخير من هذا الكتاب يشتمل على تذكرة أحداث مؤلمة؛ هجمات واعتداءات الفرنج الصليبيين على سواحل الشام ومصر من جهة، و تدمير الغزاة التتر الوثنيين مراكزَ العالم الإسلامي من جهة أخرى!
فجأة يقع نظري في آخر الكتاب على عبارة: "وقد بلغني أنّ الفرنج جاءوا طرابلس غزاة وأخذوا مركبا للمسلمين من الميناء وحرقوه، والناس ينظرون ولا يستطيعون دفعهم ولا منعهم، وأنّ الفرنج كروا راجعين، وقد أسروا ثلاثة من المسلمين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. انتهى والله أعلم".
أتفهّم من هذه العبارة أنّ أعين الفرنج كانت ممتدة أيضا نحو بلادنا بعد رحيل صلاح الدين الأيوبي الكردي، بطل الحطين. فمن خيّب تلك الأعين بعد الأيوبيين، ومن حصّن البحار وسواحل العالم العربي من شرورهم بعد الأيوبيين إلا العثمانيون؟
تستوقفني العبارة، ويتداعى إلى ذهني عهد بني أمية و عهد الزنكيين ومعاناتهم في طرد المحتلين، وعهد العثمانيين الذين كانوا صواعق نزلت على الفرنج؛ أتساءل في نفسي: هل كان الفرنج وغيرهم يتجرأون في عهد بني أمية أن يهجموا سواحل بلاد المسلمين، أو يحرقوا عواصمها؟
أقارن في عالم الخيال بين هذا العهد الذي حكى عنه ابن كثير وبين عهود أخرى. أقارن عهده بعهود قبله وعهد بعده؛ أتذكّر في ملوك عهد ابن كثير رحمه الله الحمية الدينية التي تُفتقد في حكام عصرنا؛ أتذكّر دفاعهم عن الإسلام؛ أتذكّر استماتتهم في سبيل حفظ حرمات وشعائر المسلمين؛ أتذكّر بطولاتهم، وأتذكر هزيمتهم للتتار، وأتذكر حفظهم للسواحل من هجمات الفرنج؛ أتذكر كل ذلك، لكن أفهم منها حقيقة، وهي أنّ ما قاموا به كان دفاع المضطرين المغلوبين على أمرهم! فما الذي جعل المسلمين مهاجَمين مدافعين بعد أن كانوا مهاجِمين يجولون ويصولون كالأسود شرقا وغربا؛ فهذا ابن قتيبة يهاجم الصين، وذاك ابن قاسم يهاجم الهند، وهذا مسلمة يهاجم الروم ويرابط على حدودهم في عهد بني أمية.
لما كان المسلمون مهاجِمين، كان قادة الهند والصين والروم فئران في جحورها أذلة صاغرين، ولما اكتفوا بالدفاع واشتغلوا بالتحرشات بينهم؛ صارت تُهاجم سواحل الشام مرّة، وصارت تدمّر عواصم العالم الإسلامي وتسوّی بالأرض مرّة أخرى، هكذا يومَ تخلّى العثمانيون عن سلاح الهجوم على الفرنج لأسباب داخلية في العالم الإسلامي، عاد الفرنج من جديد. عادوا ليغزوا سواحلنا، وليحتلوا عواصمنا، وليدمّروا بلادنا.
إنّ قصة الصدام بين المسلمين وبين الفرنج قصّة قرون، ولا تتوقّف هذه القصّة ولا يتوقف هذا الصدام، فمنذ أن توقّف هجومُ العثمانيين، ومنذ أن انحطّت دولتهم العلية في المشرق، خرج وحوش الفرنج يتلاعبون بمصائر المسلمين وبلادهم، ولن يتحمّل استكبار الفرنج وعلوّهم وفسادهم أحفادُ بني أمية وبني عثمان، طال الزمن أم قصر.
تعليقات