اليوم :19 March 2024

سيرة الزبير بن العوام واستشهاده

سيرة الزبير بن العوام واستشهاده

هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدى، ويجتمع مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في قصي، وهو حواريّ رسول الله وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد أصحاب الشورى، أسلم وهو حدث وله ست عشرة سنة، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله، وقد تعرض بعد إسلامه للتعذيب، فقد روى أن عم الزبير كان يعلقه في حصير ويدخن عليه النار وهو يقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا.
1- أول من سلَّ سيفه في سبيل الله: عن سعيد بن المسيب، قال: أول من سلّ سيفه في ذات الله الزبير بن العوام، وبينما الزبير بن العوام قائل إذ سمع نغمة: أن رسول الله قُتِل، فخرج من البيت متجردًا السيف صَلْتا، فلقيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كَفَّةَ كَفَّةَ، فقال: «ما شأنك يا زبير؟» قال: سمعت أنك قُتِلْت، قال: «فما كنت صانعًا؟» قال: أردت والله أن أستعرض أهل مكة، قال: فدعا له النبي – صلى الله عليه وسلم – بخير». قال سعيد: أرجو أن لا تضيع له عند الله عز وجل دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم -.
2- هجرته للحبشة: ولما اشتد إيذاء قريش لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولأصحابه وأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة ليكونوا في جوار «النجاشي» ذلك الملك العادل، فكانوا عنده بخير دار مع خير جار، وظلوا على تلك الحال من الأمن والاستقرار إلى أن نزل رجل من الحبشة لينازع النجاشي في الملك، فحزن المسلمون لذلك حزنًا شديدًا وخافوا أن يظهر ذلك الرجل، وهو لا يعرف حق الصحابة الأطهار ولا يعرف قدرهم، وهنا أراد الصحابة – رضي الله عنهم – أن يعرفوا أخبار الصراع الدائر بين النجاشي وبين هذا الرجل على الجانب الآخر من النيل، قالت أم سلمه – رضي الله عنها-: فقال أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت؟ وكان من أحدث القوم سنًا. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها مُلتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: فَدَعَوْنَا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، قالت: فوالله إنا لَعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع ثوبه وهو يقول: ألا أبِشُروا، فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه ومكن له في بلاده. وبعد رجوع الزبير من الحبشة إلى مكة قام في كنف الحبيب المصطفى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، يتلقى منه مبادئ الإسلام وأوامره ونواهيه، وعندما هاجر رسول الله للمدينة كان الزبير ضمن المهاجرين إليها.
3- في غزوة بدر: كان الزبير رضي الله عنه فارسًا مقدامًا، وبطلاً مغوارًا، لم يتخلف عن مشهد واحد من المشاهد، تراه في كل غزوة وفي كل معركة، فقد اتصف بالشجاعة الخارقة، والبطولة النادرة، والإخلاص الكامل، والتفاني لإعلاء كلمة الحق، ولقد بذل الزبير، رضي الله عنه، الكثير في سبيل الله، وجعل نفسه وماله وقفًا لله – عز وجل – فأكرمه الله ورفعه في الدنيا والآخرة، فقد كانت عليه عمامة صفراء معتجرًا بها يوم بدر، فعن عروة أنه قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء فنزل جبريل على سيماء الزبير. فيالها من منقبة لا توازيها الدنيا بما فيها، وفيه يقول عامر بن صالح بن عبد الله بن الزبير:
جدّي ابن عمَّةِ أحمد ووزيره
عند البلاء وفارسُ الشقراءِ
وغداة بدر كان أول فارس
شهد الوغى في اللأمة الصفراء
نزلت بسيماه الملائك نُصرة
بالحوض يوم تألب الأعداء

وعن الزبير قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو ومدجج لا يُرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه فطعنته في عينيه فمات، قال الزبير: لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها. فسأله إياها رسول الله فأعطاه، فلما قبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قُتل عثمان وقعت عند آل على، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل.
هذا الخبر يصور لنا دقة الزبير بن العوام في إصابة الهدف، حيث استطاع أن يضع الحربة في عين ذلك الرجل مع ضيق ذلك المكان، وكونه قد وزع طاقته بين الهجوم والدفاع، فلقد كانت إصابة ذلك الرجل بعيدة جدًا لكونه حمى جسمه بالحديد الواقي، لكن الزبير استطاع إصابة إحدى عينيه، فكانت بها نهايته، ولقد كانت الإصابة شديدة العمق مما يدل على قوة الزبير الجسدية، إضافة إلى دقته ومهارته في إصابة الهدف. وقد كان يوم بدر مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فارسان: الزبير على فرس على الميمنة والمقداد بن الأسود على فرس على الميسرة.
4- في غزوة أحد: قال الزبير رضي الله عنه: جمع لي النبي – صلى الله عليه وسلم – أبويه يوم أحد، وهذا دليل على قتاله وبأسه في تلك المعركة، فقد اتصف رضي الله عنه بالثبات والعزيمة وحب الشهادة في سبيل الله تعالى، وقد وصف لنا رضي الله عنه ما فعله أبو دجانة الأنصاري في تلك الغزوة، فعندما التحم الجيشان واشتد القتال، وشرع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشحذ همم أصحابه، ويعمل على رفع معنوياته وأخذ سيفًا وقال: من يأخذ منى هذا؟ فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا – وكان من ضمنهم الزبير- قال: فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به العدو حتى ينحني. قال: أنا آخذه بحقه. فدفعه إليه وكان رجلاً شجاعًا يختال عند الحرب – أي يمشى مشية المتكبر – وحين رآه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتبختر بين الصفين قال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن. ووصف الزبير بن العوام ما فعله أبو دجانة يوم أحد فقال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لأنظرن ما يصنع، فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت – وهكذا كانت تقول له إذا تعصب – فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول
أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان من المشركين رجل لا يدع جريحًا فالتقيا إلا ذفف عليه، فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم.
قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنسانًا يحمس الناس حماسًا شديدًا فصمدت له فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة، وعن هشام عن أبيه، قالت عائشة: يا ابن أختي كان أبواك – يعنى الزبير وأبا بكر – من ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ﴾ [آل عمران:172].
لما انصرف المشركون من أحد، وأصاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ما أصابهم، خاف أن يرجعوا، فقال: من ينتدب لهؤلاء في آثارهم، حتى يعلموا أنّ بنا قوة، فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين، فخرجوا في آثار المشركين، فسمعوا بهم فانصرفوا، قال تعالى: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران:174] لم يلقوا عدوًا، ولما استشهد حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، في أحُد جاءت أم الزبير صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى أخيها، وقد مثل به المشركون فجدعوا أنفه وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها»، فقال لها: يا أمه، إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن، إن شاء الله، فلما جاء الزبير بن العوام، رضي الله عنه، إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: «خلَّ سبيلها»، فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت، واستغفرت له، وجاء في رواية عن عروة قال: أخبرني أبى الزبير أنه لما كان أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى، قال: فكره النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تراهم، فقال: «المرأة المرأة».قال الزبير: فتوسمت أنها أمي صفية، قال: فخرجت أسعى إليها، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قالت: فَلَدمَتْ في صدري، وكانت امرأة جلدة، قالت: إليك، لا أرض لك. قال: فقلت: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عزم عليك. قال: فوقفت، وأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فإذا إلى جانبه رجل من الأنصار قتيل، وقد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب، والأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما، فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي طار له.
5- في غزوة الخندق: (لكل نبي حواريّ وحواريّي الزبير): قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الخندق: من يأتينا بخبر بنى قريظة؟ فقال الزبير: أنا، فذهب على فرس، فجاء بخبرهم. ثم قال الثانية، فقال الزبير: أنا، فذهب، ثم الثالثة، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لكُلَّ نبي حواريّ، وحواريَّي الزبير»، ومعنى قوله – صلى الله عليه وسلم -: وحواريي الزبير: أي: خاصتى من أصحابي وناصري، ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، أي خلصاؤه وأنصاره، فالحواري هو الناصر المخلص، فالحديث أشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير، رضي الله عنه، ولذلك سمع عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، رجلاً يقول: أنا ابن الحواري، فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا. وجاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني: فإن قلت: الصحابة كلهم أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام خلصاء فما وجه التخصيص به؟ قلنا: هذا قاله حين قال يوم الأحزاب: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا، قال: من يأتيني بخبر القوم؟ فقال: أنا، وهكذا مرة ثالثة ولا شك أنه في ذلك الوقت نصر نصرة زائدة على غيره. وقد فداه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الأحزاب بأبيه وأمه؛ فعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبى سلمه في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بنى قريظة مرتين أو ثلاثًا فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف، قال: وهل رأيتني يا بنى؟ قلت: نعم، قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: من يأتي بنى قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبويه فقال: فداك أبي وأمي.وهذا الحديث فيه منقبة ظاهرة للزبير، رضي الله عنه، حيث فداه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأبويه، وفي هذه التفدية تعظيم لقدره واعتداد بعمله، واعتبار بأمره، وذلك لأن الإنسان لا يفدى إلا من يعظمه، فيبذل نفسه أو أعز أهله له[32].
لقد نال الزبير في غزوة الخندق وسامًا خالدًا باقيًا على مر السنين (لكل نبي حواري وحواريي الزبير). لقد وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – الزبير بالحواري، وهو وصف عميق الدلالة واسع المفاهيم، والدارس لهذه المعاني يدرك أبعاد كلمة الحواري، ويتبين معالمها ويعرف أسرارها وأغوارها، وأكثر من يحتاج إلى العناية بهذه المفاهيم هم العلماء والدعاة والمربون، لأن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى إعداد الحواريين ليقدموا نماذج حية في الأسوة والقدوة، لأن القدوة العملية أقوى وأشد تأثيرًا في نشر المبادئ والأفكار، لأنها تجسيد وتطبيق عملي لها، يسهل مشاهدتها والتأثر والاقتداء بها، ولأن الحواريين يأخذون بسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويقتدون بأمره، كما جاء في الحديث: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره». ومن سنن الدعوات أن مسيراتها تمر بالفتن والمحن وتبتلى من أصدقائها وأعدائها، وحرص الرسول – صلى الله عليه وسلم – على إرشاد المسلمين إلى هذه المتغيرات والحوادث فقال: «ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمنون» فما مهمة الحواري؟ القدوة الحسنة والإيمان التطبيقي والإخلاص والفداء التي هي أبرز صفات الحواريين، فيكون مثالاً حقيقيًا لورثة الأنبياء، فيسعى لنشر الحق والخير وهداية الأمة والنهوض بها من كبوتها، ويضحى في سبيل الله بكل غال ونفيس ليجدد للإسلام شبابه ونضارته، في الوقت الذي يكون ساقطو المهمة لا هم لهم إلا مصلحتهم الشخصية. والزبير بن العوام، رضي الله عنه، نموذج فذ في تجسيد هذه المعاني، فقد تربى في أحضان الدعوة على يدي النبي – صلى الله عليه وسلم -، وتلقى الجرعات المطلوبة لتحمل أعبائها منذ شبابه الباكر، وموقف الزبير في غزوة الأحزاب يصور لنا شخصيته ونشأته على الجرأة والنصرة ومحبته للرسول – صلى الله عليه وسلم -، وأثبتت الأيام أنه كان رضي الله عنه رجل المهمات الصعبة، فقد اتصف بالجرأة والإقدام فكُلف بمهمة كشف أسرار العدو، وما حدث مع الزبير يشير إلى مشروعية تقسيم الأعمال وتصنيف الدعاة كل حسب إخلاصه وفدائيته وتضحيته ومواهبه وطاقته. هذا وقد شارك الزبير في كل غزوات الرسول – صلى الله عليه وسلم – وكانت له مواقف مشرفة، وكان في عهد الراشدين من أعمدة الدولة في فتوحاتها الكبيرة رضي الله عنه.
6- في غزوة اليرموك: عن عروة أن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشدُّ فنشد معك؟ فقال: إني إن شددت كذبتم. فقالوا: لا نفعل، فحمل عليهم حتى شق صفوفهم، فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مُقبلاً فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر.قال عروة: أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير. قال عروة: وكان معه عبد الله بن الزبير يومئذ، وهو ابن عشر سنين فحمله على فرس ووكَّل به رجلاً، قال الذهبي في السَّير معلقًا: هذه الوقعة هي يوم اليمامة إن شاء الله، فإن عبد الله كان إذ ذاك ابن عشر سنين، وذكر ابن كثير أن الموقعة هي «اليرموك» ولا مانع من وقوع ذلك في الموقعتين. فقد قال ابن كثير: وقد كان فيمن شهد «اليرموك» الزبير بن العوام، وهو أفضل من هناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ، فقالوا: ألا تحمل فنحمل معك؟ فقال: إنكم لا تثبتون. فقالوا: بلى. فحمل وحملوا، فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو، فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر، وعاد إلى أصحابه. ثم جاءوا إليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، وجُرح يومئذ جُرحين بين كتفيه، وفي رواية: جُرح.ويقول ابن كثير مرة أخرى: خرج مع الناس إلى الشام مجاهدًا، فشهد اليرموك، فشَّرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين، من أولهم إلى أخرهم.
7- في فتح مصر: ولما قصد عمرو بن العاص مصر لفتحها كان معه قوات لم تكن كافية لفتحها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ويطلب المدد من الرجال، فأشفق عمر من قلة عدد قوات عمرو، فأرسل الزبير بن العوام في اثنى عشر ألفًا، وقيل: أرسل عمر أربعة آلاف رجل، عليهم من الصحابة الكبار: الزبير، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة ابن مخلد، وقال آخرون: خارجة بن حذافة هو الرابع، وكتب إليه: إني أمددتك بأربعة آلاف، على كل ألف منهم رجل مقام ألف. وكان الزبير على رأس هؤلاء الرجال، وحين قدم الزبير على عمرو، وجده محاصرًا حصن بابليون فلم يلبث الزبير أن ركب حصانه وطاف بالخندق المحيط بالحصن، ثم فرّق الرجال حول الخندق، وطال الحصار حتى بلغت مدته سبعة أشهر، فقيل للزبير: إن بها الطاعون. فقال: إنا جئنا للطعن والطاعون. وأبطأ الفتح على عمرو بن العاص، فقال الزبير: إني أهب نفسي لله، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلما وأسنده إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعًا، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، فتحامل الناس على السُّلم حتى نهاهم عمرو؛ خوفًا من أن ينكسر، فلما رأى الروم أن العرب قد ظفروا بالحصن انسحبوا، وبذلك فتح حصن بابليون أبوابه للمسلمين، فانتهت بفتحة المعركة الحاسمة لفتح مصر، وكانت شجاعة الزبير النادرة السبب المباشر لانتصار المسلمين على المقوقس.
8- غيرة الزبير بن العوام رضي الله عنه: عن أسماء بنت أبى بكر الصديق – رضي الله عنها – قالت: تزوجني الزبير – رضي الله عنه – وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسُوسُه، وأدق النوى للناضحة، وأعلفه وأسقيه الماء وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز فكان يخبز لي جارات من الأنصار وكن نسوة صدق. قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على رأسي، وهي على ثُلثي فرسخ، قالت: فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومعه نفر من أصحابه فدعا لي، ثم قال: «أخ أخ»، ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، قالت: وكان من أغير الناس. قالت: فعرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علىَّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلىَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني.
9- تسمية الزبير أولاده بأسماء الصحابة الشهداء: من شدة حب الزبير، رضي الله عنه، للشهادة، كان أن سمي أولاده بأسماء الصحابة الشهداء، فقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال: قال الزبير: إنَّ طلحة يسمى بنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم أنه لا نبيّ بعد محمد – صلى الله عليه وسلم -، وإنّي أسمى بأسماء الشُّهداء لعلهم يستشهدون: عبد الله بعبد الله بن جحش، والمنذر بالمنذر ابن عمرو، وعروة بعروة بن مسعود، وحمزة بحمزة، وجعفر بجعفر بن أبى طالب، ومصعب بمصعب بن عمير، وعبيدة بعبيدة بن الحارث، وخالد بخالد بن سعيد، وعمرو بعمرو بن سعيد بن العاص قتل باليرموك.
10- إخفاء الطاعات عند الزبير: قال الزبير بن العوام – رضي الله عنه -: أيكم استطاع أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليعمل.
11- ما قاله حسان بن ثابت من شعر في مدح الزبير: مرّ الزبير بمجلس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وحسان ينشدهم من شعره، وهم غير نشاط لما يسمعون منه، فجلس معهم الزبير، ثم قال: مالي أراكم غير أذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ فلقد كان يعرض به رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فيحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه، فقال حسان يمدح الزبير:
أقام على عهد النبي وهديه
حواريه والقول بالفعل يُعدل
أقام على منهاجه وطريقه
يوالي ولىَّ الحقّ والحقُّ أعدلُ
هو الفارس المشهور والبطل الذي
يصول إذا ما كان يوم محجّلُ
إذا كشفت عن ساقها الحرب حَشّها
بأبيض سباق إلى الموت يُرْقِلُ
وإن امرؤ كانت صفية أمَّهُ
ومن أسد في بيتها لَمُؤتَّلُ
له من رسول الله قُربى قريبة
ومن نصرة الإسلام مجد مؤثَّلُ
فكم كربة ذب الزبير بسيفه
عن المصطفى والله يعطى فيُجزل
ثناؤك خير من فعال معاشر
وفعلك يا ابن الهاشمية أفضل
12- كرم الزبير بن العوام رضي الله عنه: روى عن عروة بن الزبير أنه قال: أوصى إلى الزبير سبعة من الصحابة منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن، فكان ينفق على الورثة من ماله ويحفظ أموالهم.
وهذا مثل رفيع من أمثلة الكرم والوفاء، وهو يجسَّم المعاني السامية في النفس حتى تبقى هي الماثلة في الضمير الحي، وتبعًا لذلك يُسخّر هذا الضمير الحي كل ما يملك من أجل سيادة هذه المعاني، وقد تجود النفس مرة ومرة ثم يعترضها شيء من الفتور، فأما أن يتكفَّل مثل هذا الشهم السخي بالنفقة على ورثة عدد من الصحابة، ويحفظ لهم أموالهم فهو نموذج فريد في عالم الواقع، ومؤشر مهم من مؤشرات الرقى الأخلاقي لدى الصحابة رضي الله عنهم.
13- وحان وقت الرحيل..وشهادة رسول الله له بدخول الجنة: خرج الزبير بن العوام، رضي الله عنه، من معركة الجمل في الجولة الأولى وقد بينّا الأسباب في تركه لساحة المعركة، وعند خروجه من ساحة القتال كان يتمثل قول الشاعر:
تَركُ الأمور التي أخشى عواقبها ♦♦♦ في الله أحسن في الدنيا وفي الدين
وقيل إنه أنشد:
ولقد علمتُ لو أن علمي نافعى ♦♦♦ أن الحياة من الممات قريب
وبعد خروجه تبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بنى تميم فيقال: إنهم لما أدركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه، ويقال بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: إن لي إليك حاجة، فقال: ادن، فقال مولى الزبير – واسمه عيطة-: إن معه سلاحًا. فقال: وإن، فتقدم إليه فجعل يحدثه وكان وقت الصلاة. فقال له الزبير: الصلاة. فقال: الصلاة، فتقدم الزبير ليصلى بهما فطعنه عمرو بن جرموز فقتله، ويقال بل أدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع وهو نائم في القائلة، فهجم عليه فقتله، وهذا هو القول الأشهر، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت آخر من تزوجها، وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها، وكانت قبله تحت عبد الله بن أبى بكر الصديق فقتل عنها، فلما قُتل الزبير رثته بقصيدة محكمة المعنى فقالت:
غدرَ ابنُ جرموز بفارس بهمة
يومَ اللقاء وكان غرّ معرد
يا عمرو لو نبهته لوجدته
لا طائشًا رعشَ الجنان ولا اليد
ثكلتك أمُّكَ أن ظفرتَ بمثله
ممن بقى ممن يروح ويغتدي
كمْ عمرة قد خاضها لم يثنه
عنها طرادك يا ابن فقع العردد
والله ربي إن قتلت لمسلمًا
حلت عليك عقوبة المتعمد
ولما قتله عمرو بن جرموز فاحتز رأسه وذهب به إلى علىّ، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: بشّر قاتل ابن صفية بالنار، ثم قال على: سمعت رسول الله يقول: «لكل نبي حواري وحوارييّ الزبير»، ولما رأى علىّ سيف الزبير قال: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله، وفي رواية: منع أمير المؤمنين على ابن جرموز من الدخول عليه، وقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار، ويقال: إن عمرو بن جرموز قتل نفسه في عهد على، وقيل: بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز ههنا وهو مختف، فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لأقيد للزبير منه، فهو أحقر من أن أجعله عدلاً للزبير.
هذا وقد أخبر الحبيب المصطفى أن الزبير سيموت شهيدًا، فعن أبى هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان على جبل حراء، فتحرك فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اسكن حراء؛ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» وعليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير رضي الله عنهم، قال النووي: وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، منها إخباره أن هؤلاء شهداء، وماتوا كلهم – غير النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبى بكر – شهداء، فإن عمر وعثمان وعليًا وطلحة والزبير – رضي الله عنهم- قُتلوا ظلمًا شهداء، فقتل الثلاثة مشهور، وقُتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة منصرفًا تاركًا للقتال، وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركًا للقتال، فأصابه سهم فقتله، وقد ثبت أن من قُتل مظلومًا فهو شهيد. قال الشعبي: أدركت خمسمائة أو أكثر من الصحابة يقولون: علىٌّ وعثمان وطلحة والزبير في الجنة، قال الذهبي: قلت: لأنهم من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن البدريين ومن أهل بيعة الرضوان، ومن السابقين الأولين الذين أخبر الله تعالى أنه رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولأن الأربعة قُتلوا، ورُزقوا الشهادة، فنحن محبون لهم باغضون للأربعة الذين قَتلوا الأربعة.
14- حرصه على أداء دَينْه عند الموت: عن عبد الله بن الزبير قال: جعل الزبير يوم الجمل يوصيني بديَنْه، ويقول: إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد، حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: ما وقعت في كربة من دين إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه، فيقضيه، وإنما دينه الذي كان عليه: أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة. قال: فقتل ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين، فبعتها – يعنى وقضيت دينه – فقال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا. فقلت: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم، وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف. فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف، وقول البخاري، رحمه الله، محمول على أن جملة المال حين الموت كانت ذلك دون الزائد في أربع سنين دون القسمة، وقد وقع في تركته من البركة الشيء الكثير، وبارك الله له في أراضيه بعد موته، فوفى دينه وزاد عليه الشيء الكثير، وفي هذه القصة درس وعبر وفوائد:
أ- قول الزبير لابنه: يا بنى إن عجزت عن شيء منه فاستعن بمولاي؛ وهذا مثل من أمثلة اليقين الراسخ والإيمان القوى الذي ترتب عليه صدق التوكل على الله عز وجل، واللجوء إليه في قضاء الحوائج وكشف الكربات، فالمؤمن الحق يعتقد جازمًا بأن كل شيء بيد الله جل وعلا، فإذا وقع في ضائقة وكرب فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه تصور وجود الله تعالى وهيمنته على كل شيء، وأن المخلوقين الذين يُشكلون طرفًا آخر في قضيته إنما هم في قبضة البارئ جل وعلا، وأن قلوبهم بيده سبحانه يصرفها كيف يشاء، فليلجأ إليه قبل كل شيء ويسأله قضاء حاجته وتفريج كربته، ثم يقوم بعمل الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها موصلة إلى النتائج المطلوبة، مع الاعتقاد بأنها مجرد أسباب وأن الفاعل والمقدّر هو الله تعالى، وأنه قادر على أن ينزع من الأسباب قوة التأثير فلا تؤدي إلى نتائجها المعروفة.
ب- هل كان الزبير رضي الله عنه من الأثرياء؟ نرى النصَّ السابق ينطق بأن الزبير، رضي الله عنه، ما كان من الأثرياء أصحاب الأموال المعروفين المشهورين بذلك، بل كان يشعر بالضائقة ويهمه أمر ما في ذمته من أموال وديون، وكان يخشى ألا تفي أرضه وعقاره بما عليه من أموال، كما ينطق هذا النص أيضًا بأن عبد الله بن الزبير ما كان يخالف أباه في توقعه، بل كان يتوقع مثله أن الديوان تزيد على الأموال والأرض، يقول له أبوه: أفترى يُبقى دينُنَا من مالنا شيئًا؟ فلا يجد عبد الله جوابًا لأبيه، ولو كان يتوقع غير ما توقع أبوه، لأجابه مطمئنًا إياه في هذا الوقت العصيب، بأن الأمر غير ما يقدَّر ويتوقَّع، بل تجده يجارى أباه صراحة في توقعه، فيسأله – عندما أشار عليه أن يستعين بمولاه-: من مولاك؟ فهو يتوقع أنه سيستعين به، ولا يزعمن زاعم بأن عبد الله لم يكن محيطًا بثروة أبيه، عارفًا بأملاكه، فإن عبد الله كان في ذلك الوقت في سن الخامسة والثلاثين، ومن يكن في مثل هذه السن من شأنه أن يكون ظهيرًا لأبيه عالمًا بكل أحواله وأمواله، وبخاصة إذا كان هو الابن الأكبر، وإن سؤال الزبير له: أفترى يُبقى ديننا من مالنا شيئًا؟ يشهد بأن عبد الله كان على علم بأحوال أبيه وأمواله، بل إن عبد الله صرح بأن أمر قضاء الدين ما كان سهلاً ولا هينًا، فيقول: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه فيقضَيه.ومما يشهد أيضًا بأن الزبير لم يكن معدودًا من الأغنياء وأصحاب الثروات وأن توقعه عن ديونه ونسبتها إلى أملاكه كان في موضعه ومحله، أن حكيم بن حزام رضي الله عنه – وهو ابن عم الزبير – تلقى عبد الله بن الزبير فيقول له: ما أراكم تطيقون هذا الذي عليكم من الديون فإن عجزتم عن شيء منه، فاستعينوا بي. ودليل رابع: يأتي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه لعبد الله ابن الزبير – وكان له عند الزبير أربعمائة ألف – فيقول لابن الزبير: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله بن الزبير: لا. قال عبد الله بن جعفر: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم، فهذه شهادة اثنين من كبار الصحابة يتوقعان عدم وفاء أملاك الزبير بما عليه من ديون ويعدانه ممن يحتاج إلى عون ومساعدة، ثم هما ممن يعرف الزبير ويخالطه، ويطلع على أحواله، فأحدهما حكيم بن حزام ابن عم الزبير، والآخر ابن خاله، فأم الزبير صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو يتعامل معه أخذًا وعطاء واقتراضًا وائتمانًا، فهذه أدلة أربعة لا يرقى إليها الشك تنطق بأن الزبير، رضي الله عنه، ما كان من أصحاب الثروات. وقد فشا فيما فشا عن ثروة الزبير وغناه الحديث عن عبيده وخيوله؛ ففي بعض المصادر أنه كان له ألف مملوك، وأن الألف مملوك كانوا يؤدون إليه الخراج كل يوم، فما يدخل إلى بيته منها درهم واحد، يتصدق بذلك جميعه. لكن المستشرق الذائع الصيت «ول ديورانت» جعل الألف عشرة آلاف، فقال: كان الزبير يمتلك عشرة آلاف عبد. ثم أضاف إليها ألف جواد، وبالطبع حذف المستشرق (الذكي) خير تصدق الزبير بخراج مماليكه، وهذا الخبر لا يقف أمام رواية البخاري، إذ جاء فيها «فقتل الزبير ولم يترك دينارًا ولا درهمًا، إلا أرضين منها الغابة، وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر، فالرواية واضحة، وهي بأسلوب الحصر، وفي مقام الحديث عن هم الدين، والكُرب التي كانت في سبيل سداده، فلو كان هناك ألف مملوك، لكان لها ذكر، ولثمنها قيمة وقدر، ألا يساوى المملوك الواحد في أقل تقدير ألفى درهم، فيكون ثمن المماليك هو قيمة الدين كله إلا قليلاً؟! هذا كله على فرض أنها كانت ألفًا فقط، أما إذا أخذنا بشطحة ول ديورانت، وأنها عشرة آلاف مملوك، فمعنى ذلك نسف رواية البخاري من أساسها، فإن عشرة آلاف مملوك وألف جواد يكفى ثمنها – مهما كان بخسًا – أن يسدد ديونه، ويغرق ورثته في لجج الثراء، وما كان الزبير بحاجة إلى أن يقول لابنه: إن من أكبر همي لَدَيِنْي. ولا أن يسأله: أفترى يبُقى ديننا من مالنا شيئًا؟ ولا أن يوصيه: إذا أعجزك شيء من ديني، فاستعن عليه بمولاي.
إن الحديث عن سيرة الزبير وطلحة وعمرو بن العاص وأبى موسى الأشعري وأم المؤمنين عائشة ينسجم مع أهداف الكتاب، من حيث الحديث عن سيرة أمير المؤمنين على وعصره، فهذه الشخصيات تعتبر محورية في الحديث عن عصر أمير المؤمنين على، كما أن التشويه الذين لحق بها في كتب التاريخ والأدب يكون عند الحديث في الفتن الداخلية، فبيان سيرتهم، وأخلاقهم وصفاتهم واجب علينا، وحتى يخرج القارئ بمعرفة حقيقية لهذه الشخصيات، فلا يتأثر بالروايات الضعيفة، ولا القصص الموضوعة التي وضعها مورخو الشيعة الرافضة والتي شوهت ثقافة الناس عن هذه الشخصيات العظيمة، فالحديث عن سيرة الزبير أو غيره من كبار الصحابة التي أسهمت في الأحداث في عهد أمير المؤمنين على رضي الله عنه ينسجم مع أهداف المؤلف التي أراد إيصالها للقارئ من خلال دراسته لعهد الخلفاء الراشدين.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات