اليوم :19 March 2024

العلامة أحمد بن فارس اللغوي

العلامة أحمد بن فارس اللغوي
qazvin1الإمام , العلاّمة, المفسر , الفقيه , اللغوي , الأديب, الشاعر, رائد فقه اللغة العربية, الذي فاق أقرانه, وبرز في الطليعة…
يُعد أحمد بن فارس واحدًا من الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية في مجال الدرس اللغوي ، إذ تقف مؤلفاته شامخة حتى اليوم أمام أحدث الدراسات اللغوية، ومازالت تبهر الباحثين المعاصرين…
لم يكن ابن فارس من العلماء المنزوين على أنفسهم، مكتفين بمجالس العلم والتعليم، بل كان مُتَّصلاً بالحياة أكمل اتصال، مادَّاً بسبب إلى نواحٍ شتى.

اسمه ونسبه:
هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب القزويني، المعروف بالرازي، والمشهور بابن فارس.

قزوين:

مدينة مشهورة تقع على سفوح جبال البرز بإيران غربي مدينة طهران.
قال ابن الفقيه: أول من استحدثها سابور ذوأكتاف.
وقال بعض أهل قزوين يذكرها ويفضّلها على أبهَرَ:

ندَاماي من قزوين طَوعاً لأمركم … فإني فيكم قد عَصيتُ نُهاتي
فأحيوا أخاكم من ثرَاكم بشربة  …  تندي عظامي أو تبل لَهاتي
أساقِيتي من صَفْو أبهَر هاكِهِ  …  وإن يك رفق من هناك فهاتي

وقزوين هذه كانت قد فُتحت في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان الصحابي الجليل البراء بن عازب أول والٍ عليها، وذلك سنة أربع وعشرين من الهجرة، ومنذ ذلك الحين دخلها الإسلام واستوطنها الفاتحون العرب، وتسرب إليها اللسان العربي، وما كاد يطل القرن الثالث الهجري حتى اكتسبت قزوين شهرة كبيرة في علم الحديث، وبرز فيه عدد كبير من المحدثين والعلماء، مثل: الحافظ علي بن محمد أبي الحسن الطنافسي، والحافظ عمرو بن رافع البجلي ، وإسماعيل بن توبة ، ثم كان أشهرهم ابن ماجه صاحب السنن.
وقد بلغ من مكانة قزوين واتساع الحركة العلمية فيها أن خَصّها بعض أبنائها بالتأريخ لها وترجمة أعيانها وعلمائها، ومن أشهر هذه الكتب: التدوين في أخبار قزوين للحافظ الرافعي المتوفى سنة 622 من الهجرة”.

مولده ونشأته:
ولد في أوائل القرن الرابع الهجري، ولم يذكر أحد من أصحاب التراجم الأقدمين تاريخاً محدداً لميلاده، لكنّه ـ  كما ذكر بعض الباحثين المحدثين ـ  يدور حول عام 312هـ.
وقد ولد بقزوين، ونشأ بهمدان، وكان أكثر مقامه في الري، لكنّه رحل إلى بلاد كثيرة؛ لتلقي العلم.

أساتذته:
وقد أخذ عن كثيرين، منهم والده فارس بن زكريا، وأبو بكر أحمد بن الحسن الخطيب راوية ثعلب، وأبو الحسن علي بن إبراهيم القطان، وسليمان ابن يزيد الفامي، وعلي بن محمّد بن مِهرَويه ومحمّد بن هارون الثّقفيّ، وأبو عبدالله أحمد ابن طاهر المنجم، وكان يقول: ما رأيتُ مثل أبي عبد الله أحمد بن طاهر المنجم ولا رأى هو مثل نفسه. وغيرهم كثير.

تلاميذه:
تتلمذ على ابن فارس الصاحبُ بن عباد، وبديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات، وأبو الفتح بن العميد والقاضي أبو زرعة روح بن محمد الرازي، أبو سَهل بنُ زيرك، وأبو منصور محمّد بن عيسى وأبو العباس الغضبان وحمزة بن يوسف السهمي الجرجاني والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصميري وغيرهم.

رحلاته:
رحل إلى الأَوحد في العلوم أبي الحسن القطَّان، ورحل إلى زنجان، إلى صاحب ثعلب أحمد بن الحسن الخطيب، ورحل إلى مَيَانَج إلى أحمد بن طاهر بن النَّجم، وكان يقول: ما رأيتُ مِثلَه.
وسمع بأصبهان أبا القاسم سليمان الطبراني، وببغداد محمد بن عبد الله الدوري.
يقول ابن فارس النحوي: دخلت بغداد طالباً للحديث، فحضرتُ مجلس بعض أصحاب الحديث وليست معي قارورة، فرأيت شاباً عليه سمة جمال، فاستأذنتُه في كتب الحديث من قارورته، فقال: من انبسط إلى الإخوان بالاستئذان، فقد استحق الحرمان.

علومه:
أما علومه فكانت متنوعة شاملة لا سيما اللغة التي أتقنها، وأكثر من التأليف في فروعها، وشهر بها؛ ودُعي بـ: اللغوي.
ويرجع ذلك إلى مؤلفاته القيمة التي كان لها أثر كبير في الدراسات اللغوية.
وكان صاحب عقلية جبارة، وموهبة فذة مبتكرة، وقد شهد له بذلك الكثير من القدامى والمحدثين، كالثعالبي، وابن خلكان، والصاحب بن عباد، وعبدالسلام هارون وغيرهم.
وكان فقيها شافعيا حاذقا، فانتقل إلى مذهب مالك في آخر عمره، وسئل عن ذلك فقال: داخلتني الحمية لهذا الإمام المقبول على جميع الألسنة أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه. فإن الري أجمع البلاد للمقالات والاختلاف.
أما طريقته في النحو فطريقة الكوفيين.
وكان ابن فارس محدِّثا , راويا للحديث . نقل الذهبي بسنده المتصل عنه إلى ابن فارس ثم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, حديث: (إِنَّ للهِ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ سَيَّاحِيْنَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلاَمَ).
ولم يكن ابن فارس من العلماء المنزوين على أنفسهم، مكتفين، بمجالس العلم والتعليم، بل كان مُتَّصلاً بالحياة أكمل اتصال، مادَّاً بسبب إلى نواحٍ شتى.

شعْرُه:
وقد أحسن صنعة الشعر، وكان نقادةً فيه، وله شعره الذي ينمّ عن ظرف، ورقّة، وحُسن تأتٍّ.
وهو مُلِحٌّ في التهكم والسخرية، ومن شعره في ذلك قوله:
مرَّتْ بنا هَيفاء  مَجدولة  …  تركيةٌ  تُعزى لتركي
تَرنو بطرف فاتنٍ فاترٍ … أضعف من حجة نحويّ

فيجعل من حجة النّحوي في ضعفها على ما يراه _ شبهاً للطرف الفاتن الفاتر.
وهو يتبرم بَهَمَذَانَ والعيشَ فيها؛ فيرسم حياته فيها على هذا النحو البديع، فيقول:
سَقَى هَمَذَانَ الغَيْثُ لَسْتُ بِقَائِلٍ      سِوَى ذَا, وَفِي الأَحْشَاءِ نَارٌ تَضَرَّمُ
وَمَالِيَ لاَ أُصْفِي الدُّعَاءَ لبَلْدَةٍ             أَفَدْتُ بِهَا نِسْيَانَ مَا كُنْتُ أَعْلَمُ
نَسِيْتُ الَّذِي أَحْسَنْتُهُ غَيْرَ أَنَّنِي          مَدِيْنٌ وَمَا فِي جَوْفِ بَيْتِي دِرْهَمُ

وهو صاحب حملة على من يزهِّدون في الدينار والدرهم؛ بحجة أنهم يطلبون المجد في العلم، والأدب، فيقول على سبيل التهكم:
قد قال في ما مضى حكيم:         ما  المرء  إلا  بأصغريه
فقلتُ   قولَ  امرئ  لبيب:         ما  المرءُ  إلا  بدرهميه
من  لم  يكن  مَعْهُ  دِرْهماه          لم  تلتفت  عِرْسُه  إليه
و كان من ذلّه حقيراً           تبول  سنّوره  عليه
العرس: الزوجة.
ولابن فارس التفاتٌ عجيب إلى السَّنور، وقد سجل في غير هذا الموضع من شعره أنه كان يصطفي لنفسه هِرَّةً تلازمه، وتنفي عنه هموم قلبه، ووساوس نفسه، فقال:

وقالوا: كيف أنت فقلتُ:           خيرٌ تَقَضَّى حاجةٌ وتفوت حاجُ
إذا ازدحمت هموم القلب قلنا        عسى  يوماً  يكون لها  انفراج
نديمي هرّتي و سرورُ قلبي            دفاتِرُ ليْ  ومعشوقيْ  السراج

وهو بصير ذو خبرة بطبائع الناس، واستئثارهم بالمال، وخضوعهم له، يقول في ذلك:
إذا كنتَ في حاجة مُرْسِلاً                وأنت بها كَلِفٌ مغرمُ
فأرسل حكيماً ولا توصه              وذاك الحكيم هو الدرهم

ويقول لمن يتكاسل في طلب العلم:
إِذَا كُنْتَ تُؤذَى بِحَرِّ المَصِيف ** وَيُبْسِ الخَرِيفِ وَبَرْدِ الشِّتَا
وَ يُلْهِيْكَ  حُسْنُ زَمَانِ الرَّبِيْع ** فَأَخْذُكَ  لِلْعِلْمِ  قُلْ لِي مَتَى؟

ولعل ابن فارس من أقدم من استعمل أسلوب الشعر في تقييد مسائل اللغة والعربية.

عن ابن فارس:
يا دار سعدى بذات الضال من غضم … سقاك صوب حياً من واكف العين
العين: سحاب ينشأ من قِبَل القبلة.

إني لأذكر أياماً بها ولنا … في كل إصباح يوم قرّةُ العين
العين ههنا: عين الإنسان وغيره.

تُدني مُعَشَّقَة منَّا معتَّقة …   تَشُجُّها عذبة من نابع العين
العين ههنا: ما ينبع منه الماء.

إذا تَمَزَّزَها شيخٌ به طَرَقٌ        سرت بقُوَّتها في الساق والعينِ
العين ههنا: عين الركبة، والطرق: ضعف الركبتين.

والزِّقُّ ملآنُ من ماء السرور فلا        تخشى تولُّهَ ما فيه من العينِ
العين ههنا: ثقب يكون في المزادة، وتولُّه الماءِ: أن يتسرب.

وغاب عُذَّالنا عنا فلا كدرٌ    في عيشنا من رقيب السوء والعينِ
العين ههنا: الرقيب.

يقسِّم الودَّ فيما بيننا قِسَماً    ميزانُ صدقٍ بلا بَخْسٍ ولا عينِ
العين ههنا: العين في الميزان.

وفائض المال يغنينا بحاضره    فنكتفي من ثقيل الدَّين بالعينِ
العين ههنا: المال الناضّ.

والمجمل المجتبى تغني فوائده    حفاظَه عن كتاب الجيم والعينِ
أي : كتاب العين.

ومن شعره أيضا:
يا ليت لي ألف دينار موجهة … وأن حظي منها فلس فلاس
قالوا فما لك منها؟ قلتُ تخدمني … لها ومن أجلها الحمقى من الناس
***
اسمع مقالة ناصحٍ  …  جمع النصيحة والمقهْ
إياك واحذر أن تكو … ن من الثقات على ثقهْ
***
وصاحب لي أتاني يستشير وقد … أراد في جنبات الأرض مضطرباً
قلتُ أطلب أيّ شيء شئتَ واسع ورد … منه الموارد إلا العلم والأديبا
***
تلبس لباس الرّضا بالقضا … وخلّ الأمور لمن يملك
تقدر أنت وجاري القضا … ء مما تقدره يضحك
وله أشعار كثيرة حسنة.

أخلاقه:
امتاز ابن فارس بأخلاق العلماء حقاً، فقد كان ورعاً تقياً شديد التواضع، وفياً لأساتذته، براً بهم، أميناً في النقل عنهم.
وكان جواداً كريماً لا يكاد يردّ سائلاً، حتى إنه كان يهب ثياب جسمه، وفرش بيته.
قال ابن الأنباري: وكان له صاحب يقال له أبو العباس أحمد بن محمد الرازي المعروف بالغضبان، وسبب تسميته بذلك أنه كان يخدمه ويتصرف في بعض أموره، قال: فكنتُ ربما دخلتُ فأجدُ فرشَ البيت أو بعضه قد وهبه، فأعاتبه على ذلك، وأضجر منه؛ فيضحك من ذلك، ولا يزول عن عادته.
فكنتُ متى دخلتُ عليه ووجدتُ شيئاً من البيت قد ذهبَ علمتُ أنه قد وهبه؛ فأعبس، وتظهر الكآبة في وجهي؛ فيبسطني ويقول: ما شأن الغضبان؟ حتى لحق بي هذا اللقب منه، وإنما كان يمازحني به.
***
يقال: إن أبا الحسين بن فارس كان بقزوين يصنّف في كل ليلة جمعة كتابا ويبيعه يوم الجمعة قبل الصلاة ويتصدّق بثمنه ! فكان هذا دأبه.

مؤلفاته:
ولابن فارس مؤلفات كثيرة تزيد على الستين، منها:
كتاب ” جامع التأويل في تفسير القرآن” .
كتاب ” غريب إعراب القرآن ” .
كتاب ” تفسير أسماء النبي عليه السلام ” .
كتاب ” سيرة النبي صلى الله عليه وسلم “.
كتاب ” أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.
كتاب ” أصول الفقه ” .
كتاب المجمل.
كتاب المقاييس.
كتاب نقد الشعر.
كتاب اللامات.
كتاب ” فقه اللغة ” .
كتاب مقدمة نحو.  
كتاب حلية الفقهاء.
” مقدمة في الفرائض ” .
كتاب ” الليل والنهار ” .
كتاب ” العم والخال ” .
كتاب ” خلق الإنسان ” .
كتاب ” كفاية المتعلمين في اختلاف النحويين ” .
وغيرها كثير.

أقوال العلماء فيه:
قال الإمام الذهبي : الإمام، العلاَّمةُ، اللُّغويُّ، المُحدِّث… كان رأساً في الأَدب، بصيراً بفقه مالك، مُناظراً مُتكَلِماً على طريقة أَهل الحقّ، ومذهبه في النَّحو على طريقة الكوفيِّين… جمع إِتقانَ العِلم إِلى ظَرْفِ أَهل الكتابة والشعر…
وكان من رُؤوس أَهل السُّنَّة المُجرَّدين على مذهب أَهل الحديث… وتخَرَّج به أَئمّة.
قال الباخرزي في دمية القصر:
إذا ذكرت اللغة فهو صاحب مجملها، لا بل صاحبها المجمّل لها. وعندي أن تضيفه ذلك من أحسن ” التّصانيف التّي صنعت ” في معناها، وأنّ مصنّفها إلى أقصى غايةٍ من الإحسان تناهى.
قال سعد بن عليّ الزّنجاني: كان أَبو الحسين مِن أَئمّة اللُّغة، مُحتجّاً به في جميع الجِهات غير مُنازع.
وقال القاضي عياض :
هو أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي الرازي، أحد رجال خراسان وعلمائها وأئمة أدبائها، غلب عليه علم الفقه ولسان العرب، فشهر به. وكان إماماً في ذلك، وكان أديباً شاعراً مجيداً في ذلك.
يقول الصاحب بن عباد: شيخنا أبو الحسين بن فارس رُزِق التَّصنيف وأمِنَ مِنَ التصحيف.

ابن فارس وأثره في فقه اللغة:

هذا وإن لابن فارس اليد الطولى في علم” فقه اللغة “؛ فلقد كانت البداية الحقيقية لهذا العلم، وظهوره كعلم مستقل على يد ابن فارس وابن جني ـ رحمهما الله ـ فلقد كان لهما أبلغ الأثر في التأليف في فقه اللغة، وعلى وجه الخصوص ابن فارس الذي ألف مجموعة من كتب اللغة، في هذا الشأن، خصوصاً كتابه: (الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها).
وترجع أهميةُ هذا الكتاب إلى أمور عديدة لعل أهمها كونه أول كتاب في العربية يحمل اصطلاح (فقه اللغة).
وبه تأثر المؤلفون من بعده، واتخذوا هذا الاصطلاح فناً لغوياً مستقلاً.
وقد عالج ابن فارس  في كتابه (الصاحبي) عدداً من الموضوعات التي تُعدّ من صميم فقه اللغة، وجمع في كتابه ما تفرّق في كتب مَن سبقه.
قال في مقدمة كتابه: والذي جمعناه في مؤلفنا هذا مفرق في أصناف العلماء المتقدمين _ رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء _.
وإنما لنا فيه اختصار مبسوط، أو بسط مختصر، أو شرح مشكل، أو جمع متفرق.
ثم بعد ذلك شرع  في أبواب الكتاب التي تعد النواة الأولى في فقه اللغة، وذلك كحديثه عن نشأة اللغة، والخط العربي، وعن خصائص اللغة، ومزاياها.
وكحديثه عن اختلاف اللغات، وأقسام الكلام، ومعاني الحروف.
وكحديثه عن الخطاب المطلق والمقيد، وعن الحقيقة والمجاز، والقلب، والإبدال، والعموم، والخصوص، والحذف والاختصار، والإتْبَاع، وغيرها.

كتابه (معجم مقاييس اللغة): منهجه فيه، وثناء العلماء عليه:
لقد أثرى ابن فارس المكتبة العربية بمعجم سماه (مقاييس اللغة).
وهو من أضخم المعاجم العربية وأعظمها. وله معجم آخر اسمه (مجمل اللغة).
وقد اتبع في تنظيمه لمواد المجمل وكذلك معجم المقاييس طريقة لم يُسبَق إليها.
فهو لم يرتّب موادهما على أوائل الحروف وتقليباتها كما صنع ابن دريد في الجمهرة، ولم يطردها على أبواب أواخر الكلمات كما ابتدع الجوهري في الصحاح، وكما فعل ابن منظور والفيروز أبادي في معجميهما، ولم يَنْسُقها على أوائل الحروف فقط كما صنع الزمخشري في أساس البلاغة، والفيومي في المصباح المنير.
ولكنه سلك طريقاً خاصاً به:

1ـ  فهو قد قسم مواد اللغة أولاً إلى كتب، تبدأ بكتاب الهمزة وتنتهي بكتاب الياء.
2ـ ثم قسم كل كتاب إلى أبواب ثلاثة أولها باب الثنائي المضاعف والمطابق، وثانيها أبواب الثلاثي الأصول من المواد، وثالثها باب ما جاء على أكثر من ثلاثة أحرف أصلية.
3ـ والأمر الدقيق في هذا التقسيم أن كل قسم من القسمين الأولين قد التُزم فيه ترتيب خاص، وهو ألا يبدأ بعد الحرف الأول إلا بالذي يليه؛ ولذا جاء باب المضاعف في كتاب الهمزة، وباب الثلاثي مما أوله همزة وباء ترتيباً طبيعياً على نسق حروف الهجاء.
ولكن في (باب الهمزة والتاء وما يثلثهما) يتوقع القارئ أن يأتي المؤلف بالمواد على هذا الترتيب: (أتب، أتل، أتم، أتن، أته، أتو، أتى)، ولكن الباء في (أتب) لا تلي التاء بل تسبقها، ولذلك أخرها في الترتيب إلى آخر الباب فجعلها بعد مادة (أتى).
وفي باب التاء من المضاعف يذكر أولاً (تخ) ثم (تر) إلى أن تنتهي الحروف، ثم يرجع إلى التاء والباء (تب) لأن أقرب ما يلي التاء من الحروف في المواد المستعملة هو الخاء.
وفي أبواب الثلاثي من التاء لا يذكر أولاً التاء والهمزة وما يثلثهما، بل يؤخر هذا إلى أواخر الأبواب، ويبدأ بباب التاء والجيم وما يثلثهما، ثم باب التاء والحاء وما يثلثهما، وهكذا إلى أن ينتهي من الحروف، ثم يرجع أدراجه ويستأنف الترتيب من باب التاء والهمزة وما يثلثهما.
وذلك لأن أقرب ما يلي التاء من الحروف في المواد المستعملة هو الجيم.
وتجد ـ أيضاً ـ أن الحرف الثالث يراعى فيه هذا الترتيب، ففي باب التاء والواو وما يثلثهما يبدأ بـ (توى) ثم (توب) ثم (توت) إلى آخره، وذلك لأن أقرب الحروف التي تلي الواو هو الياء.
هذا هو الترتيب الذي التزمه ابن فارس في كتابيه (المجمل) و (المقاييس) وهو بِدْع كما ترى.
هذا الكتاب يكاد يكون أعظم كتب ابن فارس ، بل يكاد يكون أعظم معجم فيما ألِّف في اللغة العربية.
وهو منهج جديد في التأليف المعجمي يشبه إلى حدٍّ ما منهجه في كتاب المجمل، ولكن المقاييس يحمل أفكاراً جديدة على المعجم العربي كله، ولذلك قال عنه ياقوت الحموي: كتاب جليل لم يُصنَّف مثله .
والكتاب بعد كل أولئك يضم في أعطافه وثناياه ما يَهَب القارئ ملكة التفهم لهذه اللغة الكريمة، والظهور على أسرارها .

نظرات ابن فارس في النقد والأدب:
هذا وإن لابن فارس نظراتٍ في النقد والأدب، ولم يكن كأمثال من ينصرفون عن إنتاج معاصريهم، ولم يكن ممن يحتقر الفائدة، أو التأليف، أو الشعر إذا صدر من معاصر.
ولم يكن من اللغويين الجامدين الذين لا يقيمون لمعاصريهم وزناً، بل هو يُصْغي إلى شعر معاصريه، ويروي لكثير منهم، وينتصر للمحسن، وينتصف من المتعصبين.
وإليك شيئاً من رسالة له كتبها لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب؛ لتستبين مذهبه ذلك، وتلمس أسلوبه الأدبي، تلك الرسالة التي يتناقلها بعض المؤلفين إلى يومنا هذا، ويرون فيها عزاءاً لمن لا يقدرون الإنتاج العلمي والأدبي قدره، ولا يرون التميز إلا للقديم؛ فابن فارس يبين فيها أن الحسن الجيد لا يختص به أحد دون أحد، أو زمان دون زمان، وينكر تلك المقولة التي وقفت سداً منيعاً أمام كثير من المبدعين، ألا وهي قولهم: (ما ترك الأول للآخر شيئاً).
ويرشد إلى أن يوضع مكانها: (كم ترك الأول للآخر).
يقول في رسالته: ألهَمَكَ اللهُ الرَّشاد، وأصْحبك السداد، وجنّبك الخلاف، وحبَّب إليك الإنصاف.
وسبب دعائي بهذا لك إنكارُك على أبي الحسن محمد بن علي العِجْلي تأليفه كتاباً في الحماسة، وإعظامك ذلك.
ولعلّه لو فعل حتى يصيب الغرض الذي يريده، وَيَرِد المنهل الذي يؤمه، لاستدرك من جيد الشعر وَنقِيِّه، ومختاره ورضيِّه كثيراً مما فات المؤلف الأول؛ فماذا الإنكار؟ ولمه هذا الإعتراض؟ ومن ذا حظر على المتأخر مضادةَ المتقدم؟ ولمه تأخذ بقول من قال: ما ترك الأول للآخر شيئاً، وتدع قول الآخر:
كم ترك الأول للآخر؟
وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمان رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام، ونتائج العقول؟!
ومَنْ قَصَر الآداب على زمانٍ معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولمه لا ينظر الآخر مثلما نظر الأول حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى في كل مثل رأيه.
وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أَوَ ما علمت أن لكل قلب خاطراً، ولكل خاطر نتيجةً، ولِمَهْ جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره، ولم يَجُزْ أن يؤلف مثل تأليفه؟
ولمه حجَّرت واسعاً وَحَظَرتَ مباحاً، وحرّمتَ حلالاً، وسددتَ طريقاً مسلوكاً؟
وهل حبيب (يعني به: أبا تمام: حبيب بن أوس الطائي) إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولمه جاز أن يعارض الفقهاء من مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنُّظَّار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذَّ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يُدْرَكُ ولا يدرى قدره؟
ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولَكَلَّت أَلْسُنٌ لسِنَةٌ، ولما توشَّى أحد بالخطابة، ولا سلك شِعْباً من شعاب البلاغة، وَلَمَجَّتِ الأسماع كل مردود مكرر، ولَلَفظت القلوب كل مُرَجَّع مُمَضَّغ، وحتَّام لا يُسْأَم:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي([1])
وإلى متى:                           صَفَحْنا عن بني ذهل([2])
ولِمَه أنكرت على العِجْليِّ معروفاً؟ واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً، وإيطاءاً وإقواءاً، ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبوابٍ لا تليق بها ولا تصلح لها إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة؟ ولمه رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا  حثثت على إثارة ما غَيَّبَتْهُ الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نَتَجَتْهُ خواطرُ هذا الدهر، وأفكار هذا العصر، على أن ذلك لو رامه رائمٌ لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة مَنْ قَبْلَه: مِنْ جدٍّ يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاحٍ يلهيك.
كان بقزوين رجل يُعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً، عليه عمامةٌ سوداءُ وطيلسان أزرقُ، وقميصٌ شديدُ البياض، وخفٌّ أحمرُ، وهو مع ذلك كله قصير على بِرَذَون أبلقَ هزيلِ الخَلْق، طويل الحلق، فقال حين نظر إليه:
و حاكم  جاء  على  أبلق         كعقعقٍ  جاء  على  لقلقِ
فلو شهدتَ هذا الحاكم على فرسه لشهدتَ للشاعر بصحة التشبيه، وجودة التمثيل، ولعلمتَ أنّه لم يَقْصُرْ عن قول بشار:
كأنّ مثار النقع فوق رؤوسهم         وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فما تقول لهذا، وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه، وجحود تجويده؟
وأنشدني عبدالله بن شاذان القاري، ليوسف بن حمويه من أهل قزوين؛ ويعرف بابن المنادى:
إذا ما جئت أحمد مُسْتميحاً           فلا يَغْرُرْكَ منظرُه الأنيقُ
له لطفٌ وليس لديه عرفٌ             كبارقة تروقُ ولا تُريق
فما يخشى العدوُّ له وعيداً           كما بالوعد لا يثق الصديق

من أقواله:
قال أحمد بن فارس: مَن قَصُرَ عِلمُه في اللُّغة وغولِطَ غَلِطَ.
ــ  وكان يقول: لَيْسَ كل من خالف قائلاً فِي مقالته فقد نَسَبه إِلَى الجهل. وذلك أن الصدر الأول اختلفوا فِي تأويل آي من القرآن فخالف بعضهم بعضاً. ثُمَّ خَلَفَ من بعدهم خلف، فأخذ بعضهم بقولٍ وأخذ بعض بقول، حسب اجتهادهم وَمَا دلَّتهم الدَّلالة عَلَيْهِ.
إنّ العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لاغناء بأحد منهم عنه. وذلك أن القرآن نازلٌ بلغة العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، عربي. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب – لم يجد من العلم باللغة بُدّا.
ــــ وَقَدْ كَانَ الناس قديماً يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أَوْ يقرأونه اجتنابَهم بعضَ الذنوب. فأما الآن فقد تجوزا حَتَّى أن المحدّث يحدّث فليحن. والفقيه يؤلف فيلحن. فإذا نُبها قالا: مَا ندري مَا الإعراب وإنّما نحن محدّثون وفقهاء. فهما يسران بما يُساء بِهِ اللبيب.
ولقد كلمتُ بعض من يذهبُ بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العُليا فِي القياس، فقلت لَهُ: مَا حقيقة القياس ومعناه، ومن أي شيء هو؟ فقال: لَيْسَ عليَّ هَذَا وإنما علي إقامة الدَّليل عَلَى صحته.
فقُل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو!. ونعوذ بالله من سوء الاختيار.
ـــ الشِّعر ديوانُ العرب، وبه حُفِظت الأنساب، وعُرِفت المآثر، ومنه تُعلِّمت اللغة. وهو حُجَّةٌ فيما أشْكَلَ من غريب كتاب الله جلّ ثناؤه وغريب حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وحديث صحابته والتابعين.

ابن فارس و ابن بابك:
وحدث هلال بن المظفر الريحاني قال: قدم عبد الصمد، ابن بابك الشاعر إلى الري، في أيم الصاحب، فتوقّع أبو الحسين، أحمد بن فارس، أن يزوره ابن بابك، ويقضي حق علمه وفضله، وتوقع ابن بابك، أن يزوره ابن فارس، ويقضي حق مقدمه، فلم يفعل أحدهما ما ظنّ صاحبه، فكتب ابن فارس إلى القاسم بن حسولة:
تعديت في وصلي فعدي عتابك … وأدنى بديلاً من نواك إيابك
تيقنت أن لم أحظ والشمل جامع … بأيسر مطلوب فهلا كتابك
ذهبت بقلب عيل بعدك صبره … غداة أرتنا المرقلات ذهابك
وما استمطرت عيني سحابة ريبة … لديك ولا مست يميني سخابك
ولا نقبت والصب يصبو لمثلها … عن الوجنات الغانيات نقابك
ولا قلت يوماً عن قلىً وآمة … لنفسك: سلى عن ثيابي ثيابك
وأنت التي شيبت قبل أوانه … شبابي سقى الغر الغوادي شبابك
تجنبت ما أوفى وعاقبت ما كفى … ألم يأن سعدى أن تكفي عتابك؟
وقد نبحتني من كلابك عصبة … فهلا وقد حالوا زجرت كلابك
تجافيت عن مستحسن البر جملة … وجرت على بختي جفاء ابن بابك

فلما وقف أبو القاسم الحسولي على الأبيات، أرسلها إلى ابن بابك، وكان مريضاً، فكتب جوابها بديهاً: وصلت الرقعة – أطال الله بقاء الأستاذ – وفهمتها، وأنا أشكو إليه الشيخ أبا الحسن، فإنه صيَّرَني فَصلاً لا وصلاً، وجاً لا نصلاً، ووضعني موضع الحلاوى من الموائد، وتمت من أواخر القصائد، وسحبَ اسمي منها مسحب الذيل، وأوقعه موقع الذنب المحدوف من الخيل، وجعل مكاني مكان القفل من الباب …
وقد أجبتُ عن أبياته بأبيات، أعلم أن فيها ضعفاً لعلتين: علتي، وعلتها، وهي:
أيا أثلات الشعب من مرج يابس … سلام على آثاركنّ الدوارس
لقد شاقني والليل في شملة الحيا … إليكنّ ترجيع النسم المخالس
ولمحة برق مستضئ كأنّه … تردد لحظ بين أجفان ناعس
فبتُّ كأنّي صعدة يمنية … تزعزع في نقع من الليل دامس
ألا حبذا صبح إذا ابيض أفقه … تصدع عن قرن من الشمس وارس
ركبت من الخلصاء أرقب سيلها … ورود المطي الظامئات الكوانس
فيا طارق الزوراء قل لغيومها … أهلي على مغنى من الكرخ آنس
وقل لرياض القفص تهدي نسيمها … فلست على بعد المزار بآيس
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة … لقى بين أقراط المها والمحابس
وهل أرين الري دهليز بابك … وبابك دهليز إلى أرض فارس
ويصبح ردم السد قفلاً عليهما … كما صرت قفلاً في قوافي ابن فارس

فعرض أبو القاسم الحسولي المقطوعين على الصاحب، وعرفه الحال، فقال: البادئ أظلم، والقادم يزار، وحسن العهد من الإيمان.

وفاته:
توفي سنة 395هـ ، 1004 م على الرأي الصحيح كما رجح ذلك العلامة عبدالسلام هارون  وغيره.
وروى أكثر من ترجم له أنه قال قبل وفاته بيومين:
يا رب إن ذنوبي قد أحَطتَ بها        علماً وبيْ وبإعلاني وإسراري
أنا  الموحّدُ  لكنّي  المُقِرُّ  بها           فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري

رحم الله ابن فارس، وأجزل مثوبته، وجزاه خير الجزاء كِفاءَ ما قدم للعلم والعربية.

****************************************
من مصادر البحث:
تراجم / محمد بن إبراهيم الحمد
دمية القصر وعصرة أهل العصر – الباخرزي (ج 1 / ص 230)
ترتيب المدارك وتقريب المسالك – القاضي عياض(ج 1 / ص 492)
الوافي بالوفيات – للصفدي (ج 2 / ص 474)
معجم المؤلفين – عمر كحالة (ج 2 / ص 40)
سير أعلام النبلاء  – للإمام الذهبي(ج 33 / ص 93)
معجم البلدان – لياقوت الحموي (ج 3 / ص 393)
معجم الأدباء – ياقوت الحموي(ج 1 / ص 156)
المستفاد من ذيل تاريخ بغداد – ابن الدمياطي (ج 1 / ص 45)
الصاحبي في فقه اللغة – (ج 1 / ص 9)

الكاتب: الشيخ أبو محمد البلوشي

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات