الحج هو أحد أركان الإسلام، فرض في السنة التاسعة من الهجرة النبوية، ومن رحمة الله بعباده أن فرض عليهم الحج مرة واحدة في العمر، قال الله – تعالى -: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 97). وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا”، فقال الأقرع بن حابس: أكل عام يا رسول الله؟ (فسكت) حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم لكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم”.
بين المنافع والمقاصد:
لا تخلو مناسبة الحج من منافع ومقاصد، ذات أبعاد عقائدية وشخصية ومجتمعية، وأخلاقية وتربوية.. ومن ذلك ما يلي:
1 – تعميق الإيمان وترسيخ التقوى:
مما لا شك فيه أن أداء الحج على الوجه المشروع يقوي الإيمان، ويخلص النفس من أدرانها وأوضارها، ويهيج عواطفها الإسلامية نحو مزيد من استحضار عظمة الله – تعالى -واستشعار الخشوع له، حيث يعيش الحجاج على الطبيعة أياما معلومات مع عبق الوحي الإلهي وفي أماكن تنزل القرآن المجيد، فتتجه النفوس في روحانية غامرة نحو مزيد من التدين الحق المحسوس، والخضوع الكامل لله – تعالى -، والالتزام الصادق والتفاعل المثمر مع أوامره ونواهيه.
وقد أشار الله – تعالى – إلى هذا المقصد العظيم وما يتضمنه من معان إيجابية بناءة في قوله تعالى عن بعض مناسكه: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} (الحج: 37).
2 – استشعار تضحيات المسلمين الأوائل:
إن معايشة أيام الحج تجعل المسلم يستحضر في خاطره بروحانية عالية أيام النبوة، ويستشعر على الطبيعة تضحيات الصحابة، ويتحسس جهود المسلمين الأوائل، الذين أرسوا قواعد هذا الدين والتزموا بتعاليمه ونشروا فضائله ومحاسنه، في غمرة ما لقوه من أعدائهم من مصابرة وعناء وبلاء، وبذل وتضحيات، قدموها من أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأوقاتهم ومصالحهم.. ولأجل ذلك البلاء وتلك التضحيات حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من انتقاصهم أو الإساءة إليهم فقال: “الله، الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم.. “، وفي رواية أخرى: “إن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) متفق عليهم”.
3 – الامتثال الكامل لله – تعالى -:
إن ممارسة الحجاج لمناسك الحج على تنوع صورها وأوقاتها وأماكنها، واختلاف مفرداتها وأعدادها ومضامينها، تغرس في نفوسهم قيمة الطاعة لله الواحد الأحد، والامتثال الكامل لأوامره وأحكامه وتوجيهاته، ولو لم تظهر لهم عاجلا حكمة ذلك ولا مردوده الحسي.
ومن المظاهر المشهودة الدالة على الخضوع الكامل لله – تعالى -الطواف بالكعبة المعظمة سبعة أشواط، وتقبيل الحجر الأسود، ورمي الجمرات بأوقات وأعداد معلومة محددة، والوقوف في صعيد عرفات، ثم الاتجاه ليلا إلى مزدلفة للمبيت فيه.
وهكذا تندمج نشاطات الإنسان البدنية والفكرية والروحية وتتفاعل في تعاظم وتسام، لتتعود على تنفيذ أوامر الله – تعالى – والتزام توجيهاته بصدق وإخلاص وخضوع وتذلل، دون تردد ولا تأخر، ولو لم تظهر الفوائد الحسية لذلك عاجل.
روى الشيخان عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه كان يقبل الحجر ويقول: “إني لأعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبلك ما قبلتك”.
4 – تعضيد الإخاء والتضامن الإسلامي:
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحج أشبه بمؤتمر عالمي سنوي شعبي ورسمي، يحقق دون غيره من الشعائر والعبادات واقعا حيا مباشرا ومتألقا، من حيث القيم الأخلاقية البناءة على الصعيد الإنساني، وذلك من خلال التقاء جموع الحجاج الحاشدة في صورة متناسقة، ترمز وتعبر عن جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم، في تعارفهم وتآلفهم وتبادل الرأي فيما بينهم وتدبير أمورهم، على اختلاف في ألوانهم وأوطانهم ولغاتهم ومستوياتهم وأسلوب حياتهم، متمثلين قوله – تعالى -: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون: 52).
وإن هذا المشهد يسرب إلى النفس ذكريات الماضي، ويحمل على التأمل فيه ودراسته واستخلاص العبر منه، للانطلاق نحو مستقبل واعد، يحقق فيه المسلمون لأنفسهم ولبلادهم ولأجيالهم القادمة مزيدا من الأمن والكرامة والعزة، والنمو والازدهار.
هذا، ويعتبر موسم الحج فرصة سانحة لعموم المسلمين من أجل تحقيق مزيد من التعاون، والتعاضد، ليكونوا صفا واحدا ويدا واحدة في مواجهة التحديات المعاصرة، على اختلاف مظاهرها وأشكالها وأساليبه.
5 – التعود على ضبط النفس والتزام النظام:
يمارس الحجاج ضبط النفس والتزام النظام، وذلك حين يتجردون حال إحرامهم من زينة الحياة الدنيا، ويمتنعون عن حلق الشعر وتقليم الأظافر واستعمال العطورات، ونحو ذلك مما هو معروف في محظورات الإحرام، كل ذلك من أجل الله – تعالى -وامتثالا لأوامره، وطمعا في تحصيل رضاه وثوابه والقرب منه، روى الطبراني في الكبير أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن الله – تعالى – يباهي بأهل عرفات الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، أقبلوا شعثا غبرا، يضربون من كل فج عميق، أشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وقبلت شفاعتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم.. “.
6 – صور حقيقية من المساواة الإنسانية واستشعار الحشر:
تتجلى في الحج معاني ومظاهر المساواة الإنسانية بين جموع الناس، فهم محرمون في مكان واحد، يجتمعون في وقت واحد، وينتظرون تحركا جديدا، واحدا، الجميع سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وكبيرهم وصغيرهم.. الجميع في لباس أبيض بسيط متشابه، يرمز إلى وحدة الخلق الإنساني، وأن الإسلام يساوي بين الأعراق والشعوب إذ الكل عند الله تعالي سواء. وهكذا من خلال هذه المشاهد تنبعث في النفس البشرية صور ترمز لليوم الآخر، يوم يحشر الناس لرب العالمين حفاة عراة، لا فضل لأحد علي غيره إلا بالتقوى والعمل الصالح.
الخاتمة:
لئن قصد الإسلام إلى تحقيق تلك المنافع والمقاصد، مما تتجدد الحاجة إليه مع تجدد العصور وتطور حياة المجتمعات، فإن هناك معالم وممارسات لا ينبغي للحجاج نسيانها أو التساهل فيها، ومن ذلك ما يلي:
1 – إخلاص النية لله – تعالى -واستحضار عظمته في كل حال وحين، وتعظيم شعائره والاشتغال بذكره وتسبيحه وتلبيته ودعائه، فذلك مما يدل على صدق السرائر وتقوى القلوب، {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (الحج: 32).
الكاتب: أ.د. حسن عبد الغني أبوغدة
المصدر: موقع رسالة الإسلام
تعليقات