اليوم :24 April 2024

تفسير آية 37 إلى 39 من سورة البقرة

تفسير آية 37 إلى 39 من سورة البقرة

“فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّ‌بِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّ‌حِيمُ ﴿٣٧﴾ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٣٨﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُ‌وا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ‌ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٣٩﴾.

التفسير المختصر
بعد ذلك حصل آدم عليه السلام على كلمات من ربه، وهي كلمات الاستغفار وطلب العفو التي حصل عليها وتلقاها من الله تعالى، فبعد ما ندم آدم عليه السلام، توجهت إليه رحمة الله وشمله عطفه وإحسانه، ولقنه وألهمه كلمات الاستغفار، فتغمده الله بعطفه ورحمته، وتقبل توبته وتجاوز عنه، فإنه تواب كثير الرحمة.
ورد في سورة الأعراف “قالا ربنا ظلمنا أنفسنا”، فتبيّن أن حوا عليها السلام كانت شريكة لآدم عليه السلام في التوبة وقبولها، ولكن رغم المغفرة لم ينسخ حكم الهبوط إلى الأرض، لأنه كان يتضمّن آلافا من الحِكَم والمصالح؛ ولكن تغير مفهومه وحقيقته، فكان قبل ذلك على سبيل المعاقبة ثم تغير إلى حكم فيه حِكَم كثيرة، فقال عزّ من قائل: “قلنا اهبطوا منها جميعا”، أي قلنا لهم انزلوا جميعا من الجنة إلى الأرض، ثم إذا جاءكم رشد وهداية من عندي (يعني الأحكام الشرعية عن طريق الوحي) فمن اتبع الهدى، فأولئك لا يعتريهم أي خوف ولا يحزنون. ولا تحدث لهم حادثة مخيفة ومرعبة، أما خوفهم من المشاهد الرهيبة يوم القيامة لا ينافي هذا الأمر، كما يفهم من الأحاديث الصحيحة أن حالة الخوف والهلع تعتري الجميع يوم القيامة.
وأما الحزن، فهو الحالة التي تواجه القلب بعد وقوع المصيبة والضرر والأذى، والخوف يحدث قبل وقوع المصيبة والحادثة، هناك نفى الله تعالى الخوف والحزن كليهما، لأنه لا يحدث لهم أي أذى ومصيبة حتى يشعروا بالخوف والحزن.
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى مصير الأشخاص الذين لا يتبعون هدايته سبحانه وتعالى وإرشاداته، فقال: “والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون”.

فقه الحياة أو الأحكام
المناسبة:
ذُكرت في الآيات السابقة وسوسة الشيطان لآدم عليه السلام ثم زلته وإخراجه من الجنة وهبوطه إلى الأرض بعدها. لم يسمع آدم قبل ذلك مثل هذا العتاب الإلهي، وكذلك لم يكن غليظ القلب، فصار قلقا مضطربا فأراد أن يستغفر ربه ويتوب إليه، لكن الخشية التي اعترته نتيجة المعرفة النبوية التي كان يملكها، حالت دون التكلم بكلمة، أو بقي صامتا لم يتحدث، زاعما أن طلب المغفرة ربما غير لائق بهذه المكانة، فيصير سببا لمزيد من العتاب الإلهي. فحينما رأى الله تعالى هذه الحالة وهو عالم بما في الصدور وهو رحيم كريم، علّمه الكلمات التي يستغفر بها ربه، وجاء ذكرها في هذه الآيات: “فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم”.
لم يُنسَخ حكم الهبوط إلى الأرض بعد العفو عن الخطأ والزلة، لكن جاء في الحكم نوع من التغيير، حيث كان قبل ذلك أمرا وجوبيا جزاء بما فعل، ولكن بعد العفو تغيّر إلى حكم فيه حِكم ومصالح كثيرة أخرى، مثل ظهور نوع جديد من المخلوقات بين الجنّ والملائكة، وإعطاء نوع من الاختيار لهم، وتكليفهم بالأحكام الشرعية، وجعل الخلافة الإلهية فيهم، وأمرهم بإقامة الحدود والأحكام الشرعية ليزدهروا ويصلوا إلى درجات لا يصل إليها كثير من الملائكة. وهذه حِكَم وغايات ذكرها الله تعالى قبل خلق آدم: “إني جاعل في الأرض خليفة”، فصار الهبوط إلى الأرض مع تكريمهم بالخلافة الإلهية؛ ولأجل هذا جاء بعده بيان الفرائض والتكاليف الشرعية التي تترتب عليه من حيث أنه خليفة الله في الأرض. وتكرر بيان الهبوط إلى الأرض في موضع آخر أيضا حيث قال تعالى: “وقلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى” (أي الأحكام الشرعية عن طريق الوحي) “فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.
“تلقى”: معنى تلقى الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها (روح الكشاف)، والمراد أن الله تعالى لما ألهم آدم عليه السلام كلمات التوبة، فإنه قبلها بكل اهتمام.
“كلمات”: وأما الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام لتوبته، فقد نقلت رويات عديدة عن مفسري الصحابة حولها. والقول المشهور في هذا المجال لابن عباس رضي الله عنهما وهو أن الكلمات التي تراد بها، هي التي ذكرت في مكان آخر في القرآن الكريم حيث يقول: “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين”.
“تاب”: التوبة هي الرجوع، فإذا نسبت إلى العبد يكون معناها جميع هذه الأمور الثلاثة:1- الاعتراف بالذنب والندم عليه. 2- الإقلاع عن الذنب . 3- أن يعتزم ويجزم بعدم العودة إليه. فإذا جاء نقص في إحدى هذه الثلاثة، لا تبقى تلك التوبة توبة حقيقية حينئذ.
يُعلم من هذا أن “التوبة” باللسان لا تكفي للنجاة فقط، ما لم تجتمع هذه الأمور الثلاثة؛ يعني الندامة على ما مضى، وترك الذنب في الحال، والعزم على عدم اقترافه في المستقبل.
“تاب عليه”: هنا نسبت التوبة إلى الله تعالى، والمراد منها قبول التوبة.
سئل بَعْضُ السَّلَفِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ الْمُذْنِبُ فَقَالَ: يَقُولُ مَا قَالَهُ أَبَوَاهُ ، حيث ندما على الذنب وعزما على أن لا يعودا إليه، طالبين العفو والمغفرة من الله تعالى بقولهما “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين”. وكذلك قال موسى عليه السلام: “رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي”. وقال يونس عليه السلام لما صدرت منه زلة: “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”، والمراد أني أطلب رحمتك. (قرطبي)
الفائدة: إن الله تعالى نسب الزلة التي صدرت من آدم وحوا عليهما السلام إلى كليهما، حيث قال “فأزلهما الشيطان فأخرجهما”. وكذلك جعل حوا شريكا لآدم حينما وجّه الحكم بالهبوط إلى الأرض، حيث قال: “اهبطوا”، ولكن بعد ذلك جاءت صيغة المفرد، ولم يرد ذكر عن حوا حينما سيق الكلام عن التوبة وعن قبولها. وكذلك في غير هذا الموضع حينما جاء ذكر عن هذه الزلة، فقد ذُكِر آدم عليه السلام فحسب، كما قال تعالى: “عصى آدم”.
يمكن أن يكون الدليل على هذا أن المرأة مستورة، أراد الله لها الستر من هذا الذنب والعتاب، فلم يذكرها صراحة، وقد وردت صيغة الجمع في موضع ذكر التوبة حيث يقول: “ربنا ظلمنا أنفسنا”، حتى لا تبقى أية شبهة حول عدم قبول التوبة من حوا، وإضافة إلى ذلك فإن المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر، فلم تكن هناك حاجة لذكرها على حدة. ( قرطبي)

الفرق بين التواب والتائب:
قال الإمام القرطبي: إن كلمة “التواب” يطلق على العبد، كقوله تعالى: “إن الله تعالى يحب التوابين”، كما يوصف به الرب، حيث جاء في القرآن “هو التواب الرحيم”. فإذا أطلق على العبد يكون معناها “العائد من الذنب إلى الإطاعة”؛ وإذا أطلق على الله تعالى يكون معناها “قابل التوب”. هذا التفصيل لكلمة “التواب” فقط. ومن هذه المادة كلمة “التائب”، ولكن لا يجوز إطلاقها على الله تعالى، رغم عدم المشكلة في إطلاقها على الله تعالى باعتبار اللغة، لأن شأنه تعالى يقتضي أن تطلق عليه الصفات والأسماء التي ورد ذكرها في القرآن والسنة فقط.

قبول التوبة بيد الله فقط:
عُلم من هذه الآية أن قبول التوبة والعفو عن الذنب، بيد الله تعالى فقط، وليس لأحد غيره هذا الخيار.
بناء على الغفلة عن هذا الأصل، قد وقعت اليهود والنصارى في الفتنة، حيث كانوا يذهبون إلى الرهبان والكبراء، ويعطونهم بعض الهدايا لمغفرة ذنوبهم، وكانوا يزعمون أن هؤلاء الرهبان والكبراء لو قبلوا مغفرة المذنبين وأعطوهم صكّ المغفرة، تغفر تلك الذنوب عند الله تعالى أيضا.
اليوم أيضا نرى كثيرا من المغفلين والجهال من المسلمين أنهم على مثل هذا الاعتقاد الباطل. مع أنه لا يمكن لأي عالم أو مرشد أن يغفر ذنوب شخص، ولكن بإمكانه الدعاء فحسب.

لم يكن هبوط آدم على وجه العقاب وإنما كان لهدف أراد الله تحقيقه
{قلنا اهبطوا منها جميعا}:
ورد في الآية السابقة حكم الهبوط من الجنة إلى الأرض، ولعل الحكمة من تكراره هنا أن الحكم في الآية السابقة أتى للعتاب والعقاب، لأجل ذلك ذكرت بجانبه عداوة الناس بعضهم مع بعض أيضا. وذكر الهبوط إلى الأرض هنا لأجل تحقيق هدف الخلافة الإلهية مع التكريم، بناء على هذا، ذكر معه إرسال الهدي الذي هو من لوازم ووظائف الخلافة الإلهية. واتضح أيضا من هذا أن حكم الهبوط إلى الأرض إن كان أولا للعتاب والعقاب، لكن بعد العفو عن الزلة بقي حكم الهبوط إلى الأرض مع تغيير في صفته نظرا إلى مصالح وحكم أخرى، وصار بعد ذلك هبوطه إلى الأرض بصفة خليفة أو حاكم، وهذه هي الحكمة التي ذكرها الله تعالى للملائكة أثناء خلق آدم عليه السلام وجعله خليفة له على الأرض.

النجاة من الخوف والحزن نصيب أولياء الله تعالى
“فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”:
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية جائزتين لعباده الذين يتبعون الهدى والحق؛ الأولى أنهم لا يخافون، والثانية أنهم لا يحزنون. الخوف عبارة عن تألم الإنسان من توقّع مكروه يصيبه أو مشقة تأتيه في المستقبل، والحزن يطلق على الغمّ الناشئ بسبب فقد مطلوب أو غرض.
لو تدبرنا قليلا نلاحظ أن جميع أنواع التنعّم والراحة استوعبها اللفظان استيعابا ليس أي فرد ولا قسم من أقسام الهدوء والراحة بخارج منه. ثم فرّق بطريقة خاصة في التعبير باللفظين، حيث نفى الخوف نفيا عامّا ولكن لم يقل بشأن الحزن “لا حزن عليهم”، بل استعمل صيغة الفعل وقدّم ضميره الفاعل وقال: “ولا هم يحزنون”.
وفي هذا إشارة إلى أن النجاة والسلامة من الحزن على فوات شيء أو فقد مطلوب، صفة خاصة لأولياء الله الذين يتبعون تعاليم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا يسلم من هذا الحزن أحد غيرهم، سواء كان مالكا للأقاليم السبعة أو كان أغنى الناس في العالم، لأنه لا يوجد فيهم من يعترض له عمل مخالف لطبيعته ثمّ لا يحزن هو بسببه.
در این دنیا كسی بی غم نباشد وگر باشد آدم نباشد
كما قيل: ليس في هذه الدنيا إنسان بلا حزن، وإن كان فهو ليس من بني آدم.( تعريب أبيات)
لكن أولياء الله الذين أفنوا مرضاتهم وإرادتهم في مرضاة الله وإرادته، وآثروا مرضاة الله تعالى على مرضاتهم، لا يحزنون على نقص شيء، فالقرآن الكريم بيّن في موضع آخر هذا المطلب، بأن هذه صفة أهل الجنة الذين عندما يدخلونها يشكرون الله تعالى على ذهاب الحزن، فيقولون “الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن”. واتضح من هذا أن شيئا من الحزن ضروري للبشر، إلا من أقام صلته مع الله تعالى وأتقنها. لله درّ الشيخ عزيز الحسن مجذوب حيث قال: جو بچنا هو غمون سی آپ كا دیوانه هوجائی
“الذي نجا من الأحزان يكون مجنونا لك”.
معنى نفي الخوف والحزن من أولياء الله تعالى في هذه الآية أن حزنهم وخوفهم لن يكونا لأجل مشقة من مشقات الدنيا أو فقد مطلوب من مطالبها، لكن نصيبهم من فكرة الآخرة و حزنها وهيبة الله وعظمته عندهم أكثر من الجميع. لذلك ورد في خصائص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كان دائم الفكرة حزينا. ولم تكن هذه الفكرة والحزن بسبب الخوف على زوال نعمة مادية أو الابتلاء بمصيبة، بل كان بسبب هيبة الله تعالى وعظمته وأحوال الأمة.
ولا يلزم من هذا أن لا يكون على الأنبياء والأولياء خوف حسب طبيعتهم البشرية من الأشياء التي تعتبر مخيفة في الدنيا، لأن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام لما تبدلت العصا أمامه إلى ثعبان، ذكر القرآن الكريم خوفه حيث قال: “فأوجس في نفسه خيفة موسى” لأن في الابتداء كان هذا الخوف الطبعي والفطري موجودا، لكنه زال تماما عندما قال الله تعالى: “لا تخف”.
يمكن أن يقال أن خوف سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام لم يكن كخوف عامة الناس من أن يصيبه الثعبان بسوء، بل كان خوفا من أن يقع بنو إسرائيل في الضلالة، وكان نوعا من أنواع الخوف الأخروي.
في الآية الأخيرة “والذين كفروا” صرح بأن مأوى الذين لا يتبعون التعاليم التي أنزلها الله تعالى يكون جهنم للأبد، والمراد من هذه الجماعة هم الكفار الذين ينكرون هذا الهدي اعتقادا وإتباعا، أما المؤمنين الذين يعتقدون هذا الهدي هديا إلهيا ولكن كانوا عصاة في العمل، فهؤلاء مهما بلغت معاصيهم سوف يخرجون من جهنم بعد ما ذاقوا جزاء معاصيهم. والله أعلم

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات