اليوم :28 March 2024

دلائلنا في عدالة الصحابة رضي الله عنهم

دلائلنا في عدالة الصحابة رضي الله عنهم

إن العدالة التى يثبتها أهل السنة والجماعة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم – لم يعطوها هبة لهم من عند أنفسهم – بل العدالة ثابتة لهم جميعاً بنص الكتاب العزيز, والسنة الشريفة – سواء منهم من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن هاجر ومن لم يهاجر، ومن اشترك فى الغزوات ومن لم يشترك ، ومن لابس الفتنة ومن لم يلابسها – فهذه العدالة لهم جميعاً، تضافرت عليها الأدلة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة والإجماع والعقل السليم المجرد عن التعصب والهوى. وهذه الأدلة الكثيرة تجعل عدالة الصحابة من  مسائل العقيدة القطعية، أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة.

أولا: أدلة القرآن الكريم على عدالة الصحابة رضي الله تعالى عنهم:

لقد وصف رب العزة صحابة رسول الله بالعدالة وأثنى عليهم فى آيات يطول ذكرها منها ما يلى :
1- قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة أن وسطاً بمعنى “عدولاً خياراً”، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص، وقيل : “إنه وارد فى الصحابة دون غيرهم”.
2- وقوله تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ووجه دلالة هذه الآية على عدالة الصحابة أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها ، وأول من يدخل فى هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول ، وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، وذلك يقتضى استقامتهم فى كل حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ، ومن البعيد أن يصفهم الله بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة ، وهل الخيرية إلا ذلك ؟
كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً – أى عدولاً – وهم على غير ذلك ، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق ، وأنهم وسط أى عدول بإطلاق.
وهكذا سائر الآيات التى جاءت بمدحهم، قال تعالى : {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فالصادقون هم المهاجرون، والمفلحون هم الأنصار، بهذا فسر أبو بكر الصديق، هاتين الكلمتين، من الآيتين، حيث قال فى خطبته يوم السقيفة مخاطباً الأنصار:”إن الله سمانا (الصادقين) وسماكم (المفلحين)،وقد أمركم أن تكونوا حيثما كنا ، فقال : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}.
فهذه الصفات الحميدة فى هاتين الآيتين كلها حققها المهاجرون والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتصفوا بها، ولذلك ختم الله صفات المهاجرين بالحكم بأنهم صادقون ، وختم صفات الذين آزروهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم بالحكم لهم بأنهم مفلحون0
وهذه الصفات العالية لا يمكن أن يحققها قوم ليسوا بعدول.
وحتى الآيات التى جاء فيها عتاب لهم أو لبعضهم شاهدة بعد التهم، حيث غفر الله لهم ما عاتبهم فيه وتاب عليهم. قال تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }وتأمل ختام العتاب “إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” وهل بعد مغفرة الله من شيء؟!
وقال تعالى :{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وتأمل ختام الآية “إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”.
وغير ذلك من الآيات الشاهدة بمغفرة الله تعالى لهم لما ارتكبوا من بعض المعاصى.
إن تلك الآيات التى جاء فيها عتاب للصحابة أو لبعضهم لارتكابهم بعض المعاصى، لخير دليل شاهد على ما سبق ذكره، من أن المراد بعدالتهم جميعاً عصمتهم من الكذب فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى عدالتهم عصمتهم من المعاصى أو من السهو أو الغلط، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم وحتى مع ارتكاب بعضهم لبعض الذنوب، فقد امتن الله تعالى عليهم بالتوبة والمغفرة لذنوبهم.
وما هذه المنة من ربهم إلا بيان لعباده مؤمنهم وكافرهم إلى قيام الساعة؛ بعظم مكانة من اختارهم لصحبة سيد أنبيائه ورسله، وأن التجريح والقدح فى تلك المكانة والعدالة إنما هو تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!!ونعوذ بالله تعالى من الخذلان .
3- يقول الله عز وجل : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًاِ } الفتح : 18
قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما : كنا ألفا وأربعمائة .
فهذة الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم ، تزكية لا يخبر بها ، ولا يقدر عليها إلا الله . وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم ، ومن هنا رضي عنهم، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر ؛ لأن العبرة بالوفاة على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام.
ومما يؤكد هذا ما يثبت في صحيح مسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد ؛ الذين بايعوا تحتها”. قال ابن تمية رحمه الله تعالى : “والرضا من الله صفة قديمة ، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجات الرضا – ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً – فكل من أخبر الله عنه أنه رضي الله عنه فإنه من أهل الجنة ؛ وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح ؛ فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له ، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك ” .
وقال ابن حزم : “فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم ، ورضي عنهم ، وأنزل السكينة عليهم ، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم أو الشك فيهم البتة”.
4- قوله تعالى : }مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًاِ}الفتح : 29
قال الأمام مالك رحمه الله تعالى : ” بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة – رضي الله عنهم – الذين فتحوا الشام ، يقولون : والله لهؤلاء خير من الحوارين فيما بلغنا . وصدقوا في ذلك ؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة ؛ ولهذا قال سبحانة وتعالى هنا : {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}.
ثم قال : }وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ{ أي : فراخه . }فَآزَرَهُ{ أي : شده .
} فَاسْتَغْلَظَ { أي : شب وطال . } فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ { أي فكذلك أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آزروه وأيدوه ونصروه ، فهو معهم كالشطء مع الزراع ليغيض بهم الكفار .
وقال ابن الجوزي : “وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور”.
5 – قوله تعالى : } وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ التوبة : 100
والدلالة في هذه الآية ظاهرة . قال ابن تيمية : ” فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان . ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان ” . ومن اتباعهم بإحسان الترضي عنهم والاستغفار لهم .
6- قوله تعالى : } لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى { الحديد : 10
والحسنى : الجنة . قال ذلك مجاهد وقتادة .
واستدل ابن حزم من هذه الآية بالقطع بأن الصحابة جميعًا من أهل الجنة لقوله عز وجل : } وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى { .
7- قوله تعالى :
} لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{التوبة : 117
وقد حضر غزوة تبوك جميع من كان موجوداً من الصحابة ، إلا من عذر الله من النساء والعجزة . أما الثلاثة الذين خُلَفوا فقد نزلت توبتهم بعد ذلك .

ثانياً : دلالة السنة المطهرة على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين :
لقد وصف النبى أصحابه بالعدالة، وأثنى عليهم فى أحاديث يطول تعدادها منها :
1- قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب”. ففى هذا الحديث أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ، ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم أحد غير عدل، لاستثنى فى قوله عليه السلام وقال : “ألا ليبلغ فلان منكم الغائب”، فلما أجملهم فى الذكر بالأمر بالتبليغ لمن بعدهم، دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله شرفا.
2- وقال صلى الله عليه وسلم : “خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِم يَمِيَنهُ ويَميِنُهُ شَهَادَتَهُ” وهذه الشهادة بالخيرية مؤكدة لشهادة رب العزة : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
3- وقوله صلى الله عليه وسلم : “النجومُ أَمنةٌ للسماءِ، فإذا ذهبتِ النجوُمِ، أَتى السماءَ ما تُوعدُ، وأَنا أَمَنةٌ لأَصْحَابى فإذا ذهبتُ أَتَى أَصْحَابِى ما يُوعدونَ، وأَصْحَابى أَمنةٌ لأُمَّتِى، فإِذا ذهب أصحابى أتى أُمِتى ما يُوعَدُون”.
4- وقال صلى الله عليه وسلم : “إن الله اختار أصحابى على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار لى من أصحابى أربعة أبا بكر، وعمر وعثمان، وعلياً فجعلهم أصحابى قال فى أصحابى كلهم خير، وأختار أمتى على الأمم، وأختار من أمتى أربعة قرون، القرن الأول والثانى والثالث، والرابع”.
وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
ويؤكد ابن مسعود ما سبق من الآية والحديث قائلاً : “إن الله نظر فى قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه “.
يقول الإمام الآمدى : ” واختيار الله لا يكون لمن ليس بعدل “.
5- وقال عليه الصلاة والسلام : “لا تسبوا أصحابي لا تَسُبُّوا أصحابى : فوالذى نفسى بيده! لو أن أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذهباً، ما أَدركَ مُدَّ أَحَدِهِم، ولا نَصِيَفهُ”.
يقول الصحابى الجليل سعيد بن زيد بن عمرو، أحد العشرة المبشرين بالجنة لما سمع رجلاً من أهل الكوفة يسب رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “… والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل من عمل أحدكم ، ولو عمر عمر نوح عليه السلام “.
يقول فضيلة الشيخ محمد الزرقاني – رحمه الله – “فأنت ترى من هذه الشهادات العالية فى الكتاب والسنة، ما يرفع مقام الصحابة إلى الذروة ، وما لا يترك لطاعن فيهم دليلاً، ولا شبهة دليل والواقع أن العقل المجرد من الهوى والتعصب، يحيل على الله فى حكمته ورحمته، أن يختار لحمل شريعته الختامية، أمة مغموزة، أو طائفة ملموزة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة طبقة الصحابة ، يعتبر دفاعاً عن الكتاب، والسنة، وأصول الإسلام من ناحية، ويعتبر إنصافاً أدبياً لمن يستحقونه من ناحية ثانية، ويعتبر تقديراً لحكمة الله البالغة فى اختيارهم لهذه المهمة العظمى من ناحية ثالثة0
كما أن تَوْهِينهم والنيل منهم، يعد غمزاً فى هذا الاختيار الحكيم، ولمزاً فى ذلك الاصطفاء والتكريم، فوق ما فيه من هدم الكتاب، والسنة، والدين”.
6- عن أبي سعيد قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبه خالد . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” لا تسبوا أحداً من أصحابي ؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه “. رواه البخاري ومسلم
قال ابن تيمية في الصارم المسلول : وكذلك قال الإمام أحمد وغيره : كل من صحب النبي – صلى الله عليه وسلم – سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به ، فهو من أصحابة ، له من الصحبة بقدر ذلك .
فإن قيل : فِلمَ نَهى خالداً عن أن يسب إذا كان من أصحابه أيضاً ؟ وقال : ” لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ” ؟
قلنا : لأن عبدالرحمن بن عوف ونظراءه من السابقين الأولين ، الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا ، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا ، وكلا وعد الله الحسني . فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ، ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل . فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله . ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه ، كنسبة خالد إلى السابقين ، وأبعد .
7- قال – صلى الله عليه وسلم – لعمر : ” وما يدريك ، لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم “. رواه البخاري ومسلم .
قيل : ” الأمر في قوله : ( اعملوا ) للتكريم . وأن المراد أن كل عمل عمله البدري لا يؤاخذ به لهذا الوعد الصادق ” . وقيل : ” المعنى أن أعمالهم السيئة تقع مغفورة ، فكأنها لم تقع ” .
وقال النووي : ” قال العلماء : معناه الغفران لهم في الآخرة ، وإلا فإن توجب على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا . ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد . وأقامه عمر على بعضهم – قدامة بن مظعون قال: وضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – مسطحاً الحد وكان بدرياً “.
وقال ابن القيم : ” والله أعلم ، إن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم ، بل يموتون على الإسلام ، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارف غيرهم من الذنوب ، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها ، بل يوفقهم لتوبة نصوح استغفار وحسنات تمحو أثر ذلك ، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم ، لأنه قد تحقق ذلك فيهم ، وأنهم مغفور لهم . ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم ، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة . فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاه ولا جهاد وهذا محال “
8- عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ” . قال عمران : ” فلا أدري ؛ أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً “. متفق عليه
9- عن أبي موسى الشعري ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” النجوم أَمَنَـةُ للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون ، وأنا أَمَنَـةُ لأصحابي ، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يُوعَدُون ، وأصحابي أَمَةٌ لأمتي ، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدُون “. رواه مسلم
10- عن عمرو بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” أكرموا أصحابي ؛ فإنهم خياركم ” وفي رواية أخري : ” احفظوني في أصحابي ” .
11 – عن واثاة يرفعه : ” لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصحبني ، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأي من رآني وصاحبني ” .
12- عن أنس رضي الله عنه ، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ” آية الايمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار “.
وقال في الأنصار كذلك : ” لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ” .
وهنالك أحاديث أخرى ظاهرة الدلالة على فضلهم بالجملة .
أما فضائلهم على التفصيل فكثيرة جداً. وقد جمع الإمام أحمد رحمه الله في كتابه ” فضائل الصحابة ” مجلدين ، قريباً من ألفي حديث وأثر . وهو أجمع كتاب في بابه.

ثالثا:

الإجماع على عدالتهم ممن يُعْتَد به من أهل السنة والجماعة، ولا عبرة بخلاف المعتزلة والخوارج وغيرهم من المبتدعة .
وهذا الإجماع من أهل السنة عام في جميع الصحابة، ولا فرق في هذا بين مَنْ لابَسَ الفتن ومن لم يُلابسها؛ إحسانا للظن بهم ، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، واللّه أعلم .

رابعا:
إذا كان يكتفى في التعديل بإخبار الواحد منا وتزكيته مع أنه لا يعلم عن المزَكَّى إلا بعض الظواهر، ومع عدم عصمة المزكِّي من الكذب ، فكيف لا نكتفي بتزكية الله  علام الغيوب ، وتزكية النبي صلي الله عليه وسلم ، واللّه قد علم ، وأطلع نبيه على علمه بما سيقع بين الصحابة من فتن وحروب ، ومع ذلك كانت التزكية للجميع .

خامسا:
إذا كان المشتهر بالإمامة في العلم والدين – كأبي حنيفة ومالك والشافعي والبخاري وأمثالهم – لا يحتاج إلى التعديل أو البحث عن حاله ، باتفاق العلماء، فإن الصحابة أولى بذلك ، لما عرفوا به من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأولاد ومفارقة الأوطان والأموال ، في سبيل نصرة دين الله  ، ولما اشتهروا به من نشر العلم وفتح البلاد والاشتداد في أمور الدين حتى لا تأخذهم في الله لومة لائم ، فهم أحق وأولى بعدم الحاجة إلى التزكية أو الكشف عن أحوالهم ، لأنهم أفضل من جميع المعدِّلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين .
ويرحم الله الحافظ أبا زرعة الرازي الذي قال : “إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول صلي الله عليه وسلم عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القران والسنن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ، ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة”.

خلاصة ما سبق

نستنتج من العرض السابق للآيات والأحاديث ما يلي :
أولاً : إن الله عز وجل زكى ظاهرهم وباطنهم ؛ فمن تزكية ظواهرهم وصفهم بأعظم الأخلاق الحميدة ، ومنها
} أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ { الفتح : 29
} وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{الحشر : 8
}وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ{ الحشر : 9
أما بواطنهم ، فأمر اختص به الله عز وجل ، وهو وحده العليم بذات الصدور . فقد أخبرنا عز وجل بصدق بواطنهم وصلاح نياتهم ، فقال على سبيل المثال :
} فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ { الفتح : 18
} يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ { الحشر : 9
} يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا{ الفتح : 29
} لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ { التوبة : 117
فقد تاب عليهم سبحانه وتعالى ؛ لما علم صدق نياتهم وصدق توبتهم . والتوبة عمل قلبي محض كما هو معلوم … وهكذا .
ثانياً : بسبب توفيق الله عز وجل لهم لأعظم خلال الخير ظاهرًا وباطنًا أخبرنا أنه رضي عنهم وتاب عليهم ، ووعدهم الحسنى .
ثالثاً : وبسبب كل ما سبق أمرنا بالاستغفار لهم ، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بإكرامهم ، وحفظ حقوقهم ، ومحبتهم . ونُهينا عن سبهم وبغضهم، بل جعل حبهم من علامات الإيمان ، وبغضهم من علامات النفاق .
رابعاً : ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن يكونوا  جميعهم عدولا، وأمانًا لهذه الأمة . ومن ثم يكون اقتداء الأمة بهم واجبًـا ، بل هو الطريق الوحيد إلى الجنة : ” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ” . رواه أحمد وأصحاب السنن.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات