إن الإسلام دين إلهي يعطي صاحبه روحاً جديداً وحيوية جديدة، ويجعل من الإنسان الغافل اللاهي الجاهل، إنساناً متيقظاً حياً عالماً لما يعرف قيمة الحياة، ويتعرف بوحدانية الله تعالى وبربوبيته، ويجعل نفسه تابعاً لأوامر الله تعالى.
فالإنسان الذي تعرف على الله تعالى، وعرف نفسه وأنه عبد أنعم الله عليه شآبيب النعم وأغدقها عليه بلا من ولا أذى، وتيقن سر الحياة، واستمتع بالروحانية المشرقة في قلبه وروحه، واطمأن إلى ملاذ الحياة الدينية، فهو إنسان حقيقي بجميع معانيه، فلايهتم بالجسم الذي هو على وشك البلى فقط ويهمل الروح، ولا يسترسل في الأمينات الواهية الخادعة والشهوات المردية اللاذعة، ولا يميل إلى الدنيا الفاني فقط ولا يتهالك فيها، بل يرمي إلى حسنة الدنيا والآخرة ويقصد بدنياه الآخرة.
إن الصحابة رضي الله عنهم قبل أن تشرق شمس الإسلام في قلوبهم وقبل الدخول في ظلال الإسلام الوارفة ودوحته الخالدة كانوا في همجية شنعاء وتناحر وتقاتل وتزاحم في عبادة الأصنام والأوثان، أضنتهم العصبية الجاهلية وشلت قواهم تحت وطأة الأنانية وضغوطها،حتى لم تبق في قلوبهم رحمة بالنسبة إلى الآخرين بفضل المعتركات الدائمة والصراعات العنيفة، وكان جل مرماهم أن يظفروا بالعدو الذي ليس هو إلا إنسان من مواطنيه، تفارق بينهم القبلية فيفتكوا به ويقتلوه على رؤوس الأشهاد فيفتخروا فخراً جاهلياً.
هذه كانت صورة من صور حياتهم المليئة بالمشاكل، ومع هذا لا ينكر فضلهم وتقدمهم في بعض الصفات البارزة مثل إكرام الضيوف والسخاء والتقيد بالعهود والمواثيق وصفاء الفطرة وخلو الذهن عن الديانات الأخرى وغيرها.
فلما دخلوا في دين الله تغيرت حياتهم وحسنت حالاتهم وأشرقت شمس الإسلام بالرحمة المهداة من جانب الله عليهم، وغربل صفاتهم وحالاتهم غربلة كاملة وجعلهم يطلون على الدنيا من نافذة الآخرة، وتبدلت عصبيتهم بالرحمة، وازدانت حياتهم بالعلم والهداية الإلهية، وتوطدت صلات قلوبهم بالله تعالى، وصاروا كما وصفهم الله تعالى: «اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها» [الآية[
لقد ذكر التاريخ الإسلامي وسير رجال الإسلام الأولين نماذج رائعة من خصائصهم السامية بما يدهش القارئين على مر الأعصار والدهور. إنهم قدموا روائع من الإخلاص في العمل والإيثار والجهاد في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته والعبادة بين يدي الرب، إلى أن قيل في حقهم أنهم «رهبان الليل وفرسان النهار». والمثابرة على طلب العلم، وضبط النفس وشهواتها، والورع والصبر والحلم والعدل، والتعامل بالرفق مع الأعداء، وكذلك قد صور التاريخ صوراً كثيرة وأثبت عن الإسلام أنهم يرحمون على الحيوان. وهذه نماذج منها:
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لصق بطنه فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة» [رواه ابوداود وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان وصححه).
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» [رواه مسلم[
رأى عمربن الخطاب رجلاً يسحب شاة من رجلها ليذبحها فقال: “ويلك، قدمها إلى الموت قوداً جميلاًَ” [مصنف عبدالرزاق عن بن سيرين (8605[(
إن رسالة الإسلام الخالدة تشمل الإنسان والحيوان والمسلم والكافر والمواطن والذمي والصغير والكبير، ولابد أن يدركها المسلم في حياته وأن يعيش بها، وأن يحب النور والهداية للآخرين كما يحبها لنفسه، وأن يأتسى بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في جميع أموره.
أرسل بعض قواد المسلمين إلى أبي بكر رضي الله عنه ـ وهو خليفة ـ بصّرة فوجد فيها رأساً، ومعها رسالة تفيد أنها لأحد الأعداء الكبار، فأنكر ذلك أبوبكر، فقالوا له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنهم يفعلون بقادتنا أي يبعثون برؤوسهم إلى ملوكهم وأمرائهم. فقال أبوبكر بلهجة حازمة: آستنان بفارس والروم؟ والله لا يبعث إلي برأس بعد اليوم! إنما يكفي الكتاب والخبر. [رواه عبدالرزاق في المصنف والبيهقي في السنن 9/132[
إن الأمر الهام الذي نلحظه في العالم المعاصر، والذي أوقع الإنسان الغافل اللاهي في الخطوب، هو غفلته ولهوه وغيه وابتعاده عن القيم الإسلامية، فهذا هو الداء الذي أقض مضجعه وأرقه وتركه على أحر من الجمر، فإنه لا يعرف لحياته مغزى ولا يتنحى إلى طريق راشد، فإنه صار ويصير هو ومن كان على شاكلته عبيد ساعته الراهنة ورفيق ظروفه القاتمة. يستعصي على القانون الديني ويغمض العين على مآسي الآخرين وأحزانهم، بل كثيرا ما يسبب الأزمات الفاتكة والظلمات الحالكة لهم كما يفعل الوحوش الضارية بل أشد منهم وأكثر بكثير.
فبهذا السبب الرئيسي ألمت على الإنسانية البئيسة الخطوب وهجمت عليه المآسي والملمات، فغزي عبر التلفاز وعن طريق وكالات الأنباء وفي الراديو وعلى صفحات الجرائد والمجلات أنواعاً وألواناً من مساوئ الإنسان للإنسان والاضطهاد وهضم الحقوق، فنرى القلب المفجوع والروح المنهكة والنفس الحزينة البائسة. فكيف يكون العالم أمناً وسلاماً، وكيف يستطيع الإنسان أن يصارع الأحداث ويقاوم الملمات وينازل الخطوب ولا يستسلم أمام كتائب الأحزان وقد ابتعد عن الدين الإلهي ـ الإسلام ـ ابتعادا كبيراً، وألقى بنفسه في هاوية الذلة والهجمية، لا هم له ولا غم إلا شهوته العادمة ونهمته المتزايده.
إن الإنسان إذا كان مطيعاً لأوامرالله تعالى الذي يدبر أمور السموات والأرض، وداخلاً في حظيرة الإسلام فهو قد فتح باباً إلى السماء، فهو يعيش بنور إلهي، وبهذا النور تنقشع سحب الخوف والهم وتزاح جبال الكرب والأسى، ويستطيع الإنسان أن يجد لذة الحياة، وأن يشم روائح السعادة في كل حين من أحيانه، لأن الإسلام يضمن له حياة مليئة بالسعادة والسرور إذا كان مؤمناً حقاً.
إن الإسلام إذا امتزج بلحم المؤمن ودمه ووقر في صدره، وهذا المؤمن الواعي إذا كان على بصيرة برسالة الإسلام فهو يصمد أمام الباطل صمود الصخرة الصماء أمام قطرات السماء، والجبال الشم أمام العواصف الهائجة، فلا تصعب به الأهواء، بل هذا الإنسان يكسب قوة منيعة بفضل الإسلام فوق جميع القوى والطاقات، ويكافح الذل والهوان، ويسعى لإنقاذ البشرية من غلبة المادة الفانية وأسر الهوى والشهوات، ويربطه بالقانون الإلهي وهو في الحقيقة طريق السعادة الأبدية والفوز الدائم.
فالمسلم ذا رسالة سامية في جميع المراحل، فهو في بيته له رسالة لابد أن يتعهدها ويحافظها عليها، وفي سوقه ذا رسالة لابد أن يتعامل بها مع الآخرين، وأن يكون صادقاً وسالماً من شوائب الكذب والريبة. وهو في يومه وليلته له رسالة لابد أن يلازمها هو في الحضر والسفر ذا رسالة ومسئولية. فهو في جميع المراحل لابد أن يكون إنساناً متمثلاً برسالة الإسلام الخالدة، ولا بد أن يعيش بها وأن يموت عليها.
“قلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” ولكن المسلم الذي لا يعرف عن رسالة الإسلام شيئاً ولا يتحمس لها، فهو جامد جاحد لا صبغة للإسلام عليه، فهو لا يعرف نفسه ومهمته فضلاً أن يكون ذا رسالة هادفة إلى غيره، فهو في وحشة الظلام. وياترى هل تهتدي في وحشة الظلمات إلى طريق سوي؟!
إذا كان الإنسان مؤمناً بالله تعالى ومصدقاً بنبيه الحبيب صلى الله عليه وسلم وخبيراً بأن الإسلام له رسالة سامية، فلابد أن يتقدم إلى إقامة هذا الصرح بخطى متسارعة، وأن يبذل الغالى والنفيس في تحقيق هذا الأمل المنشود، وأن يقوم بها قوة وبسالة، ولابد أن يبادر إلى تاصيل الشرائع في نفسه وتعديتها إلى الآخرين.
إن المؤمن الذي يرى النور والسعادة والهناء ويتلمسها في حياته، فكما أنه يحبهما لنفسه، لابد أن يحبها للبشرية وأن يبذل قصاري جهده لتعميم هذه المكارم والأمجاد. وإذا رأى أن البشرية قد وقعت على شفا جرف هار عسى أن تنهار به في نار الدنيا والآخرة، فلابد أن يكون بشيراً ونذيراً، وأن يحاول حقيقة كي يحقق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون. وهذا الإنسان الإلهي لا تردعه عن رسالته ومهمته العقبات العائقة والموانع الردعة، ولا ينزجر من القر والصر، بل هو على يقين أن الله تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
الكاتب: الشيخ عبداللطيف الناروئي أستاذ بجامعة دار العلوم زاهدان
تعليقات