مرت تقریبا عشرة أشهر على نهاية احتلال الولايات المتحدة والقوى الغربية لأفغانستان الذي دام 20 عاما، ولقد انتقلت السلطة بعد انسحاب قوات الاحتلال من أفغانستان، إلى الإمارة الإسلامية التي تحكم البلد بنظام جديد وبرامج وسياسات جديدة.
في الحوار الطويل الذي تم إجراؤه مع فضیلة الشیخ عبدالحمید في هذا الشهر (ذي القعدة 1443)، قام فضيلته في ضوء الآيات والأحاديث والمصادر الإسلامية، بتقديم اقتراحات ورؤی استراتیجیة وتوصيات لمسؤولي “إمارة أفغانستان الإسلامية”، تکون نافعة ومفیدة في سبل نجاح النظام الجديد في إدارة هذا البلد الإسلامي.
وأهمّ ما جاء في هذا الحوار:
التحلي بسعة الأفق في تطبيق الدین الإسلامي یجعله سهلا ومقبولا لأحرار العالم
أشار فضيلة الشيخ عبد الحمید، إمام وخطیب أهل السنة بمدینة زاهدان في إیران، إلی أهمية سعة النظر في تطبيق الدین الإسلامي قائلا: إنّ في الدین الإسلامي سعة بحیث إذا تم مراعاة هذه السعة بشکل صحیح فإن الإسلام یمکن أن یقود البشریة و یرشد العالم.
وتابع مدير دارالعلوم بمدینة زاهدان: عندما نريد أن نقدم الإسلام للعالم في عصرنا الحالي، يجب أن ننظر إلى العالم المعاصر وظروفه، ويجب أن نطبق الإسلام والعدالة بطريقة يقبلها البشر الأحرار والواقعيون، ويكون مؤثرا في العالم.
وأضاف قائلا: كل من يريد تطبيق دين الإسلام في العالم يجب أن یبتعد عن التعصب العرقي والديني، وأن ینظر إلی أصل الإسلام، وأن تكون له رؤية واسعة، وأن يكون قادرا على التسامح مع الآخرين. تختلف أفكار الشعب من فرد إلى آخر، فيجب أن نوسع نظرتنا ونراعي حقوق الجميع، ونستخدم المؤهلین والأکفاء من مختلف العرقيات والمعتقدات في جمیع الدوائر.
أحسن الحکومات هي التي یتحمل مسؤولوها «الجوع» و«الصعوبات» من أجل راحة الشعب
وأضاف فضیلة الشیخ عبد الحمید بعد تلاوة آية: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» قائلا: علی الدول والحکومات أن تلتزم بمحورین: المحور الأول هو «الله»، والمحور الثاني هم «الشعب»، فحفظُ الله یکون بالحفاظ علی التقوی وخشیة الله تعالی، وأحسن حکومة ودولة هي التي یعیش الناس في کنفها مرتاحین هادئین وهم یُحظون بکامل حقوقهم، وأحسن حکومة هي التي یتحمل مسؤولوها الجوع والصعوبات لأجل أن یشبع الناس، والمسؤولون الذین فیهم هذه الصفات هم خلفاء الاسلام حقا وهم من العاملین بهدي الرسول صلی الله علیه وسلم.
وأضاف مدير جامعة دار العلوم زاهدان، قائلا: على مسؤولي الحكومات أن يكونوا متواضعين أمام شعوبهم وأن يستمعوا إليهم. كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلی الجميع حتى أن المنافقين كانوا يقولون: «هُوَ أُذُنٌ» وخاطبه الله تعالى بقوله : «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» وهکذا کانت سیرة الرسول صلی الله علیه وسلم.
الفتوی تتغيير حسب الظروف والأزمان باتفاق المذاهب
وتابع خطيب أهل السنة بمدینة زاهدان قائلا: هناك نصوص قطعیة وآیات صریحة، وما جاء في القرآن والسنة بوجه صریح لا یمکن لأحد تغییرها أو المساس بها، لأنها ثابتة بالوحي، ولکن الکثیر من الأحکام لم یرد بخصوصها نص صریح في القرآن والسنة، وهذا النوع من الأحکام من اجتهادات العلماء، فالعلماء والمجتهدون في کل عصر وزمان استنبطوا الأحکام التي لم یرد فیها نص وفق اجتهاداتهم مع رعایة أصول وقواعد الاجتهاد والاستنباط، وعلی هذا فإن المسائل التي اختلفت المذاهب فیها هي مسائل اجتهادیة.
وأضاف قائلا: أحد أهم فوائد الاجتهاد في الإسلام أن الله تعالی یرید أن یستخدم الانسان عقله، فیفکر العلماء ویجتهدوا، ومن أهم فوائد الاجتهاد أیضا أن یُنظر إلی الظروف والأمور المتعارفة، فهناك أحکام أفتی العلماء بخصوصها وفق أعصارهم وظروفهم، وإذا اختلفت الظروف اختلفت الفتاوى، واتفقت المذاهب الإسلامیة علی أن الفتوی تتغیر بتغیر الظروف والزمان.
وقال مدير جامعة دارالعلوم زاهدان: إننا في عصر جدید ومختلف له حاجات وضرورات جديدة، وفي الواقع الذي نعیشه يمكن أن تتغير كثير من الفتاوى والأحكام الاجتهادية. يجب أن نأخذ حاجات عصرنا علی محمل الجد وأن نتصرف حسب الحاجة؛ هذه هي سعة دين الإسلام التي لا ينبغي تجاهلها، ولهذا تغيرت آراء الفقهاء في زمن الصحابة وأتباعهم، وانقسمت الآراء إلى “قول جديد” و”قول قديم”.
التدريج في تطبيق الشريعة في المجتمع أفضل طريقة
وتابع فضیلة الشیخ عبد الحميد قائلا: نقطة أخرى جديرة بالملاحظة أن أحكام الإسلام قد نزلت “تدريجياً”. طالب المشركون في مكة بأن يُنزل القرآن جملة واحدة مثل التوراة؛ “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً” [الفرقان: 32] ولكن الله تعالى لم یعجبه هذا الأسلوب، فأنزل القرآن بالتدریج. نزلت المسائل المتعلقة بـ “الإيمان” ثم “الصلاة” و”الزكاة” و”الصوم” و “الحج” وغيرها من الأحكام والواجبات على التوالي، ولم يتم الكشف عن المحظورات الشرعية دفعة واحدة؛ على سبيل المثال نزل تحريم الخمر تدريجيًا. كانت حكمة الله تعالى أن تُنزل أحكام الإسلام وأوامره ونواهيه تدريجياً، وكان هذا التدريج للأحكام والمسائل حتى يعمل الناس بها ولا يتعرضوا للضغط.
وأضاف قائلا: عندما نريد تطبيق أحكام الإسلام والشريعة الإسلامية في بلد مثل أفغانستان التي کانت محتلة لسنوات من قبل غير المسلمين الذين یحاربون تطبيق الأحكام الدينية، فمن الضروري أن نستخدم التدريج، ومراعاة قاعدة «الأَهَمّ فَالأَهَمّ». أسلوب التدريج في تطبيق أحكام الشريعة هو أفضل طريقة واستراتيجية.
وأضاف مدير جامعة دار العلوم زاهدان: لا ينبغي فقط أن لا نتجاهل النزول التدريجي للأحکام والواجبات في الإسلام، ولكن یجب أیضا أن ننتبه إلى أن جاهلیة العصر الحالي أشد وأخطر بكثير من جاهلیة بدایة الإسلام، فلهذا نحن بحاجة إلى التطبيق التدريجي للأحكام الإسلامية في المجتمع، ويجب أن نتصرف بطريقة لا يتعرض فيها الناس لضغوط كبيرة ويمكنهم تحملها.
وتابع قائلا: یجب أن نعرف أنّ أهل زماننا ليسوا كالصحابة ومسلمي زمن النبي صلى الله عليه وسلم. للأسف على الرغم من ادعاءاتنا الکثیرة، هناك عدد قليل جدًا من “المسلمين الحقيقيين” في المجتمع، وهناك قصور في العمل بأركان الإسلام، لذلك نحن بحاجة إلى العمل علی تقویم “الإیمان” و”الدیانة” لدی الناس، وتوفیر أرضیة اکتساب العلم، وتشجيع الناس على اتباع أوامر الشريعة، وسیعمل الناس بالشریعة عن قناعة ورضی.
أکد خطيب أهل السنة بمدینة زاهدان على الاجتناب من التشدد في تطبيق الأحکام، وتابع قائلا: لما کان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم یرسل سفراءه ورُسُلَه إلى المناطق کان ینصحهم قائلا: «يسِّرُوا وَلا تُعَسِّروا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا». نصيحتنا لمسؤولي الإمارة الإسلامية وشيوخ أفغانستان أن لا یشددوا علی الناس حتى لا تتوفّر أرضیة الاستغلال السيّء للأعداء.
في الإسلام لم يحدد للنساء ارتداء زيّ خاصّ / ينغبي على الإمارة الإسلامية العمل على «الرخصة» والأخذ بأسهل فتوی في حجاب النساء
وأشار فضیلة الشیخ عبدالحمید إلى قضية حجاب المرأة في أفغانستان، وتابع قائلا: في القضايا المتعلقة بالمرأة في أفغانستان، نصيحتي لمن یریدون تطبيق القانون وإصدار الأحکام علی الناس في قضیة ما، أن في المسائل التي يوجد فيها اختلاف بين العلماء، وتعددت التأويلات والفتاوى، يجب أن یؤخذ بأسهل الفتاوى وبالرخصة بدلاً من الأخذ بالعزیمة.
وأضاف قائلا: إن أفضل فتوى في تغطية الوجه وفرض الحجاب في دولة أو شعب فتوى الإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ و فتواه مبنية علی قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حیث يقول ابن عباس في تفسير قول الله تعالی: «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» أن المراد من “ما ظهر منها” هو «الوجه» و«الکفان»، لذلك يتفق جميع فقهاء الحنفية على أن الوجه واليدين ليست جزءًا من عورة المرأة؛ كما أن المرأة غير ملزمة بتغطية هذا الجزء من جسدها أثناء الصلاة.
وأضاف قائلا: طبعا هناك مسألة مهمة في قضیة الحجاب وهي أن العلماء أفتوا علی وجوب لبس وجه المرأة وکفیها، ليس لأن الوجه والکفین من العورة، ولكن أفتوا بالوجوب في حالة “الخوف من الفتنة” وبهذا استدلوا، ولكن من الأفضل في رأیي أن أحسن حل هو أن إمارة أفغانستان الإسلامية وأي دولة إسلامية أخرى، يجب أن تستخدم نفس فتوی ابن عباس رضي الله عنهما والإمام أبي حنيفة رحمه الله كـ “قانون” وألا تجعل تغطية “الوجه” ضروريا في “القانون”، بل ینبغي تشجيع النساء علی تغطية الوجه، ولا تكلفهن بذلك.
وتابع خطيب أهل السنة قائلا: الإسلام لم يعيّن للمرأة لباسا خاصا، لكن يؤكد الاسلام علی ستر الجسد، لذلك لا يحق لأحد فرض شكل معين من الملابس على النساء، ويجوز للمرأة أن تغادر المنزل بدون زينة وبالحجاب الذي يغطي العورة، وأن لا تکون ملابسها ضيقة ورقيقة، وبهذا یجوز لها أن تلتحق بالمدارس والجامعات وتحضر الأماکن العامة.
علی الإمارة الإسلامية أن تفتح المدارس والجامعات أمام النساء دون تردد
وتابع فضيلة الشيخ عبد الحميد كلمته بالإشارة إلى أهمية التعليم وتركيز الإسلام عليه، بما في ذلك تعليم المرأة، و تابع قائلا: لا يقبل علماء العالم الإسلامي ولا المسلمون وغير المسلمين أن نتردد في تعليم المرأة، لأنه لا توجد في القرآن والسنة قيود على تعليم المرأة.
وأضاف قائلا: كان علم جميع نساء المدينة المنورة في جانب وعلم أم المؤمنین عائشة رضي الله عنها في جانب. روت سیدتنا عائشة الصديقة رضي الله عنها حوالي 2210 حديثا، فلو لم ترو عائشة وغيرها من الأزواج المطهرات هذه الأحاديث، لظل الكثير من الأمور مخفيا عن الأمة، لذلك نطلب من أحباءنا في الإمارة الإسلامية فتح المدارس والجامعات أمام النساء دون أدنى شك.
ینبغي عقد مؤتمرات حول “حقوق الإنسان في الإسلام” بمشاركة العلماء والمفكرين
وقال فضیلة الشیخ عبد الحميد في إشارة إلى تأكيد دين الإسلام على “احترام حقوق الإنسان”: اليوم تؤكد الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان على احترام حقوق الإنسان، بينما نعتقد أن دين الإسلام يؤكد على “رعایة حقوق الإنسان” أكثر من أي حضارة وثقافة أخرى، ويتقدم على الآخرين في هذا الصدد. اقتراحي للمسؤولين في إمارة أفغانستان الإسلامية هو عقد سلسلة مؤتمرات عن “حقوق الإنسان” في الإسلام، يشارك فيها علماء ومفكرو العالم الإسلامي.
وأضاف فضیلته قائلا: إذا عقد مثل هذه اللقاءات والمؤتمرات، فسيكون من الواضح أن هناك العديد من القواسم المشتركة بين العالم والدين الإسلامي فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وهذا سيقرب بعضنا من بعض. يجب أن نظهر للعالم أهمية الإسلام وتركيزه على مراعاة حقوق الإنسان.
علی مسؤولي الإمارة الاسلامیة التشاور مع علماء العالم الإسلامي في تشريع قوانین الدولة
وأشار فضيلة الشیخ عبد الحميد إلى أهمية وحساسية إدارة الدولة وقیادة الشعب، قائلا: يجب أن نلاحظ أن إدارة الدولة وقیادة الشعوب تختلف عن إدارة الأسرة والمدرسة والمعهد والجامعة.
وقال فضیلة الشیخ: يجب أن ينظر أحباؤنا في الإمارة الإسلامية إلی الکفاءة والأهلیة عند الاستخدام والتوظیف، لأنه من المهم للغاية أن يتم توظيف المؤهلين من جميع العرقيات والأديان، ومن المهم التشاور مع علماء العالم الإسلامي في تشريع القوانين، والاستفادة من آرائهم، واختيار أفضل الآراء التي تكون سببا للرحمة والأمان وتکون أكثر قبولاً عند الناس.
ینبغي حلّ مشكلات أفغانستان من خلال الحوار والتفاوض
وأكد فضيلة الشیخ عبد الحميد على حل المشكلات ومتابعة المطالب في أفغانستان من خلال “التفاوض والحوار” و تابع قائلا: إن نصيحتنا النابعة عن الخیر والإخلاص لمسؤولي إمارة أفغانستان الإسلامية، أن يجلسوا مع المعارضین في الداخل والخارج، والاستماع إلیهم، والاستجابة لمطالبهم المشروعة، كما يجب على معارضي الحكومة الأفغانية الجديدة، من جميع العرقيات والاتجاهات، متابعة وحل مشكلاتهم ومطالبهم من خلال “التفاوض والحوار”، لأن أفغانستان العزيزة أمضت سنوات عديدة في الحرب والصراع وانعدام الأمن، ولقد تحمل الشعب الأفغاني العديد من المصاعب والمتاعب على مر السنين، فلم یعد قادرا علی أن یتحمل المزيد من انعدام الأمن والحروب والصراعات الأهلية، فالحل الأفضل هو “الحوار والمفاوضات”.
المصدر: الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ عبد الحميد
تعليقات