إشارة: توفّي ظهر الإثنين 27 صفر 1443، الشيخ خدارحم الروديني، أحد أساتذة الحديث البارزين في جامعة دار العلوم زاهدان، عن عمر يناهز 86 عاما، بعد عنائه الطويل مع المرض.
كان الشيخ الروديني رحمه الله عالماً زاهدا ورعا، ولقد قضى معظم حياته في تعلم العلوم النبوية وتدريسها، وتحمّل شدائد في سبيل تحصيل العلم، وكانت لديه مهارات وقدرات خاصة في مختلف المجالات العلمية.
ما بين أيديكم هو حصيلة حوار ممتع ومفيد مع هذا العالم الرباني والفيلسوف الخبير العلامة خدارحم الروديني، أجرته «مجلة نداء إسلام» الفارسية في عددها (65.66) ولما ألفيتُه محتويا على نقاط برّاقة، وتجارب قيّمة جاءت كحصيلة لمسلسل من الاجتهاد والرحلة والهجرة لأجل تحصيل العلم، وتجشّم المصاعب والمحن في هذا السبيل، قمتُ بنقله إلى العربية، حرصا في أن يستفيد منه قرّاء الضاد، خصوصا طبقة الطلاب والعلماء، أملا في أن يسهم في تنوير دربهم، ودفعهم إلى اكتساب العلم والمعرفة مهما كانت الظروف حالكة والأجواء قاسية. (المعرّب)
المقدمة
لا شك أن التعرف على حياة العلماء البارزين والنوابغ الموهوبين والشخصيات التي كرست حياتها في مسيرة تحصيل العلم والخطو نحو المعرفة، وتجرعوا كأس المصاعب والمحن في سبيل الوصول إلى قمة العلم والحقيقة، يشكل مصباحا على قارعة طريق الملل وبخاصة بالنسبة للأجيال المعاصرة، وطلاب وتلاميذ اليوم والغد. إن التعرف علی سير وتراجم هؤلاء العباقرة، يعطينا صورة حقيقية مشرقة، ويفتح أمامنا آفاقا جديدة واسعة، ويعرّفنا بحلول التقدم والرقي أكثر فأكثر، مقلّدا إيانا مفتاح باب النجاح الذي تم تشفيره بأيديهم.
في هذا المجال حالفنا التوفيق للقاء شخصية قد وقفت حياتها في طلب العلم أوّلا ونشره ثانيا، وفيما يلي حصيلة ساعتين للحوار الذي أجري مع العالم الرباني والفيلسوف العارف الأستاذ مولانا خدارحم حفظه الله.
ولد سنة 1314هـ.ش. الموافق 1935م. في أحدى القرى التابعة لسجستان الإيرانية في إسرة من القوم البلوش. وسجستان هذه أو زابل كما تسمى مدينة مترامية الأطراف تمتد حدودها إلى أفغانستان، حيث يقع جزء منها في أفغانستان، وهي تقع في شرقي إيران وشمالي محافظة بلوشستان، تشكل أغلبية سكانها البلوش من قبائل وطوائف مختلفة. وسجستان كما كانت منطلق رجال وشخصيات كبيرة في غابر الأزمان، أنجبت في العهد الحاضر أيضا خرجت شخصيات وعلماء بلوش، قدموا خدمات جليلة إلى المجتمع البلوشي وأهل السنة والجماعة في المنطقة.
وبإمكاننا أن نشير إلى واحد من هذه الشخصيات الكبيرة المؤثرة المعاصرة التي أنجبتها سجستان، وهو العلامة الفقيد الفقيه الشهير مولانا المفتي خدا نظر رحمه الله تعالى المفتي الأعظم بدار العلوم زاهدان سابقا، ومجموعة فتاواه جمعت في كتاب قيم تحت عنوان «محمود الفتاوى، فتاوى دار العلوم زاهدان» هذه المجموعة نتيجة مساعيه الطيبة، والتي قد بقيت منه كتذكار يشهد على علمه وتفوقه في الفقه، على مر الدهور.
الأستاذ الشيخ خدا رحم الروديني حظفه الله شخصية أخرى من هذه السلسلة، وهو من قضى أكثر من 30 سنة من عمره المبارك في التحصيل في أفغانستان وباكستان، بدأ التدريس عام 1352 هـ.ش. الموافق 1973م. في مدرسة «مطلع العلوم» الواقعة في مدينة سيبي لولاية بلوشستان بباكستان، ثم سافر إلى أفغانستان ومن هناك جاء إلى زاهدان.
اشتغل بالتدريس في مدرسة إشاعة التوحيد بزاهدان فترة من الزمن، ثم جاء إلى جامعة دار العلوم زاهدان، عام 1362 الموافق 1983م. إثر دعوة تلقاها من الشيخ الفقيد والعالم الرباني مولانا عبد العزيز رحمه الله مؤسس الدار ورئيسها سابقا، وفضيلة مولانا عبد الحميد حفظه الله مديرها الحالي. ومازال ينشط في هذا المركز الكبير للعلوم الإسلامية إلى اليوم، كأحد من الأساتذة القديمة المعمرة، وخلال العقود المنصرمة من النشاطات العلمية قام بتدريس كتب عديدة في فنون مختلفة بما فيه التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه، والكلام والعقيدة، والفلسفة والمنطق، والبلاغة والمعاني، والصرف والنحو وما إلى ذلك، وأروى غليل كثير من رواد العلم وطالبيه، وما ركز عليه في هذا الحوار هو تقارير عن حياته الحافلة بالتضحيات والتفاني، التي قضاها في التحصيل والرحلة والهجرة الطويلة في هذا المجال، التي تمخضت عن تجربة خاصة أصبحت نسيج وحده.
المولد والأسرة:
ولدتُ في فرع “ميان كنغي” التابع لمنطقة سجتان (في نطاق مدينة هيرمند الحالية) في قرية سهراب، وسهراب هذا الأخير والذي تعرف القرية باسمه هو كان عريف القرية وزوج عمتي. وبعد وفاته أصبح نجله عيدو الذي كان ابن عمتي، عريف القرية وكبيرها، وجميع سكان هذه القرية كان يجمعهم النسب والصهر.
أبي ما درس لكنه كان عاقلا حكيما وموضع الثقة في القرية، وكان متصلا بأولي الحل والقعد، أعيان الطوائف، يحب العلم حبا جما، وفهمه وذكاؤه وتجربته البالغة التي كان يحظى بها في مجال الفلكيات والنجوم قد مكنته من تكهن مسار الرياح والأمطار بشكل جيد صحيح، وذكراه الطيبة مازالت جارية بين أهل المنطقة والأقرباء.
كنت أبن خمس أو ست سنوات حينما انتقل أبي إلى رحمة الله في القرية نفسها، وبعد مضي مدة من الزمن هاجرت أمي من مسقط رأسنا نتيجة سوء الأوضاع المعيشية، وأخذنتا إلى أفغانستان حيث كانت الظروف مواتية نسبيا.
أيام الصبا الشاقة والشغف في تحصيل العلم
كنت أنطوي على رغبة شديدة وشغف كبير في تحصيل العلم، منذ نعومة أظفاري، لكن نظرا إلى أن أمي كانت أرملة، تعاني في توفير أبسط مقومات الحياة لنا كالطعام واللباس، لم أعد قادرا على اقتناء القاعدة البغدادية والدخول في الكُتّاب.
أترابي وأقراني كانوا يختلفون إلى المسجد صباح مساء، ويدرسون عند إمام المسجد، وبما أني لم أكن أملك كتابا لا أشترك في هذا الفصل، لكني كنت أذهب يوميا إلى حيث يكون الدرس، والجدار الصغير يمكّنني من التطلع إليهم وهم يدرسون، ملقيا نظرات ملؤها الحسرة والغبطة، إلى أن انتهى درس واحد منهم فناولني كتابه، وأتيحت لي فرصة الحضور في الفصل، وهكذا اتخذت الخطوة الأولى في سبيل العلم، وبعد مدة أنهيت تعلّم القرآن، ثم انتقلنا إلى مدينة “شخانسور” التابعة لولاية نيمروز، حيث تلمّذتُ على أئمة المساجد.
كان هذا العهد حينما خالفني أخي الكبير بشأن مواصلة الدراسة، قائلا: لا نرغب في أن تصبح «ملاّ» أما أنا فلم أحمل كلامه هذا، محمل الجد، ولما شاهد أني لا أقيم لكلامه وزنا، سدّ طريقي وأنحى عليّ ضربا، ورجحتُ الفرار على البقاء أخيرا عندما تأزم الوضع، وبلغ السكّين العظم، مهاجرا إلى منطقة أخرى تعرف ب “ميل كركي” واشتغلت بالدراسة في المسجد، ووفّقت هناك لقراءة عدة كتب بما فيها “كلستان”، و”بوستان”، و”بنج كتاب”، و”ديوان الحافظ”، و”تحفة النصائح”.
في هذه الفترة تجوّل أخي في القرى والأرياف القريبة بحثا عني، وكلّل سعيه بالنجاح أخيرا واطلع على مكاني، وصباح يوم من الأيام رأيته أقبل عليّ وهو يثور من الغضب ويفور، وخيّل إلي فجأة بأني رأيت عزرائيل، ها هو يهرول إليّ، حيث كان يأتي إليّ مشمّرا عن ساعديه، وفي يده العصا، وفذلكة القول أني تعرضتُ لضرب مبرّح، وسقتُ إلى البيت رغم أنفي، لكن ما كان يتدفق بداخلي من الغرام والهيام لمواصلة الرحلة العلمية، أفشل كافة محاولات أخي، فكان كلما اعترض على طريقي، رفعتُ العصا، طاويا بساط الإقامة في مكان آخر.
بعد مدة من الزمن غادرتُ “شخانسور” إلى “خاشرود” وأصبحت تلميذا لرجل فاضل يدعى آخوند ظاهر، وكان هو ابن عالم شهير في تلك المنطقة باسم مولوي جانان، والشيخ جانان قد كان شخصية علمية بارزة، وبقيت منه كتب وأمالي وآثار مخطوطة ذات وزن ومصداقية، في شتى العلوم والفنون، وكنت أذهب ليالي الجمعة إلى مكتبته الزاخرة العامرة بالكتب، وأستفيد من آثاره، مادمت مقيما بخاش رود، مما جعلني تأثرت جدا من علمه الغزير.
إلى قندهار
التقيت في “خاشرود” مع زميل لي كان يدرس في ولاية قندهار، فشجّعني على الذهاب إلى قندهار، ومتابعة الدراسة هنالك، وهكذا كان، فانطلقنا صباح يوم من الأيام، بعد صلاة الفجر نحو قندهار، وكان في خاشرود مقبرة كبيرة دفن فيها مولوي جانان الذي أسلفنا ذكره آنفا، فحضرت قبره داعيا له، ثم توقفت عند المقبرة شيئا، وطفقت أجوّف الأرض في زاوية من المقبرة باليد، موجدا فيها ثقوبا صغيرة، وأقول في نفسي: أيتها الأم الحنون! أنت مدفونة هنا، أيها الأخ! أنت مدفون هنا، وهكذا دواليك إلى أن ذكرت أعضاء الأسرة وأسماء الأقرباء كلهم، وخلصت إلى: أنه ليس لي أي قريب من الآن، ثم قمت آخذا في طريقي صوب قندهار.
التحصيل في قندهار وضواحيها
وصلت إلى قندهار أيا كانت المشاكل والمصاعب التي تحف هذا الطريق، واشتغلت بالتحصيل في هذه المنطقة وضواحيها 12 سنة، وخلال هذه المدة كلما كنت واجهت بلوشا فررت منه، مخافة أن يعرفني فيقوم بالوشاية بي إلى أسرتي أو ينمّ عليّ عند أخي، وفي هذه السنوات نسيت اللغة البلوشية أيضا إلى حد كبير.
في قندهار نسبة كبيرة من السكان كانوا من البلوش في الأصل، إلا أن لغتهم تغيرت بشكل ملموس، في ظل مر الأزمان والتعايش مع الأفغان والبشتون، وعادوا يتكلمون بالباشتو.
وأبرز أستاذي الذي درست عليه في قندهار، اسمه مولوي عبد الأحد، من دارسي ومتخرجي جامعة دارالعلوم ديوبند، وكان قد اشتغل فيها بالتدريس أيضا بضع سنوات، وكان حافظا للقرآن، ومتضلعا في كثير من العلوم.
والطالب لم يكن في ذلك العهد ليحضر الفصل ويصغي إلى الأستاذ مكتفيا بما يلقيه من الكلمات والتقارير، بل كان الفصل ميدان البحث والنقاش، وبهذا فقد كنا عند العصر وبعدما تنتهي الدروس نذهب إلى مكان بعيد هادئ ونشتغل بمطالعة الشروح والمباحث ذات الصلة بدروس الغد، ونحضر الفصل مستعدين تماما، ونناقش الأستاذ فيما يلقي، ولا نفارقه قبل الحصول على نتيجة مقنعة، وقد يحتدم النقاش بيننا بعض الأيام إلى حد لايتقدم الدرس سطرا واحدا، كما كان النقاش في بعض الأحيان يتواصل إلى ثلاثة أو أربعة أيام بشكل المناظرة، وجميع الكتب كانت تقرأ بهذا النهج.
لو كنا نقرأ “شرح الجامي” في علم النحو -على سيبل المثال- كان علينا أن نشارك درس «الكافية» لابن الحاجب ولو كنا نقرأ الكافية كان لزاما علينا المشاركة في درس «الهداية في النحو» بهدف سماع الدرس في الصف الأدنى ومدارسته مع تلاميذ هذا الصف.
لكني أنا وزملائي لم نكن ثابتين في مدرسة واحدة، فكنا نقطع مسافات بعيدة مشيا على الأقدام، ولو بهدف المتعة والتنوع، وقد نغادر مدينة إلى أخرى، إذا سمعنا أن هناك أستاذا يدرس كتابا في فن بشكل حرفي، أو له مهارة في فن من الفنون، وبعد الوصول إلى هنالك ننظر هل نشعر بفائدة أو متعة أكثر بالنسبة لدرس الأستاذ السابق أم لا، وكنا نعود إلى الأستاذ السابق فيما لم نشعر بشيء جديد.
أذكر أني سافرت طويلا لدراسة كتاب “المستخلص” في الفقه شرح “كنز الدقائق” إذ سمعتُ أن هناك أستاذا متبحرا يدرّس هذا الكتاب، وكنت افترض أنه ربما تمس الحاجة إلى أن أدرّس هذا الكتاب في المستقبل، وهذا يتطلب مني قراءته الجيدة عند أستاذ سابقا، مما جعلني أتجشم المصاعب وأركب الأهوال.
في منطقة من ضواحي مدينة لشكرغاه التابعة لولاية هلمند، کان عالم بلوش، حاذق في تدريس المستخلص، فعزمت على التوجه إلى هناك من أجله، في هذه الرحلة كنت أحمل معي منديلا جديدا، وكنت أنتظر السيارة في موضع جنب مطعم كان يقع هناك، وبينا كنت أنتظر مجيء السيارة إذ جائني صاحب المطعم، وقال لي: عليك أن تمكث هنا ولا تذهب إلى مكان ! قلت ولماذا؟! فأجاب قائلا: لأن المنديل الذي تحمله هو يتعلق بي، وأنت سرقته، فاصبر كي نذهب إلى المحكمة للترافع! قلت في نفسي رحماك ياربي، ما هذه النازلة التي نزلت عليّ؟ ليس هناك أحد ليدافع عني، وليس عندي مال، ولا طاقة لي بالحرب والاصطراع!
على كل أوقفني حتى أقيمت صلاة الظهر، وبعد الصلاة أحضر لي طعاما، وأكرمني إكراما، وقال: لم أوقفك هنا جراء جريمة جنيتها، بل لتبقى عندي وتطعم، وحينما طعمت عنده، ودّعني في منتهى الإعزاز والإكرام.
بعد الوصول إلى المقصد ذهبت إلى مسجد -حسب العنوان الذي كان عندي- ووجدت هناك عالما بلوشيا ينشط، ولست متأكدا هل وافق وصولي هناك يوم الخميس أو الجمعة، وبعد الصلاة التقيت به وكلّمته بأني لا أكتفي بالسماع بل أطالع يوميا 10 أو 15 صفحة، والمواضع التي أواجه صعوبة في فهمها أثناء المطالعة، سأطرحها لك، فقبل الأستاذ. وكنت أطالع 10 إلى 15 صفحة، أو أكثر في بعض الأحيان، وعندما أواجه مشكلة في الفهم في بعض المواضع أسأل عنها الأستاذ صباح اليوم التالي، والمستخلص كتاب ضخيم لكني بهذا الأسلوب تمكنت من قراءته في مدة قصيرة عند هذا الأستاذ.
ثم سافرت من هنا إلى غرشك (مدينة في شمال ولاية هلمند)، وكان هناك مولوي عبد القيوم جان آقا عالما بارزا ومشهورا، له مهارة في تدريس تفسير البيضاوي ومادة المنطق، كما كان يدرس كتب الحديث والصحاح الستة، وقام بتأليف عدة كتب وجزوات، وكان منهجه في التدريس أنه لا يبدأ بالكتاب الثاني قبل فراغ الطالب من الكتاب الأول الذي بدأه، دراسة صحيح البخاري وصحيح مسلم، والكتب الستة الأخرى كانت تستغرق عنده 6 سنوات! وكان يناقش عند كل حديث، وأذكر بالضبط أني أي كتاب درست عليه، أظن أنه كان “الكندية” شرح “سلم العلوم” في المنطق.
وكان وضع الطعام هنا متدهورا جدا، وبهذا السبب أصابني المرض، ورجعت إلى أستاذي مولوي عبد الأحد في قندهار بعد شهر.
مضت سنة أو سنتان حتى بدأ شوق الرحلة يساورني، وذلك لأن الطلبة كانوا يتكلمون من أستاذ حاذق في “كشكي نخود” يدعى مولوي عبد الغفار، بين قندهار وغرشك، فعزمت على الذهاب عنده بهدف الاستفادة منه ودراسة بعض الكتب، وكان ينتمي إلى أهل العرفان والتصوف، وقد قرض بعض الأشعار العرفانية أيضا، الذي استشهد فيما بعد في الجهاد مع الروس والاتحاد السوفياتي. عندما ذهبت إليه رفض طلبي، ملقيا إليّ معاذيره من قبولي عنده، جراء الوضع الاقتصادي والمعيشي المتدهور، لكنه راسل عالما آخر في الضواحي لأذهب عنده ريثما يتحسن الوضع، إلا أني لم أذهب إلى ذلك العالم، و رجعت إلى قندهار.
درست علم الصرف من البداية إلى كتاب “سعدية” في قندهار لدى مولوي عبد الأحد، كما درستُ عنده النحو بدءً من الكافية إلى “شرح ملا جامي”، ودرست من المنطق إيساغوجي، والمرقاة، وسلّم العلوم، والقطبي، في ذات المكان وعلى الأستاذ نفسه. ودرست عنده كذلك علم المعاني، وعلم الفقه إلى الهداية، وفي علم الحساب خلاصة الحساب، وتحرير إقليدس، واستفدت في قندهار من مولانا عبيد الله القندهاري الذي كان من أبرز العلماء بها، وله حواش وتعليقات على بعض الكتب المندرجة في المنهج الدراسي.
شدائد عهد الطلب
في ذلك العهد لم يكن هذا المنهج الشامل الجامع رائجا في المدارس الدينية في أفغانستان، والدرس كان في غرف متواضعة تقع في المساجد ولا تتسع إلا لإقامة نسبة معدودة من الطلبة، وأنا قضيت معظم عهدي الدراسي عند أستاذي مولانا عبد الأحد، في غرف مسجد في قرية “ناكودك” جنوبي قندهار.
كنت لا أملك أسود ولا أبيض! ولم يكن لي صادر ولا وارد، وكنت أعيش وضعا اقتصاديا متدهورا جدا، والوضع الاقتصادي لذي أستاذنا أيضا لم يكن بأحسن مما كنا فيه، ولم يكن له ناطح ولا خابط، إلا أنه في أوان أداء الزكاة، كان بعض الناس يعطونه مبلغا ضئيلا، والطلاب الصغار يذهبون إلى بيوت أهل القرية لجمع الأرغفة، التي كانت تشكل قوتنا الغالب، وبعض الأيام كنا نشتري خضراوات ونسد الرمق بها، ويمضي علينا الشهر أحيانا ولا نرى خلاله لحما ولا مرقا.
وفي جانب الملبس أيضا كان الوضع غير مناسب، فلم نكن نملك حذاء ولا لباسا مناسبا، وحينما كان يتوفى شخص، تعطى ملابسه وأحذيته للطلاب والمساكين، مع أننا كنا نذهب في موسم حصاد القمح للحصاد، ونشتري لنا ملابس وأحذية بالمبلغ الذي كان يأتينا عن طريق ممارسة هذه المهنة. فملابسنا كانت بالية مرقّعة، وذات مرة حينما ذهبت للحصاد كان سروالي متلاشيا لحد لم أتمكّن من الحصاد قائما، واضطررت على العمل جالسا، مخافة انكشاف العورة، وفي هذه الأثناء تنبه شخص لحالي فأعطاني منديلا، شددتُ به صلبي، ثم أستحييت من الرجوع مع الآخرين، وصبرت ريثما يعود أصحابي، ثم عدتُ على أثرهم منفردا.
تابعت مهنة الحصاد إلى أن أصبح قميصي أيضا لا يصلح الاستفادة، ورثّ ذلك المنديل أيضا، وذات يوم أخذت أجرتي وذهبت إلى السوق بهدف شراء الثوب، فذهبت إلى القمّاش وطالبته بمتر الثياب، وقبل استلام الثوب وضعت النقد على منضدة أمامه، فاختلس النقد شخص آخر كان يشبه القمّاش، وعندما طلب القماش الثمن، اسودّت الدنيا في عينيّ، وأيقنت بأن جهودي ذهبت أدراج الرياح، ورجعت من السوق حزينا حسيرا، صفر اليدين.
رغم الفقر والشدة، كنت أدرس بالنشاط والحيوية، وكنت أستخدم الفانوس الذي يقال له “موشك” للمطالعة في الليل، وكنا خائضين في المطالعة مكبين على الكتب، وأحيانا يُشعرنا أذان الفجر بانقضاء الليل، والنهار أيضا يمضي على هذا المنوال، وكانت البيئة العلمية متوفرة لحد كنا نحفظ جميع ما كان يهمنا في الكتب الدراسية.
في أكناف قندهار كان الأغنياء لهم مزارع وبساتين وخاصة بساتين العنب، لكننا كنا متحلّين بصفة الاستغناء إلى مدى يمنعنا عن الذهاب إليهم في موسم جني الثمار، بل نتقي مواجهتهم والتسليم عليهم، تحسبا من أن يفكروا أن الطمع في فواكههم وعنبهم، جعلنا نواجههم ونسلّم عليهم.
الرحلة إلى باكستان
وبعد 12 سنة قضيتُها في أفغانستان في تحصيل العلم، في قندهار وضواحيها إلى لشكرغاه وغرمسير وغرشك، أخيرا عزمت على الر حلة إلى باكستان لمواصلة المسيرة الدراسية، في ذلك العهد ظاهر شاه كان يحكم أفغانستان ، وفي باكستان الجنرال أيوب خان كان رئيسا للجمهورية.
وكانت العلاقات بين البلدين متوترة، ويتوقع اندلاع الحرب بينهما، وبلغ التوتر إلى حد جعل كلا من البلدين أقر جنودهما في طرفي الحدود، ممّا سبب الصعوبة في المرور بها.
هذا الوضع قد سبب منع الأقرباء إياي من الذهاب إلى باكستان، فقلت في نفسي إن رحلتي هذه من أجل تحصيل العلم وفي سبيل الله، أوليست المحنة التي تصيبني في هذا الطريق أو الموت يضمن لي السعادة؟ فانطلقت دون أن أحمل معي شيئا من أمتعة الرحلة وزاد السفر.
على قرب الحدود وصلت إلى طريق تصل جانب الجنوب إلى مدينة كويتة، وعلى جانبي الحدود تتواجد قوات البلدين، فمررت بالقوات الأفغانية وكانوا على أهبة في قواعدهم، لكن لم يوقفني أحد، ودنوت من القوات الباكستانية وكانوا جالسين والبنادق موضوعة على أكتافهم، لابسين قلنسوات معوجة خاصة، فمضيت في طريقي بهدوء، إلى أن مررت بهم أيضا، وجملة القول أن توفيق الله حالفني فعبرت بسلام، بشكل عجيب، ووصلت إلى مدينة كويتة.
مكثت في كويتة مدة ثم ذهبت إلى مولانا عبد الله أجميري شال دره ئي، وكان من أصل بلوشي تخرج من أجمير ودلهي الهندية، استفدت منه في “شال دره” مدة قصيرة، ثم ذهبت إلى مولانا عرض محمد في كويتة، وكان له مدرسة حديثة التأسيس، تضم أساتذة أكفاء، مؤهلين. في هذه المدرسة لم أستفد كثيرا من الأساتذة، لأن التدريس كان باللغة الأردية التي لم تكن لي معرفة بها، لكن بعض الطلبة من البشتون وغيرهم درسوا لديّ بعض الكتب، ما جعل بعض طلاب المدرسة تلاميذي، والسنة الأخيرة التي قضيتها هناك توفي خلالها مولانا إجميري، وكنتُ فيمن شيّعوا جنازته.
كان ذهابي إلى كويتة متزامنا مع وقوع زلزال شديد في هذه المدينة وضواحيها، وقد خلّف الزلزال خرابا ودمارا كبيرين، وكانت الآثار باقية، والشقوق بادية في الأرض، وكثير من الناس قد بنوا لهم بيوتا من الطين والخشب، ويسكنون فيها. طالت إقامتي في كويتة سنتين ثم سافرت إلى كراتشي.
كراتشي، لاهور، غجرانواله، ومرحلة التحصيل الثانية
في ذلك العهد كان في كراتشي ثلاث مدارس ذات صيت ورواج، مدرستان قديمتان، ومدرسة حديثة التأسيس، “جامعة دار العلوم كراتشي”، تحت إشراف مولانا المفتي محمد شفيع العثماني و”جامعة العلوم الإسلامية نيوتاون” تحت إشراف مولانا محمد يوسف النبوري، هاتان المدرستان كانتا ذات سابقة، و”الجامعة الفاروقية” جديدة التأسيس تحت رئاسة مولانا سليم الله خان.
ركبت من كويتة القطار الذاهب إلى بيشاور زاعما أنه متوجه إلى كراتشي! وفي منتصف الليل وصلنا المحطة الرئيسة في مدينة سكّر، وقدمت البطاقة، فقيل لي: هذا القطار يمضي إلى بيشاور! قلت: فماذا أفعل الآن؟! قالوا لي انزل في هذه المحطة والتحق بالذين يغادرون إلى كراتشي صباحا.
في اليوم التالي بعد صلاة الفجر بدأت أتفقد الذين كان يقال لهم “بابو” فأركبوني القطار المتوجه إلى كراتشي، فوصلت كراتشي عند صلاة العصر. نزلت من القطار في كراتشي، أمشي على وجهي من غير أن أعرف لي مقصدا، ولا أعرف أحدا ولا أعرف من اللغة الأردية شيئا، لكني كنت واثقا بأن الله تعالى سيهديني. وفجأة ناداني رجل بشتوني بلغته قائلا: أعرف أنك غريب في هذا المكان، أين تقصد؟! فقرت عيني واطمأننت بلقائه، وقلت بعد التسليم بأني طالب جئت هنا لتحصيل العلم.
فأوقف ركشة وقال للسائق: اذهب بهذا الطالب إلى مدرسة نيوتاون، وتحمل دفع الأجرة مني، وحينما ذهبت هناك وجدت الطلاب في هيئات وأزياء مختلفة، البعض لابسين قلنسوات صوفية، وهيئة الطلاب كانت على غير ما كنت شاهدت وأتخيله. جلستُ في زاوية وسألت طالبا عن كيفية التسجيل وشروط الالتحاق بالمدرسة، فردّ علي: قد مضى على بدء الدروس في هذه المدرسة شهران أو ثلاثة أشهر، ولا يقبل طالب جديد، ولك أن تذهب إلى الجامعة الفاروقية! وكنت قد كلمت الأصدقاء واستشرتهم بشأن الفاروقية سابقا. قصدت الفاروقية، وصليت العشاء فيها، وبعد الصلاة أجلتُ النظر إلى غرف الطلاب، رُبطت خيمات على الأطر الحديدية، التي كانت ذات جدران قصيرة، والمسجد كان صغيرا جدا، وفي فناء الجامعة يوجد رمال، فجلست على هذه الرمال، وقلت: يا رب، ماذا أفعل، ومع من أتكلم؟ وبينا كنت في هذا الفكر، إذ جاءني طالب يعدو، وقال باللغة البشتونية: أستاذ، هذا أنت؟ كيف حالك؟ فعرفته، وكان ممن درس عندي عدة كتب خلال العامين اللذين قضيتهما في كويتة، وذهب بي إلى غرفته، وأكرمني وأحسن وفادتي. صباح اليوم التالي صحبني إلى الشيخ مولانا سليم الله خان، وقال: هذا يريد أن يدرس هنا، لكنه ليس بطالب عادي، بل هو علامة، تم تسجيلي في هذه المدرسة دون أي مشكلة، بفضل المواصفات التي قدمها هذا الطالب مني. درست هنا سنة، خلالها قرأت: تفسير البيضاوي، والتوضيح والتلويح، وكتاب البيوع للهداية، وما درست عند الشيخ سلم الله خان، ولم أتشرّف بالتلمذة عليه للأسف، الأستاذ الذي يدرّسنا كتاب التوضيح والتلويح كان بلوشيا، وفيما أظن من سراوان، كان عدد من الطلاب الإيرانيين، بمن فيهم عبد العزيز اللهياري (وهو مولانا عبد العزيز اللهياري رحمه الله، خطيب الجمعة الفقيد، لأهل السنة في بيرجند، ومن العلماء البارزين في خراسان، توفي سنة 1373 ش. الموافق 1994م.) كانوا مشتغلين بطلب العلم في ذلك العهد، كان في الصفوف السفلى وقد قرأ علي بعض الكتب الابتدائية لعلم المنطق، مع طالب آخر. في مساء الخميس كنا نتجول في كراتشي، ذاهبين إلى الأماكن المختلفة منها، بهدف التعرف الأكثر على ثفافة أهلها، وعاداتهم وأعرافهم، وكنا نختلف إلى المدارس الأخرى، ومنها دار العلوم بكراتشي، والتقيت بالشيخين الكبيرين مولانا المفتي محمد شفيع العثماني ومولانا محمد يوسف البنوري رحمهما الله، وحضرت مجالسهما، لم أتأقلم مع طقس كراتشي لتراكم الهواء، والرطوبة الكثيرة، فكان يسبب الكسل والنوم، وكثير من الطلبة ي في الفصل غلب عليهم النوم، ولأجل هذا أقبلت على لاهور بعد قضاء عام في كراتشي. في لاهور ذهبت إلى “الجامعة المدنية” التي يرأسها مولانا أحمد ميان وهو من الشخصيات العلمية البارزة، يدرس في هذه المدرسة عدد من الطلاب البلوش الإيرانيين والباكستانيين، لكن عدد البلوش الباكستانيين كان أكثر. بعض الطلاب من الباشتو والأفغان، درسوا لدي بعض الكتب، لما كانوا لا يفهمون دروس البنجابيين، جيدا، حسب ما كانوا يُبدون بأنفسهم.
وفي هذه المدة كنت أختلف إلى الجامعة الأشرفية، وهناك التقيت بالشيخ مولانا محمد إدريس الكاندهلوي، وحضرت حلقة درسه، وكما حضرت درس مولانا رسول خان، وكانا من الشخصيات العلمية البارزة في الجامعة الأشرفية في لاهور.
كان بين الجامعة المدنية والأشرفية مسجد يدعى “نيلا كنبد” في هذا المسجد التقيتُ بمولانا المودودي، وكان رجلا نبيلا، ذا جسم قوي متزن يرتدي قلنسوة جلدية.
اغتنمت فرصة إقامتي في لاهور للذهاب إلى مدرسة بدر العلوم بـ رحيم يارخان، للحضور في حلقة مولانا عبد الغني الجاجروي رحمه الله والاستفادة منه، حيث ذهبت إليها فيما بعد للدراسة في مرحلة الموقوف عليه (السنة التي تليها دورة الحديث) واجتمعت في صف واحد مع مولانا عبد الحميد، ومولانا أمير محمد، ومولانا شير محمد، ومولانا كل محمد كرمزهي الخاشي، وكان أستاذ مشكاة المصابيح مولانا عبد الغني الجاجروي رحمه الله، وكتاب شرح العقائد وإن كنت درستُه من قبل، لكني درسته هنا مرة أخرى لدى الأستاذ يوسف.
فضيلة الشيخ مولانا عبد الحميد شمسنا المضيئة، وتاج رؤوسنا، عرفتُه منذ كان في عنفوان الشباب، واشتركنا معا أربع دورات في حلقة التفسير لمولانا عبد الغني الجاجروي، بمدرسة بدر العلوم رحيم يارخان ، هناك وجدتُ الشيخ الجاجروي يهتم به اهتماما خاصا بالنسبة للطلاب الآخرين الوافدين من مختلف البلاد، وكانوا يشتركون في حلقته، ما يناهز عددهم 300 إلى 400طالب، وكان هذا الاهتمام ناشئا عن تقوى الشيخ، وخشيته، وذكائه، كان مولانا عبد الحميد في تلك الأيام شابا، نمت اللحية في أطراف وجهه، وأنا أكبر منه سنا. عرفنا الشيخ هنالك، وعرفنا روحياته العالية، أذكر أن الطلاب الذين كانوا يأتون من إيران والمناطق الأخرى، يشتركون في حلقة تكراره، وكانوا على اتصال به. بقي بعض أصدقائنا في بدر العلوم لدورة الحديث، أما أنا فقد ذهبت إلى مدينة غجرانواله، لدى مولانا سرفراز خان صفدر، وهو من الشخصيات العلمية والمحققين البارعين، على مستوى باكستان، بل خارج باكستان، وكان له إسناد علمي فائق جدا، وفي كثير من العلوم كان له مهارة فوق العادة، تأتيه الرسائل من دار العلوم ديوبند وجامعة الأزهر، وتجري معه مكاتبات عليمة. يرتاد عليه مولانا محمد يوسف البنوري والعديد من الشخصيات البارزين، وكان بينهم مراودات علمية، ومولانا المفتي محمود أيضا ممن له علاقة خاصة مع الشيخ، وكان تلميذه.
في غجرانواله كان مولانا صفدر يعمل شيخ الحديث في مدرسة نصرت العلوم، ومدير المدرسة كان الصوفي عبد الحميد السواتي شقيق سرفراز خان صفدر، عندما زرتُ مولانا سرفراز خان صفدر، تينقتُ بكل ما كنت أسمعه في وصفه، وفرحت جدا لما حالفني التوفيق في الاستفادة منه. كان يقتفي أثر علماء ديوبند، البعيد عن الإفراط والتفريط، مولانا الصوفي عبد الحميد السواتي أيضا كان شخصية علمية بارزة، كان خطيبا مصقعا ذات ميزات كثيرة، متضلعا في الفلسفة والحكمة وآثار العلامة الشاه ولي الله المحدث الدهلوي رحمه الله، ويقوم بأعمال قيمة في هذا المجال.
أنا أحدثكم حاليا وقد مضى على ذلك العهد أكثر من 45 سنة! ولكني مازلت أذكر بداية عهدي في غجرانواله، لا أذكر بالضبط الآيات التي تلاها مولانا الصوفي عبد الحميد السواتي بداية السنة في خطبة الجمعة، إلا أني أعرف أنه تكلم في موضوع التوحيد، والسيرة النبوية -صلى الله عليه وسلم- واستغرق تفسير هذه الآيات أسابيع بل شهورا. كان بيدو من إلقائه لصحيح مسلم أن له باعا طويلا في موضوع معرفة الإسلام. وقد كان في الفلسفة والمباحث ذات الصلة بها، أكثر مهارة من شقيقه مولانا سر فراز خان، كما أن سرفراز خان كانت مكانته أعلى في علوم الحديث وبيان المباحث الاعتقادية وردّ الشبهات، وجهوداته في هذا المجال كانت أكثر، والشقيقان كلاهما كانا من الأفغان التابعين لمدينة سوات الباكستانية، أقاما في مدينة غجرانوالة لولاية بنجاب، للتدريس وخدمة العلم.
هاتان الشخصيتان رغم المکانة العلمية المرموقة، والخدمات الجليلة الكثيرة، كانا يعيشان حياة بسيطة، في مكان صغير وإمكانيات ضئيلة، ولهما من الزهد والتقوى ما يثير العجب.
والحاصل، أني درست دورة الحديث في مدرسة نصرت العلوم الواقعة في غجرنواله، قرأتُ كتابي صحيح مسلم وحجة الله البالغة عند الصوفي عبد الحميد السواتي، وسنن أبي داود، عند أستاذ يدعى مولانا عبد القيوم، وصحيح البخاري وسنن الترمذي عند مولانا سرفراز خان صفدر، كما قرأنا عنده 15 جزءًا من القرآن الكريم مع الترجمة والتفسير، لأن الطلاب في دورة الحديث أيضا كان لديهم ترجمة القرآن. وامتحانات الفترة الأخيرة كانت تشتد المنافسة فيها بين الطلبة البنجابيين والبلوش، ويكون الامتحان بشكل شفاهي، والممتحنون كانوا من لاهور. أعلنت النتائج الامتحان لتُسفِر عن إحرازي الشرف الأول، فأعطوني جائزة تشمل على لباس، وعدة كتب وأشياء أخرى.
بعد التخرج من نصرت العلوم، قصدت الشيخ شريف الله خان، بهدف دراسة علم الميراث، لما كان له يد طولى في هذا الفن، انتهيت من قراءة کتاب السراجي عنده خلال شهرين أو ثلاثة أشهر في الإجازة، فحانت مرحلة “التكملة”. كان الطلاب في ذلك العهد يشتغلون بالتكملة إثر التخرج، التي أعطت اليوم مكانها للدورات التخصصية. والمنهج في التكملة التركيز على دراسة الكتاب الأصعب والأهم من كل فن من بين الكتب الموجودة في المنهج الدراسي، وعليه فكان عدد الكتب التي تدرس في هذه الدورة 18 كتابا. فسافرنا بهدف دراسة هذه الدورة إلى منطقة طاهر والي عند مولانا منظور أحمد النعماني.
يخيّل إلينا ونحن جالسون في مجلس مولانا منظور أحمد النعماني، أننا في مجلس مولانا فخر الدين الرازي، يتناول المباحث دون أن يلقي النظر في الكتاب، ويقرأ العبارات بالعربية عن ظهر الغيب، وأحيانا كنا نظن أنه يفوق في العلم صاحبَ الكتاب، يسبر أغوار المسائل ومغزى المفاهيم، وكان يشتغل بالتدريس في الجامعة أيضا، ويملك القلم، والبصيرة، وضمن آثاره شرح لتفسير البيضاوي بالأردية.
بعد إكمال دورة التكملة ذهبت إلى مدينة سيبي في ولاية بلوشستان، وبدأت بالعمل كمدرس في مدرسة مطلع العلوم في المدينة المذكورة، وزاولت مهنة التدريس ما يزيد على سنتين. وسيبي هذه في يوم الأيام كانت تشكل مركزا من المراكز الحكومية لميرتشاكر رند، كنا نخرج في بعض الأيام عصرا، للتجول في هذه القلعة القديمة.
في الأخير وبعد عقود أمضيتها بعيدا عن الوطن والأسرة، وسنوات من الهجرة، سافرتُ من سيبي إلى كويتة ومن هناك إلى قندهار، ثم إلى نيمروز، وفي الأخير عدتُ إلى إيران.
في سيبي كان لي تلميذان بلوشيان من أهل زابل، وهما أيضا غادرا حدود باكستان وإيران عائدَين إلى المنطقة، أحدهما كان مولوي رحمت الله بريجي، والآخر مولوي خدا نظر كله بجه.
سنوات في المغترب بعيدا عن البيت والأهل
منذ الصبا حينما بدأت التحصيل في نيمروز كنت هناك 6 أو 7 سنوات، ثم ذهبت إلى قندهار وقضيت هناك 12 سنة، و13 عاما قضيتها في باكستان، لو عددنا بعض الأعوام الأواخر التي عملتُ فيها مدرسا، أصبحت عودتي إلى إيران، متزامنة مع انطلاق الثورة الإيرانية. ذكر لي أفراد الأسرة بعد عودتي بأن 32 سنة مضت على ذهابي إلى أفغانستان! وقالوا قد عقدنا لك مجلس رثاء في سنة كذا، ظنا منا أنك توفيت هناك، وتصدقنا بشيء لك. وقد كنتُ طوال هذه السنوات، لم أطلِع الأسرةَ على أيّ خبر بشأني!
مكتب ديوبند العلمي والفكري، والأساتذة الكبار المؤثرون
إنني فخور بأن أساتذتي الذين نهلت من مواردهم العذبة، خلال العهد الدراسي المديد، كلهم ينتمون إلى مكتب دار العلوم ديوبند العلمي والفكري، ومن فضلائها، سواء في العلوم الشرعية أوالفلسفية.
أساتذتنا في قندهار كانوا من تلامذة الشخصيات البارزة لهذا المركز العلمي، من حيث العلم والعرفان، الذين أوقدوا مصابيح العلم في مكاتب قندهار ومدارسها، من تلامذة الشيخ أحمد على اللاهوري، ومريدي حكيم الأمة مولانا أشرف علي التهانوي، والشخصيات العلمية والإصلاحية البارزة الأخرى في شبه القارة الهندية، إلى الإمام شاه ولي الله المحدث الدهلوي.
أعجبت كثيرا بمولانا سرفراز خان في علم الحديث وأسماء الرجال، وقد وجدته في هذا المجال شخصية نادرة النظير، واستفدت كثيرا من مولانا الصوفي عبد الحميد السواتي، تأثرت كثيرا بمولانا المفتي محمود، وقد اشترك في حفلة تخرجنا، وهكذا وفقنا لسماع الحديث الآخر منه، والتشرف بالتلمذة عليه، مولانا عبد الله درخواستي مدير مدرسة مخزن العلوم خانبور، ومولانا القارئ محمد طيب القاسمي مدير جامعة دار العلوم ديوبند، كانوا يأتون هناك، وكنا نحضر مجالس هؤلاء الكبار الصالحين، قد التقيت بالشيخ مولانا شمس الحق الأفغاني مرات عديدة، كان مولانا عبد الغني الجاجروي يدعوه في نهاية حلقته التفسيرية، فنتلقى منه تفسير السورة الأخيرة. وكان مولانا القارئ محمد طيب القاسمي ومولانا شمس الحق الأفغاني رحمهما الله، شخصيتين منقطعتي النظير في السياسة والحكمة، والفلسفة والعرفان.
استفدت كثيرا من مولانا الجاجروي في علم التفسير، وكلماته كانت تترك أثرها على المخاطب بشكل بالغ، لما له من قدرة وفصاحة، كنت قد أقول في نفسي، يا رب، هل جبرئيل هو الذي يُجري على لسانه هذه الكلمات؟! في ذلك العهد كان علماء آخرون أيضا لهم حلقات تفسيرية، إلا أن الشيخ الجاجروي كان بمنزلة الواسطة في العقد، يتمتع بنظر ثاقب عميق في دقائق القرآن ولطائفه، وكان يعيش في غاية البساطة، يرتدي ملابس ساذجة وله جسم نحيف، ولكنه في نفس الوقت صاحب شخصية قوية في البعد المعنوي، بحيث تعتريك حالة خاصة كلما سمعت صوته.
استفدت أكثر من مولانا منظور أحمد النعماني، في موضوع الفلسفة، كما حصل لي نصيب وافر من الاستفادة في قندهار، من مولانا عبد الأحد ومولانا عبيد الله القندهاري.
أرى أن الأسلاف كانوا أقرب إلى نقطة التجلي لذات الحق، التي تشكلها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن زماننا أبعد عن تلك النقطة، حيث لا نشاهد في علمائنا وأساتذتنا المعاصرين، أحوال السلف الصالح ومن مضوا من العلماء والأساتذة، إلا ما شاء الله، وبشكل ضئيل. إن العرش الإلهي يشكل نقطة التجلي والنور والصفاء في نظام الوجود، وإن الكون بقدر ابتعاده عن هذه النقطة النورانية، يدنو من الظلمات الدامسة.
سيد مسعود/ جامعة دار العلوم زاهدان.
انتهت عملية التعريب في 13 ربيع الثاني 1438 هـ.ق. ولله الحمد في الأولى والآخرة.
* نشر الحوار في مجلة الصحوة الإسلامية في أربع حلقات في الأعداد: (96.97.98.99)
تعليقات