لما وقفتُ على هذا العنوان ومعناه الاصطلاحي الجديد وحصلتُ على معلومات وبيانات في الموضوع، أعجبتني الرؤية الجديدة والموقف الحماسي والهجومي الذي طالما كانت الأمة الاسلامية تنتظرها وتتوقعها من الدعاة والمثقفين الذين تهمهم قضايا الإسلام الدينية والفكرية.
سمعنا وقرأنا كثيراً عن الاستشراق والاستعمار والتبشير والتنصير، واطلعنا على ما تقوم به أصحاب هذه العمليات من النشاطات الضخمة الواسعة في العالم الإسلامي والشرق عامةً، ولدينا معلوماتٌ بفضل ما كتبه “حسن حبنكة الميداني “و”السباعي” و”السيد الندوي” وآخرون حديثاً وقديماً، وربما تلقينا من أمثال هؤلاء الكتّاب خطورة الاستشراق والمستشرقين وتحذيرالأمة الإسلامية من مكائدهم ومخططاتهم وكيف يمكن للأجيال القادمة والجيل المعاصر أن يحافظوا على أنفسهم وأمتهم من الوقوع في شبكاتهم والتأثر بدعاياتهم.
إذا بحثنا في هذا الموضوع واستعرضنا جهود العلماء ومواقف الدعاة من أصحاب الحمية الدينية والغيرة الإسلامية الذين قاموا بكفاح عظيم وجهاد ميمونٍ مبارك في إحباط مخططات الغزوالفكري وإخفاق جهود هؤلاء الغزاة. نرى أنه قد استغرقت هذه الجهود زمناً طويلا ووقتاً مديداً وطاقةً ضخمةً، وأخذت من خِيرة رجال الأمّة وهم في موقف الدفاع والتترس أزهى أعمارهم وأثمن أوقاتهم، فمنهم من سافر إلى عواصم أوروبا، وطرق أبواب الجامعات، وخاطب كبار المستشرقين وجهاً لوجهٍ، وتركهم صفر الوجوه خجلين، ومنهم من قدم إلى المكتبة العلمية الإسلامية سلسلة كتبٍ ودروسٍ خصَّصت لدفع شبهاتٍ حول الإسلام.
وكلما تطورت الحياة وتعقّدت جوانبها وظهرت تصرفاتٌ مُسيئة وخلق مٓشينة في السياسة والاقتصاد والاجتماع من جانب حكامٍ جهلة أو رؤساء خَونة أو علماء سوءٍ وفقهاء حكامٍ، رأينا الانتهازيين ومن في قلوبهم مرضٌ من بني جلدتنا المسلمين ومن الأعداء الألدّاء يثبون على الإسلام وتراثه التاريخي والحديثي والفقهي وحتى القرآني، ويكيلون التهم والشكوك ويبثون أنواعاً من الشبهات والطعون، كأنهم كانوا على ميعادٍ وعهدٍ أن يواصلوا الطريق على خطى سلفهم غير الصالح، ويأخذوا بوصيتهم الشنيعة من الهجوم على أهدى كتابٍ وأعظم شخصيةٍ وأتم دينٍ وأكمل شريعةٍ، حتى تقوم جماعة تلو جماعة وشخصيات كبار وعقولٌ متنورة قوية من أبناء الاسلام، وتستمرّ المجابهة والنقاش بين الحق والباطل. هم يثيرون الشبهات ويهجمون، وأصحاب الديانة الإلهية في موضع المقاومة والدفاع، كأنه من سوء الحظ وقع الجبل المشرف والموضع الاستراتيجي في أيديهم، وأصبحت الأمة الاسلامية على مرمى قذائفهم ونبالهم تلجئها نحو التترس والثبات.
نظراً إلى نوعية هذه العملية وطبيعتها وما استنزفتها من الجهود الجبارة من جانب الجماعة المدافعة والمقاومة، رغم ما حظيت من الأثر الكبير والأهمية البالغة في الحفاظ على الكيان الديني والدفاع عن التراث الإسلامي وإقناع المثقفين وإيجاد الثقة وتوعيتهم، لكن لم تكن من طبيعة هذا الدين ومن شأن الأمة الاسلامية التي أخرجت لهداية البشرية وبعثت لإنقاذ الانسانية، الشعارُ الذي رفعه الرعيل الأول من دعاة هذه الأمة بالأمس، أن تكون أمة مدروسةً ومتهمةً تجري عليها عمليات الفحص والتشريح لأغراض مشبوهة سخيفة.
هنا تظهر أهمية موضوع “الاستغراب”، بمعنى معرفة الغرب معرفة موضوعية وعلمية أكاديميةً دقيقةً وشاملةً وعميقةً، تسهم فيها المؤسسات والشركات، وتخصّص لها الميزانيات والأموال، وتؤسس لتحقيقها ودراستها جامعاتٌ ضخمة في الشرق، وكراسي خاصة في أوروبا وأمريكا، ويُستفاد من جميع المنابع العلمية ودوائر المعرفة القديمة والحديثة، ويُستخدم جميع الصفحات والمواقع العامّة والخاصة، ويُستعمل جميع أجهزة البحث الإلكتروني والقوى الأسطورية الجديدة، وتتحرك أدوات البحث والتحقيق في الموسوعات العلمية الضخمة والمكتبات الشاملة الكبيرة.
موضوع “الاستغراب” رغم طرحه والدعوة إلى تنميته من جانب عدد غير قليل من كتّاب العالم الإسلامي وتأسيس مركز علميٍ لهذا المجال في “المدينة المنورة” وما دعت إليه الدعاة والمصلحون من قبل بضرورة دراسة الغرب (أوروبا وأمريكا)، مع الأسف هذه الدعوات لم تلق اهتماماً كبيراً ولم تأخذ حظاً وافراً، إِلا جهوداً ضئيلة وعملياتٍ فردية لا تقاس أبداً بما قام به المستشرقون في عملية “الاستشراق”.
أخيراً لأهمية هذا الموضوع لابد أن ندرس “الاستغراب” كموضوع علميٍ يهتم بدراسة الغرب (أوروبا وأمريكا) من الجوانب المختلفة التشريعية والعقدية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية، ولابد أن نوجّه أسئلة توجيهية تفتح مجالات التحقيق، ونقدم طرقاً وأطروحاتٍ لكيفية البحث، ونطرح حلولاً تتهيأ بها جداول العمل العلمي ونضخّم هذا الموضوع، حتى تقوم جماعاتٌ تتجاسرعلى الغرب وأفراد يتجرؤون على حضارته ويتحدونه في جميع ما يفتخر به، ويثبتون للجميع أنه قد انتهى دور المقاومة والدفاع، ونفد ما كان في كنانة العدوّ، وها قد حانت مرحلة الهجوم والتحدي، وجاء دور “الاستغراب” وزال “الاستشراق”.
الكاتب: الشيخ عبد الحكيم العثماني، الأستاذ بجامعة دار العلوم زاهدان
تعليقات