والثاني: فصل الصفات عن الذات، وجعلها مستقلة.
والثالث: الانخداع من أنواع وضروب الأفعال المختلفة والمتلونة.
فلما مَنّ الله علَى الإنسانية بالإسلام؛ حلت هذه العقدة وكشفت هذه الغمة، وأزالت هذه الأخطاء التي كانت قد تطرقت إلى المعاني والمفاهيم، وأبانت تلك الحقائق، ولنذكر أولا السبب الأول من هذه الأسباب؛ ألا وهو التشبيه والتمثيل.
أولًا ـ التشبيه و التمثيل:
فإن أهل المِلَل والنِّحَل من غير الإسلام اختاروا طرقًا، واتخذوا وسائل لمعرفة ما لله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ من الصفات الجليلة، والصِّلَة الَّتِي بينه وبين خَلْقه؛ فشبَّهوه ـ جَلَّ جلالُه ـ بأجسام مختلفة، ومثَّلوا صفاته في ضروب من الصور والأشكال؛ فلما طال عليهم الأمد؛ بقيت هذِهِ الصور الممثَّل بها، وزال عن قلوب الناس اسم الله الَّذِي لم يزل ولا يزال، فصارت المشبه بها أوثانًا وأصنامًا وتماثيل، وطفق الناس يعبدونها ويسجدون لها؛ ظنًّا منهم بأنها مظاهر صفات الله ومشاهد قدرته، وتفنَّنوا في تصوُّر صفات الله بهذه التماثيل المنحوتة والأوثان المصنوعة. ومن ذا الَّذِي يشُكّ في أن الله يحب عباده ويرأف بهم ويحن عليهم؟ لكن الجاهلين جعلوا لحب الله عبادة، ولرأفته بهم تمثالًا من حَجَرٍ أو غيره. والأمم الآرية اتخذت تمثال المرأة رمزًا للحُبّ الإلهي؛ فإنها عندهم مظهر الحنان والأمومة وإلهة الحب والغَرام؛ فعبَّروا عن حب الله بنوع من العبادة، وعن حنانه عليهم بحنان الأم علَى ولدها؛ فانقلب الإله عندهم أمًّا حنونًا، ونحتُوا له صورة أم حنون، وأخذوا يعبدونها ويسجدون لها.
والطوائف الأخرى من الهنادك قد أظهروا هذا الحب الإلهي لعباده وحنانه عليهم بما بين الحَليلة وزوجها من المودة والمحبة؛ فاختار لفيف من الرجال زِيّ النساء وهيئتهن، وتأنّثوا وتخنّثوا ـ شكلًا وأخلاقًا ـ ؛ علَى زعم أن الله يحبهم كما يحب الزوج حَلِيلته! وكذلك ظهر الإله عند الروم والإغريق في صورة امرأة.
أما الأمم السامية؛ فقد تمثّل الإله عندها رجلًا وأبًا؛ إذ كان ذِكْر المرأة عندها علَى ملأ من الناس مخالِفًا للآداب السامية، وكان الأب هو رأس الأسرة وأصلها؛ ويدلّ عليه: ما استُخْرِج من بطون الأرض في بابل وآثور وديار الشام من تماثيل تصوّر الإله بصور الرجال.
وكذلك بنو إسرائيل يظهر أنهم في بدء أمرهم كانوا يتصوّرون الله بصورة الأب ويحسبونه والدًا، ويحسبون الملائكة وسائر الناس أولادًا له! ثم ضاق نطاق تفكيرهم؛ فلم يبق للإله أولاد عندهم سوَى بني إسرائيل. ويوجد في بعض صحف بني إسرائيل ما يدل علَى أن الرابطة كانت بين الإله وبني إسرائيل كالرابطة الَّتِي تكون بين الزوج وحَلِيلته، وأن بني إسرائيل وأورشلم حلائل والإله زوجهن، (تعالى الله عما يقولون ويتصوّرن).
وقد أخطا المنتسِبون إلَى المسيح ـ عليه السلام ـ ؛ فجعلوا ما كان بادئ بدء استعارة كأنه حقيقة ثابتة، وانقلب تشبيه الإله بالأب؛ لحنانه علَى نبيه عيسى ـ عليه السلام ـ ورأفته به؛ فاعتبروه حقيقة، والإله الَّذِي لم يلد ولم يولد اعتبروه والدًا وعيسى ولده! وشبيه بذلك ما نجده عند قدماء العرب من ظنهم بالله أنه أب، والملائكة بنات له.
فلما بزغت شمس الإسلام؛ انكشفت ظلمات التشبيه والتمثيل كلها، وانجلى قتام الشرك، وأُهمل استعمال جميع الكلمات الَّتِي تقضي إلَى الإشراك بالله، منذ نادَى رسول الإسلام بهذه الحقيقة: “ليسَ كمِثْلِه شَيءٌ”، ثم نزلت سورة من قِصَار سُوَر القرآن محت الأوهام الباطلة كلها، والعقائد الفاسدة الَّتِي نسجها الناس حول وجود الله؛ وهي قول الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ : “قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، الله الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ”؛ فكان الإسلام بذلك طاهرًا من دَنَس الشرك، نقيًّا من كل شوائبه.
إخواني وخِلَّاني: إياكم أن تظُنّوا أن الرسالة المحمدية نفت شيئًا مما لله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ من عَظيم الرأفة، وواسع الرحمة بعباده، أو أبطلت ما لله في عباده من حنان. إنها لم تفعل ذلك؛ بل وثَّقت حبل الله الَّذِي يسَّره لعباده، وزادته قوة. وإنما أبطلت ما زاد على ذلك من أوهام تفضي إلَى تجسيم الله أو تمثيله بشيء من خَلْقه؛ ومحت وسائل كاذبة تجرّ إلَى الإشراك بالله، مما اتَّخذته الأمم السالفة فضَلَّت به وأضلت. وفيما عدا ذلك، فإن الإسلام أشاد بما بين الله وعباده من رابطة هي أشدّ وأقوى من كل ما يمت به المَخلُقون بعضهم إلَى بعض ـ من نسب ورحم وآصرة ودم ـ؛ فالإنسان الَّذِي يعيش في طاعة الله أقرب إلَى الله من قرابة الولد لوالده، وقرابة الزوجة من زوجها.
انظُروا كيف أراد الله أن يعلِّم الصالحين من عباده بأنه يحبهم كما يجب الأب أولاده، فأمرهم أن يذكروه كما يذكرون آباءهم أو أشد ذِكْرًا؛ فهو ـ عَزَّ وجَلَّ ـ لم يشبِّه نفسه بالأب، لكنه شبَّه حبه بحب الأب، واجتنب ما يدل علَى القرابة الواشجة والرحم الماسة، فأبقى من هذِهِ العلاقة ما يدل علَى الحب، ثم زاد الحث علَى أن يَذكروه أشدّ وأكثر مما يذكرون آباءهم بقوله: “أو أشدّ ذِكْرًا”؛ لأن الصلة بين العبد وخالقه أشدّ وأسمَى من جميع ما يمت به المرء إلَى أحد من ذوي قرابته؛ فقال ـ تعالى ـ : “وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله”. والإسلام لا يُسَمِّي الله أبًا للناس؛ بل يَدعوه (رَب العالَمين)؛ لأن الرب أعلى مكانًا من الأب، وإن الصِّلة بين الابن وأبيه عارض يفنَى، والصِّلة بين المربوب وربه أثبت وأبقَى؛ لأنها مستمرة من أول نشأة المخلوق إلَى أن تنتهي حياته بلا انقطاع؛ فالله ودود رؤوف حنَّان بأكثر مما في الرجال من الود لأودَّائهم، وما في الأب من الشفقة والرأفة نحو بَنيه، وما في الأم من الحنان علَى أولادها، ومع ذلك؛ فإنه ـ سبحانه ـ ليس بأب ولا أم، وهو منزَّه ومقدَّس عن كل شائبة من شوائب البشرية.
ثانيا- فصل الصفات عن الذات:
والأمر الثاني الَّذِي أفضى بالأديان القديمة إلَى فساد العقائد في معنى التوحيد: مسألة الصفات الإلهية. ومنشأ ذلك: أن أتباع الأديان الأخرى قد فَصَلُوا صفات الله عن ذاته، وجعلوها مستقِلّة عنه؛ وبذلك تعددت الآلهة وكثرت في جميع الفِرَق الهندوكية من الدين البرهمي؛ لأنهم اتخذوا من كل صفة إلهيّة إلهًا، وجسَّموا تلك الصفة في صورة، أو صاغوها في قالب، ثم وسَّعوا نطاق الشِّرْك وطبَّقوه علَى جميع ما شبِّهت به صفات الإله من مختلف التشابيه ومتنوَّع التماثيل، وصاغوا هذِهِ الصفات وما شبِّهت به في صور وتماثيل وأوثان، وبعد أن كان الله إلهًا واحدًا لا إله غيره صار لهم ثلاثون وثلاثمائة مليون من الآلهة! وتفصيل ذلك: أنهم أرادوا أن يعبِّروا عن قوة الله وقدرته، وظاهر أن اليد من مظاهر القوة والبطش؛ فنَحَتُوا لله ـ تعالى ـ يدين قويتين من الحَجَر! بل سوَّلت لهم أنفسهم أن ينحتُوا له كثيرًا من الأيدي! وحاولوا أن يعبِّروا عن حِكْمته البالغة فجعلُوا له رأسَين، واتَّخذوا له وثنًا ذا رأسين! وإذا تأملنا نِحَل الهنادك الكثيرة العَدَد؛ بدا لنا أنها لم تكثر هذِهِ الكثرة الهائلة ولم تفترق إلَى فِرَق كثيرة إلَّا لأجل تجسيمهم صفات الآله؛ فإن لله عندهم ثلاث صفات عظيمات: الخَلْق، والقيام علَى المخلوق، والإماتة. وإن شئتَ فلك أن تعبِّر عن هذِهِ الصفات بالخالقية، والقيومية، والإماتية. وقد جعلَت الفِرَق من الهنادك هذِهِ الصفات الثلاث أشخاصًا مستبِّدين أطلقوا عليهم أسماء: برهما، ووشنوا، وشيو؛ فبرهما رمز للخالِق، ووشنوا هو القيّوم، وشيو هو المُمِيت، ونجمت عن ذلك ثلاث نِحَل: نِحْلَة يعبد أتباعها برهما، ونِحْلَة إلهها وشنو، ونِحْلَة معبودها شيو. وقد انفصل بعض هذِهِ الفِرَق عن بعض. وهناك فرقة منهم تعبد فُرُوج الرَّجل والمرأة؛ لأنهم تمثَّلوا بها صفة الخَلْق، وأرادوا أن يمثِّلوها بجسم كما فعلوا في الصِّفات الأخرى؛ فهداهم سوء بصيرتهم إلَى أن فُرُوج الرِّجال والنساء من أكبر الأسباب للخَلْق في هذا الكون؛ فاتَّخذوا لها صورًا وأوثانًا وجعلُوا يسجدون لها ويتقرَّبون إليها!
وفي النصرانية صفات إلهيّة ثلاث: الحياة، والعِلْم، والإرادة؛ تمثَّلوها ذواتًا سَمَّوها الأقانيم الثلاثة؛ فالأب رمز للحياة، وروح القُدُس رمز للعِلْم، والابن رمز للإرادة.
ونجد مثل ذلك في عالَم الأصنام عند قدماء المصريين والإغريق والروم، وإنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بتفنيد آراء الأُمَم في صفات الله؛ فأظهر خطأ تلك المذاهب وفسادها، وبيَّن أن الله واحد، وأن صفاته الكثيرة ليست أشخاصًا منفصِلَة عنه، وأن مَن جعل الله الواحد اثنين أو أكثر مغترًّا بتعدُّد أسمائه الحسنى وصفاته العُليا؛ فقد ضَلّ وغَوَى وحادَ عَن سواء السبيل؛ فالقرآن أعلمنا بأن الله (رَب العالَمين)، وأنَّ “لَه المَثَلُ الأَعْلَى”، وأنَّه “نورُ السَّماواتِ والأَرْضِ”. وكان نصارَى العرب يَدْعُون الخالق بالرحمن؛ لاتِّصافه بالرحمة، أما عامة المشركين فكانوا يدعونه (الله)، ونزلَ القرآنُ تصديقًا لهما: “قُلِ ادْعُواْ الله أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى”، وفي سورة الشُّورَى: “فاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، وفيها ـ أيضًا ـ : “إلَّا إِنَّ الله هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”، وفي سورة الزُّخْرُف: “وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ”، وفي سورة الدُّخَان: “إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لا إِلَهَ إلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ”.
أما برهما بمعنى الخالق، ووشنوا بمعنى القيّوم، وشيو بمعنى المُمِيت: فمدلول الثلاثة كلها واحد؛ هو: الله الخالق القيّوم المُمِيت، والموصوف لا يتعدّد مهما كثُرت صفاته: “فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {36} وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [الجاثية: 36 ـ 37]، “هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {22} هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إلَّا هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المؤمِنُ المهيمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ المتكبِّر سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ {23} هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ المصوِّر لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [الحشر: 22 ـ 24].
فالله واحد ـ وإن كثُرَت أسماؤه وتعدَّدت صفاته ـ، وهذه الكثرة ليست في ذاته، بل في صفاته؛ وإنما علمنا ذاته الواحدة الموصوفة بالصفات الكثيرة بسبب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. أما الأديان الأخرى، فقد جعل أتباعها اللهَ الواحدَ آلهةً متعدِّدة بتعدُّد صفاته؛ فسبحان الله عما يُشْرِكون. وقد بيّن الإسلام ـ وأحسن البيان ـ بأن القُدُوس والخالق والملك والمؤمن والجبار والعزيز والمصوِّر والرحمن والرحيم هو الله ليس غير.
ثالثا – الانخداع من أنواع وضروب الأفعال المختلفة والمتلونة:
إن المصدر الثالث للشرك هو الانخداع بتعدد الأفعال وتنوعها، ومن هنالك ظن بعض الناس آن القائم بهذه الأفعال المختلفة هو شخصيات مختلفة، وكل فعل تقوم به شخصية مستقلة عل حدة، فحملهم فسادُ رأيهم علَى أن جعلوا لكل عمل عاملًا مستقِلًّا؛ فاعتقدوا أن الَّذِي يحيي غير الَّذِي يُمِيت، ومَن يحب العباد غير الَّذِي يَبغضهم؛ فاتخذوا إلهًا للعِلْم، وإلها للثروة والرِّزق؛ فتعدَّد الواحد بذلك، وصارت الآلهة بعدد الأفعال. فجاء الإسلام وصحح لهؤلاء السفهاء هذه العقيدة الباطنة الزائغة، وبين لهم أن هذه ضروبا من الأفعال الصادرة من الله الواحد القهار.
من محاضرات العلامة السيد سليمان الندوي رحمه الله (السيرة المحمدية)
تعليقات