تأسّست دولة إسرائيل عام 1948م واعترفت بها الدول الكبرى بعد أربع ساعات من إعلانها، ولم تلبث الدولة الجديدة أن أنشبت أظفارها في قلب العالم الإسلامي والشرق الأوسط ثم حدث ما حدث طول هذه المدة.
مضى على تأسيس هذه الدولة اللاشرعية 70 عاما ولم يزل أهل فلسطين يذاقون سوء العذاب من أيدي الظلمة والطغاة وذلك في عقر أرضهم وديارهم، وبمرأى ومسمع من العالم الإسلامي والعربي، وقطاع غزة خاصّة، اشتدّت الوطأة عليه بشكل غير مسبوق، بعد عمليّة طوفان الأقصى التي مضى عليها أكثر من عام، حيث قتل أكثر من 40 ألف نسمة، وخرّبت المنازل، وقُصفت المشافي، ودُمّرت القُرى والأرياف، وشاء العدّو الصهيوني تدمير غزة بأسرها وإبادة أهلها أجمعين، ولكن الله سلّم من شاء أن يسلم.
ههنا يقول طائفة من الزعماء والساسة: إلى متى تراق الدماء وتنتهك الأعراض؟ ولا سبيل إلى الراحة والأمن إلا بالمصالحة مع العدوّ. ولقائل أن يقول الصلح مع من؟ دولة ذات قدرة نووية عندها أحدث الأسلحة الفتّاكة للدمار الشّامل. وفي جانب آخر حركة مقاومة تدعى “حماس” وشعب عزّل منكوب، هدمت بيوته، وقُتل أبناءه، وسُلب كل ممتلكاته، ولا يحسب هذا العدو الغاشم أيّ حساب لحماس ولا للشعب الغزاوي، وقد دمّرهم وأبادهم وقتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وأخذته نشوة الانتصار، إذ يزعم أنه هزم عدوّه وألقى القبض على أراضيه فلا معنى للمصالحة أو الهُدنة، ولكنّنا لوسلّطنا الأضواء على القضية وما جرى ويجري في الساحة، ربما اهتدينا إلى رؤية أخرى وهي أنّ الانتصار والهزيمة لهما معنيان.
الأول: انتصار العَدد والعُدد والقدرات المادية. والثاني: انتصار العقيدة والأيديولوجية، وكذلك الانهزام.
هبْ أنّ العدو انتصر والشعب المكلوم انهزم فهل تنتهي القضية هنا؟ هل تنسى قضية القُدس؟ وهل تضيع الدماء المُهراقة في أرض غزة؟ وهل ترتاح العدو، زاعمة أنّ آمالها تحققت أو سوف تتحقق، وهل تحقق الصهيونة ما بقي من أحلامها ومخططاتها في المستقبل؟ وهل يرخى لها الحبل حتى تسيطر على العالم كله؟ وهل يتحقق الحُلم البعيد الذي سطّره الحاخامات في التلمود أو جاء في بروتوكولات حكماء الصهيون؟ وهل يدوم هذا الوضع المشين وهذا الصموت المميت في العالم العربي؟ وهل يقبل الضمير البشري الحرّ ما حدث وما يحدث في أرض غزّة المظلومة المكلومة ؟!
كلّا وألف كلّا!
إنّ ذلك لا يكون! إنّ ذلك لا يكون!
إن لله سنةً في خلقه، إن لله سنة في عباده، وإنّ من سنة الله أنه قد يملي الظالم ويستدرجه، وإنّ من سنة الله أن يختبر عباده الصالحين والمجاهدين، ويمتحن صبرهم واستقامتهم ويتّخذ منهم شهداء. كما قد ابتلى رسله وأولياءه، حتى إذا استيأسوا وقالوا متى نصر الله؟ أنزل الله نصره وأخذ الذين ظلموا.
إذن مهما تفاقمت الأزمة، ومهما اشتدّت البلوى، ومهما حلكت الظروف، لاينسى الجبار ما فعله المجرمون ولا يخذل عباده المتقين، ولايُضيع التضحيات، ولا يردّ دعوات المظلومين. وما الله بغافل عما يعملون. وإنّ التاريخ لخير شاهد على أنّ العاقبة للمتقين.
وما أجمل وأدقّ ما قال الإمام السيد أبوالحسن الندوي (رحمه الله) بعد أن انهزم جيوش مصر عام 1967م واستولت قوات إسرائيل على القدس وعلى الضفّة الغربية وعلى شبه جزيرة سيناء وصارت للصهاينة صولة وجولة:
“وقد كان للدهاء والمكر والخديعة والذكاء الذي لا يقوم على احترام الإنسانية ولا يقف عند الحدود العقلية والخلقية والذي يتجه دائما إلى الأنانيّة السلبية، انتصاراتٌ بهرت العقول والألباب، وغشت على العيون والأبصار، وشكّكت في التاريخ البشرى، وكادت تُفقِد الثقة بقوة الحق وحُسن العاقبة للصالحين المتقين.
وكانت لهذه القوة التخريبيّة الماكرة جولاتٌ وصولاتٌ في التاريخ؛ حتى تحرّكت الجبال الراسيات، واضطرب رجال الفلسفات وعلماء الديانات. وقد صوّر القرآن بإعجاز هذه الساعات الدقيقة العصيبة، وما ينتاب العقول والقلوب في ذلك الوقت من حيرة، واضطراب، وشك، وارتياب، ولا أبلغ من تصوير القرآن: {حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ{. [يوسف – 110]
يستمر الإمام المتفكر واصفا: وقد عالج القرآن هذه النفسية الإنسانية التي تخضع للغلبة والقوة، مهما كانت عارضة مؤقتة ومهما كانت سخيفة هازلة فقال: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] وعالج كذلك النفسية الضعيفة التي تستسلم دائما لدهاء دقيق ومكر محكم أو مؤامرة ناجحة، فذكر مراراً وتكرراً: إن مصيرها إلى الانهيار، والافتضاح، والخيبة، والإخفاق، وأنه كنسج العنكبوت، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} (العنكبوت 41) وقال وهو يتحدّث عن المكر والدهاء في مختلف الأزمنة والأمكنة كقانون عام خالد: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}. (فاطر: 43)”. (المسلمون وقضية فلسطين- للإمام أبي الحسن الندوي- ص 208)
هذا، وفي القضية واجبات ومسؤوليات تتوجّه إلى مختلف طبقات الأمة؛ فعلى العلماء أن يقوموا بإصلاح الشعب وتوعيته وإيجاد الوعي في الجماهير، وعلى الشعوب المسلمة أن تحاسب قادتها وكبراءها وتنتقدهم وتتبرّأ من الخوَنة والجبناء والمرتزقة من الحكّام. وعلى الشباب والمثقّفين أن يعودوا إلى تعاليم الشريعة الغرّاء، مجدّدين الاتصال بكتاب الله وسنّة رسوله والسيرة النبوية، مهتمّين بإعداد ما استطاعوا من قوة في مجالات العلم والتقنية وكل فن مفيد للأمة. وعلى الفئات والأحزاب توحيد صفوفها وتجديد النظر في منهاجها وأساليبها. وعلى جميع طبقات الأمة تناسي خلافاتها الداخلية والتركيز على ما هو أولى وأهمّ لصالح الإسلام والمسلمين.
إننا متيقّنون بأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأنّ الأمّة سوف تزداد وعياً وصحوةً، متداركة ما فاتها، مقاوِمةً تيّار الباطل، مغيّرة مجراها بإذن الله تعالى وعونه، وهو المستعان وهو العزيز الحكيم.
فاتحة مجلة “الصحوة الإسلامية” العدد (١٨٤)، الصادرة عن جامعة دار العلوم زاهدان- إيران
تعليقات