اليوم :11 October 2024

تأثير التربية النبوية على الصحابة

تأثير التربية النبوية على الصحابة

التربية الإسلامية هي: تنمية فكر الإنسان وتنظيم سلوكه، وعواطفه، على أساس الدين الإسلامي وبقصد تحقيق أهداف الإسلام في حياة الفرد والجماعة، أي في كل مجالات الحياة، وأثر هذه التربية الإسلامية يتجلى في ضوء السيرة النبوية، لأن السيرة النبوية مصدر متجدد النفع للأمة الإسلامية، في إرشاد الفكر وتوجيه السلوك، وبناء المجتمع الإنساني على ركائز ثابتة.
كان النبي صلى الله عليه و سلم أرفق الناس بالمتعلمين، وأبعدهم عن التشديد والتعسير وهذا ما نحتاج إليه في تعليمنا للناس جميعاً. ثبت في التاريخ بأن النبي صلى الله عليه وسلم نجح في تربية الصحابة نجاحا قلما يوجد في التاريخ البشري، وإذا أمعنا النظر نجد أن السرَّ في ذلك أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم كان في تربية الصحابة توجيه الخطاب إلى قلوبهم لصفائها ونقاءها من الشهوات والماديات التي تفسد القلب، وكان يوجه قلوبهم إلى خالقها وكان صلى الله عليه وسلم ينقي قلوبهم بماء يجري من منبع فياض رباني ألا وهو القرآن والصلاة واستحضار الله تعالى في كل حين وزمان ومكان.
في هذا البحث المختصر نقرأ تحليل هذا المنهج النبوي الدقيق في ضوء كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للإمام أبي الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى”.

منهج الأنبياء في الإصلاح والتغيير:
المجتمع الذي واجهه النبي صلى الله عليه وسلم:
“بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفا، فإذا كل شيء فيه في غير محله، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر، ومنه ما التوى وانعطف، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكاناً آخر، ومنه ما تكدس وتكوم.
نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضرر.
رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله، قد أصبح فيه الذئب راعياً والخصم الجائر قاضياً، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظيا، والصالح محروماً شقياً ولا أنكر في هذا المجتمع من المعروف ولا أعرف من المنكر، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك، رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطى الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة، ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد، رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خولاً، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه، ويجرح به أولاده وإخوانه.” [ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص ٧٧/٨٨]

لا ينسخ الباطل بالباطل:
ضمن هذه الأجواء الفاسدة في هذا المجتمع المنحرف الذي كان على شفا جرف هار من الانهيار كان مجال العمل قويا ليصبح النبي صلى الله عليه وسلم رجلا إقليميا يقود مجتمعه سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا.
“ولكن محمداً صلى الله عليه و سلم لم يبعث لينسخ باطلاً بباطل ويبدل عدواناً بعدوان، ويحرم شيئاً في مكان ويحله في مكان آخر، ويبدل أثرة أمة بأثرة أمة أخرى، لم يبعث زعيماً وطنياً أو قائداً سياسياً، يجرّ النار إلى قرصه ويصغى الإناء إلى شقه ويخرج الناس من حكم الفرس والرومان إلى حكم عدنان و قحطان، وإنما أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، إنما أرسل ليخرج عباد الله جميعاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويخرج الناس جميعاً من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم”.[ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص ٧٨]
بناء على ذلك وضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه، ذلك القفل المعقد الذي أعيا فتحه جميع المصلحين في عهد الفترة الذين حاولوا فتحه بغير مفتاحه وذلك المفتاح الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم كان دعوة الناس إلى الإيمان بالله وحده، ورفض الأوثان والعبادات والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة، وقام في القوم ينادى: “يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” ودعاهم إلى الإيمان برسالته والإيمان بالآخرة.

مفتاح يفتح أقفال القلوب:
نعم ما قال الإمام أبو الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى: “مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة حجة يدعو إلى الله وحده والإيمان برسالته واليوم الآخر بكل صراحة، لا يكنى ولا يلوح ولا يلين، ولا يستكين ولا يحابى ولا يداهن، ويرى في ذلك دواء لكل داء، وقامت قريش وصاحوا به من كل جانب، ورموه عن قوس واحدة، وأضرموا البلاد عليه ناراً ليحولوا بينه وبين أبنائهم وإخوانهم فأصبح الإيمان به والانحياز إليه جد المجد، لا يتقدم إليه إلا جاد مخلص هانت عليه نفس وعزم على أن يقتحم لأجله النيران، وتمشى إليه ولو على حسك السعدان، فتقدم فتية من قريش لا يستخفهم طيش الشباب، ولا يستهويهم مطمع من مطامع الدنيا ما همهم الآخرة وبغيتهم الجنة، سمعوا منادياً ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فضاقت عليهم الحياة الجاهلية بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم واضطربت بهم مضاجعهم كأنهم على الحسك، ورأوا أنهم لا يسعهم إلا الإيمان بالله ورسوله فآمنوا وتقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بلدهم وبين سمعهم وبصرهم، فكانت رحلة طويلة شاقة لما أقامت قريش بينه وبين قومه من عقبات، ووضعوا أيديهم في يديه، وأسلموا أنفسهم وأرواحهم إليه، وهم من حياتهم على خطر، و من البلاء والمحنة على يقين، سمعوا القرآن يقول: “الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين” (العنكبوت ١-٣) وسمعوا قوله تعالى: “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب” (البقرة ٢١٤)، فما كان من قريش إلا ما توقعوه، قد نثرت كنانتها، وأطلقت عليهم كل سهم من سهامها، فما زادهم كل هذا إلا ثقة وتجلداً، وقالوا: “هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً” (الأحزاب:٢٢)، ولم يزدهم هذا البلاء والاضطهاد في الدين إلا متانة في عقيدتهم وحمية لدينهم ومقتاً للكفر وأهله، وإشعالاً لعاطفتهم وتمحيصاً لنفوسهم فأصبحوا كالتبر المسبوك واللجين الصافي، وخرجوا من كل محنة وبلاء خروج السيف بعد الجلاء.(السابق: ٨٣).

منهج التربية النبوية وسط هذه البلايا والمصائب:
هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يغذى أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن، وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعية إلى ذلك و قوتها، وذلك غاية ما روى في التاريخ من الطاعة والخضوع. (السابق: ٨٣/٨٤).

انحلت العقدة الكبرى:
ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة، ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم، ولم تزل مجالس الرسول الله تزيدهم رسوخاً في الدين وعزوفاً عن الشهوات، وتفانياً في سبيل المرضاة، وحنيناً إلى الجنة، وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس، يطيعون الرسول في المنشط والمكره، وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً. قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة في عشر سنين، وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة، فهان عليهم التخلي عن الدنيا وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم، ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه، وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها، وانحلت العقدة الكبرى – عقدة الشرك والكفر – فانحلت العقد كلها وجاهدهم الرسول جهاده الأول فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهى، وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى – فكان النصر حليفه في كل معركة، وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهي. حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم، وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد – نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة، وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة.
حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم، وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة وفى اليوم رجال الغد، لا تجزعهم مصيبة ولا تبطرهم نعمة ولا يشغلهم فقر ولا يطغيهم غنى ولا تلهيهم تجارة ولا تستخفهم قوة، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم، قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، وطأ لهم أكناف الأرض وأصبحوا عصمة للبشرية ووقاية للعالم وداعية إلى دين الله، واستخلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته.

التربية النبوية أثرت في الإيمان و الأخلاق و الميول:
انتقلت العرب والذين تلقوا هذه التربية النبوية و أسلموا من المعرفة العليلة الغامضة الميتة من خالقهم إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها، آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، آمنوا برب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين الملك القدوس السلام للمؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الخالق الباري المصور، العزيز الحكيم، الغفور الودود، الرؤوف الرحيم، له الخلق والأمر، بيده ملكوت كل شيء، يجير ولا يجار عليه، إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه، يثيب بالجنة ويعذب بالنار، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يعلم الحب في السماوات والأرض، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه، فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح الذي نالوه بسبب التربية النوية الصحيحة الدقية انقلاباً عجيبا، فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن، تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره، وجرى منه مجرى الروح والدم واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها، وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلا غير الرجل، وظهر منه من روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق. (السابق: ٨٦/٨٧).

أثر التربية النبوية وخز الضمير:
وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملى على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ومحاسبتها والإنصاف منها، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان وسقط الإنسان سقطة، كان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ويتحملها مطمئناً مرتاحاً تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة. (السابق: ٨٧).
وقد حدثنا المؤرخون الثقات في ذلك بطرائف لم يحدث نظيرها إلا في التاريخ الإسلامي الديني، فمنها ما روى مسلم بن الحجاج القشيري صاحب الصحيح بسنده عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني”، فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال: “يا رسول الله إني قد زنيت” فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر فرجم، قال فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها ظلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى، قال: إما لا فاذهبي حتى تلدى. قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرفة قالت: هذا قد ولدته، قال: فاذهبي فأرضعيه حتى تطعميه، فلما فطمته أتته بالصبى، في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فاستقبلها خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها فقال: “مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له”، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت. (صحيح مسلم، كتاب الحدود؛ باب: من شهد على نفسه بالزنا رقم ١٦٩٢).

أثر التربية النبوية في الثبات أمام المطامع و الشهوات:
كانت هذه التربية حارسة لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته، يملك نفسه النزع أمام المطامع والشهوات الجارفة وفى الخلوة والوحدة حيث لا يراها أحد، وفى سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً، وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم وأداء الأمانات إلى أهلها والإخلاص لله، ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره، وما ذاك إلا نتيجة هذه التربية النبوية رسوخ الإيمان ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان. (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص ٨٨).

أثر التربية النبوية في الأنفة وكبر النفس:
كأن هذا الإيمان بالله الحاصل من التربية النبوية رفع رأسهم عالياً وأقام صفحة عنقهم فلن تحنى لغير الله أبداً لا لملك جبار ولا لحبر من الأحبار، ولا لرئيس ديني ولا دنيوي، وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته، فهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة، فإذا نظروا إلى الملوك وحشمتهم وما هم فيه من ترف ونعيم وزينة وزخرف، فكأنهم ينظرون إلى صور ودمى قد كسيت ملابس الإنسان. (السابق: ٨٩).
عن أبي موسى قال: انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان اسجدوا للملك، فقال جعفر: لا نسجد إلا لله. (البداية ج ٣ ص : ٦٧).

أثر التربية النبوية في الخلاص من الأنانية إلى العبودية:
كانوا قبل هذا الإيمان الحاصل بالتربية النبوية في فوضى من الأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع، لا يخضعون لسلطان ولا يقرون بنظام ولا ينخرطون في سلك، يسيرون على الأهواء ويركبون العمياء ويخبطون خبط عشواء، فاصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها، واعترفوا لله بالملك والسلطان والأمر والنهي، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة، وأعطوا من أنفسهم المقادة واستسلموا للحكم الإلهي استلاماً كاملاً ووضعوا أوزارهم، وتنازلوا عن أحوالهم وأنانيتهم، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله ولا يرضون ولا يسخطون ولا يعطون ولا يمنعون ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره، ولما كان القوم يحسنون اللغة التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول الله وعرفوا الجاهلية ونشأوا عليها، وعرفوا معنى الإسلام معرفة صحيحة وعرفوا أنه خروج من حياة إلى حياة، ومن مملكة إلى مملكة، ومن حكم إلى حكم، أو من فوضوية إلى سلطة، أو من حرب إلى استسلام وخضوع، ومن الأنانية الى العبودية وإذا دخلوا في الإسلام فلا افتيات في الرأي ولا نزاع مع القانون الإلهي ولا خيرة بعد الأمر ولا مشاقة للرسول ولا تحاكم إلى غير الله ولا إصدار عن الرأي، ولا تمسك بتقاليد وعادات ولا ائتمار بالنفس، فكانوا إذا أسلموا انتقلوا من الحياة الجاهلية بخصائصها وعاداتها وتقاليدها إلى الإسلام بخصائصه وعاداته وأوضاعه، وكان هذا الانقلاب العظيم يحدث على أثر قبول الإسلام الحاصل من التربية النبوية من غير تأن. (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين:٩٠ /٩١).
همّ فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالبيت قلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضالة؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله! قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك النبي ﷺ، ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، وكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: يأبى الله عليك والإسلام. (زاد المعاد ج٢ ص ٣٣٢).

الخاتمة:
نحن اليوم في واقعنا المعاصر أشد ما نكون بحاجة إليه هو هذا المنهج النبوي العظيم، فلقد رأينا كيف تحولت حياة الصحابة من غياهب وظلمات الجاهلية الى نور الاسلام لينشروا السلام والعدل في كافة أرجاء المعمورة فهم كانوا منابر إصلاح في هذه الأمة، هكذا أعدهم النبي صلى الله عليه وسلم قادة مصلحين وقضاة عادلين ورجالا منصفين للحق سائرين بنور الله عز وجل، فلو وجد هذا المنهج في هذا العصر لرأينا تطورات إصلاحية في هذه الأمة التي أضعفها وأضناها البعد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المربي هو اللبنة الأساس في تكوين سلوك الفرد وتوجهاته وهو أساس الإصلاح.

المصادر:
1. صحيح مسلم
2. زاد المعاد
3. البداية والنهاية
4. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات