قال الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن”.
كتب الأستاذ مصطفى حامد (أبو الوليد المصري) في موقع مافا مقالة طويلة عنوانها «المسلمون في انتظار العَود الحميد لمولانا عبد الحميد»، لم يراع فيها الإنصاف في قضية الاحتجاجات الشعبية في إيران، وفي قضية الجمعة الدامية في زاهدان، والدماء البريئة التي أريقتْ من أبناء أهل السنّة بغير حق، كما ابتعد عن الإنصاف تماما لما نسب بعض الافتراءات إلى فضيلة الشيخ عبد الحميد، إمام وخطيب أهل السنة في مدينة زاهدان.
سمّى أبو الوليد في مقالته، ما يجري في إيران بـ”الثورة التحررية التي تنادي بنزع الحجاب وحق المرأة في التعري تحركها قوى أجنبية”، والحقيقة أن ما يجري في إيران هذه الأيام، ليس إلا انتفاضة أخرى من ضمن سلسلة من الانتفاضات للشعب الإيراني التي لا علاقة لها بالقوى الأجنبية، لأن المحتجين هم الشعب الإيراني، وهذه الاحتجاجات ليست وليدة هذه الأيام، ولم تنشأ بسبب النزاع في الحجاب أو السفور، بل تعود إلى سنة 1441 عندما رفعت الحكومة أسعار الوقود، فاندلعت بعده احتجاجات قتل فيها أكثر من ألف وخمسمائة مواطن واعتقلت العشرات حسب الرواية الشعبية، و200 قتيلا حسب الرواية الحكومية. هكذا مضتْ هناك احتجاجات قبل سنة 1441 سجن فيها الكثيرون، وغالبية هؤلاء المعترضين لم يحتجوا بإثارة الغرب ولا بإشارتها، وليسوا دعاة التعري والتحرر المحظور، بل حملهم على النزول إلى الشوارع والميادين ما يعانونه من مشكلات وأزمات حادّة في البلاد، يشار إلى بعض عواملها فيما يلي:
1- المشكلة الاقتصادية:
هي المشكلة التي دمّرت البلاد وقصمت ظهر الشعب الإيراني؛ فإيران -كما ليست خافية على أحد- من أغنى بلاد العالم التي تحتوي على أنواع الثروات والموارد الطبيعية والبشرية، لكن الشعب الإيراني خسر ثروة عقود بسبب الهبوط الحادّ لقيمة العملة وغيرها من السياسات الاقتصادية، فالدولار التي كان سعرها في أوائل الثورة سبعة تومانات، وصل الآن إلى ثلاثة وأربعين ألف تومان! وأصبح الشعب الإيراني يسافر إلى بلاد أخرى لقوت يومه، بينما كان ذلك بالعكس قبل هذا، وزاد الطين بلة أن ثرواتهم تنفق في بلدان أخرى كسوريا، والعراق، واليمن، ولبنان وغيرها من البلدان، بينما الشعب يظل محروما جائعا.
2- انعدام الحريات:
ثار الشعب الإيراني عام 1979م لهدفين: الأول، لتنفق ثروات إيران داخل البلاد، ولا تنتهبها القوى الكبرى، والهدف الثاني: الحصول على الحريات المشروعة، كحرية الرأي، والتعبير، وحرية الأحزاب.
فلم تكن تلك الثورة من أجل حرية السفور وتناول الخمور ونشر الخلاعة، بل كانت ضد الاستبداد والاختناق، هكذا الانتفاضة في هذه الأيام انتفاضة ضد الاستبداد ولا يخفى أن هذا الاستبداد أشد وأنكى من الذي شهده الشعب في عهد الشاه، لأنه استبداد ديني، والشعب الإيراني يشعر اليوم أنه لا توجد حرية سياسية، ولا حرية القلم؛ فالقلم تحت الرقابة، والصحافة والإعلام تحت الرقابة، وقد شرّد عشرة ملايين من أبناء هذا الوطن من بلدهم، وأكثرهم نخب ومثقفون وعقول مفكرة.
3- الإقصاء السياسي:
من أبرز عوامل إشعال هذه الاحتجاجات، هو الإقصاء السياسي الذي مارسته الحكومة، حيث أقصي أهل الكفاءات والمؤهلون من البرلمان والوزارات وسائر المناصب والوظائف والرئاسات، وسُلمت المناصب العامة إلى الضعاف غير المؤهلين، فانتقلت الأمور المهمة إلى ضعفاء لا يرجى فيهم نفع ولا خير للشعب ولا الوطن.
أما بالنسبة إلى أهل السنة والجماعة الذين يشكلون ربع سكان البلاد (أي عددهم يتجاوز ٢٠ ميليونا) وينتشرون تقريبا في كافة مدن إيران، فإنهم يعانون مشكلات عديدة، حيث لم يتم توظيفهم في القوات المسلحة، والقضاء، وفي بعض الوزارات لا يوجد حتى سني واحد، سواء في المستوى الأعلى أو الأدنى، ولم يوظّفوا كمحافظ، ولا كرئيس، ولا كنائب رئيس الجمهورية، ومن بين 180 سفيرا للبلاد اختير سفيران من السنّة في بلاد نائية، وذلك بعد كل الجهود والمطالبات العديدة، أما في في المناصب العامة في العاصمة ووزاراتها فهي خالية من أهل السنة إلا في شكل جزئي للغاية، هكذا مراكز القوة والقرار فقد أغلقت أبوابها على أهل السنة منذ زمن.
كما أن أهل السنة يواجهون تحديات ومشكلات في قضاياهم الاعتقادية، ففي الكثير من المناطق لا يسمح لهم بإقامة صلاة العيدين وصلاة الجمعة، وفي الأماكن التي لديهم مصليات يواجهون المشكلات أيضا لإقامة الصلوات الخمسة، بحيث تسارع قوات الأمن للتضيق عليهم، وهكذا يعانون من المشكلات في التعليم الديني ويواجهون التمييز، خاصة في المدن الكبرى كطهران.
هذه هي بعض العوامل والأسباب التي أدت لاحتجاجات الشعب الإيراني، وليعلم أنه لا أحد يخرج إلى الشوارع ليضحّي بدمه وروحه من أجل مصالح الإمريكان أو الغرب أو الكيان الصهيوني، ولقد قتلت قرابة خمسمائة شخص في الاعتراضات الأخيرة، وفي سنة 1441 قتل ألف وخمسمائة شخص، فيا ترى ما قيمة مصالح الإمريكان والغرب والكيان الصهيوني لدى الشعب الإيراني ليضحّي أحد بنفسه لهم في هذه البلاد؟!
الحقيقة أن هذا الشعب هو الشعب الذي ثار ودعم الثورة سابقا، وهؤلاء هم أبناء هذا الوطن، وفيهم مصابون في الحرب العراقية الإيرانية، وفيهم عوائل الشهداء الذين قتلوا في الحرب العراقية الإيرانية.
أمّا بالنسبة إلى “الجمعة الدامية” في زاهدان، فلم تشهد مدن أهل السنة أي احتجاج قبل الجمعة الدامية، لكن في الجمعة الدامية استهدف المصلون بالرصاص الحي من الجوانب الأربعة وهم في المصلى يؤدون فريضة الجمعة، وقتلوا بلا هوادة. وما يقال عن هجوم على الشرطة في الجمعة الدامية في زاهدان بالسلاح، فهو كذب صريح، بل كان التراشق بالحجارة من جانب المصلين بعدما أطلقت القوات الحكومية النار على المصلين وقتلوا قرابة مائة مصل، وجرحوا مئات في غضون ساعتين، ومن هؤلاء الجرحى من قطعت رجله، والبعض منهم قطع حبلهم الشوكي، والبعض منهم شلت أرجلهم أو أيديهم. وبقي السؤال في أذهان كافة أهل السنة في إيران وكل أحرارها، ما جريمة هؤلاء المصلين ليقتلوا بهذه القسوة؟! سادت أهلَ السنة براكين من الغضب والثأر، وكادت المحافظة بعد هذه الجريمة البشعة أن تشتعل، لولا دعوة فضيلة الشيخ عبد الحميد إلى الهدوء، ولولا مخالفته العنف بكل أشكاله، ومنعه المجموعات المسلحة من القيام بأي عمل مسلح.
ادّعى أبو الوليد في مقالته أن الشيخ عبد الحميد رفض مقابلة الوفد رفيع المستوى الذي يمثل القيادة العليا وقمة الجهاز الاداري والسياسي، بدون إبداء أسباب إبداء الرفض!!
لو أن الأستاذ أبا الوليد كلف نفسه بتبيّن الخبر من مصادره، لعلم أن الوفد المذكور هو الذي رفض مقابلة فضيلة الشيخ وزيارة عوائل الشهداء، وطلب من الشيخ عبد الحميد أن ينطلق إليهم، بينما يقتضي الدين والعرف أن يزار المصاب وأصحاب التعزية في بيوتهم، وكان على الوفد أن يأتوا إلى الشيخ للتعزية على هذه المصيبة التي قتل فيها العشرات وجرح آخرون، كما قتل عدد كبير في مدينة خاش بعد مدة قصيرة بغير حق أيضا بنفس الطريقة الممنهجة، لذلك لم يرض عوائل شهداء الجمعة الدامية وكذلك غيرهم من المصابين أن يقابل الشيخ الوفد في مقرهم، وتمّت الموافقة للمقابلة في مكان آخر، حيث لقي الشيخ الوفد هناك، وتكلم معهم، لكن لم تتحقق من هذه المقابلة مطالب الشعب ولم يتوصل الطرفان إلى نتيجة مطلوبة.
ادعى أبو الوليد في مقالته أن “الشيخ عبد الحميد تغيرت حالته الفكرية”… كما شبّه الشيخ بالقذافي وأنور سادات وغيرهما من الذين ظهرت مفاسدهم على المرأى والمسمع وبعضهم آمن بالغرب وبفلسفاته، وحاول أن ينصح الشيخ بالاجتناب من المحور العلماني الصهيوني ومشيخات الخليج… !!
وهذا بلا شك زعمٌ باطل آخر منه، فمن ألقى نظرة ولو عاجلة في مواقف فضيلة الشيخ القديمة والحديثة وقارن بينها، لما وجد في أفكار الشيخ ومواقفه أدنى تغيير، فالشيخ لم يزل ولا يزال ثابتا في مواقفه التي يدين بها؛ فهو يؤمن بالوسطية والاعتدال في كل ما يقول ويرى، وهو لا يزال داعيا إلى الوسطية والعدل، مركّزا على مبدأ أن الإسلام هو الدين الكامل الصالح لكل زمان ومكان، وأن الشريعة الإسلامية في صالح الناس والحكومات جميعا، فليثبت الكاتب بالدليل تغيير موقف فضيلة الشيخ عبد الحميد المفاجي! ولا يتكلم رجما بالغيب.
ثم أهل السنة في إيران مكوّن مستقلّ تماما، لا هم في الجبهة الغربية ولا في الجبهة الشرقية؛ لا ينتمون إلى الشرق (الروس والصين) وعملائهم، ولا إلى الغرب والإمريكان وعملائهم، لكنهم يعتقدون بضرورة التعامل البنّاء وإقامة العلاقات مع كافة العالم على أساس المصالح المشتركة، ويرون أن بلادهم يجب أن تكون في تعامل مع كافة البلاد الإسلامية وغير الإسلامية فيما يعود بالنفع إلى البلاد، وهم يعتقدون بالتعايش السلمي والتسامح، ويرون أن الدين الإسلامي دين التعايش السلمي ودين الحوار، ودين التعقل، وأن بلادهم يجب أن تكون أكثر استقلالا مما عليه الآن. لا ندري ماذا يعني الكاتب بنصحه الشيخ الاجتناب من المحور العلماني! فهل سمع أو وجد الكاتب نصا من الشيخ يدعم هذا المحور فكريا أو ثقافيا؟!
اعتبر أبو الوليد في مقالته مطالبة فضيلة الشيخ عبد الحميد للجمهورية الإسلامية بوجوب اعترافها بحقوق المتظاهرات من النساء من مظاهر التحول في موقف الشيخ!
هذه زلة أخرى للكاتب، فالشيخ عبد الحميد يرى المظاهرات السلمية من الحقوق المسلمة لكل من ظلم وهضم حقه، رجلا كان أو إمرأة، ولا شك أن النساء المتظاهرات في إيران لا تنحصر قضيتهن في الحجاب؛ لأن الكثير منهن ملتزمات محجبات، لكن القضية قضية التهميش والإقصاء والعنف الذي تمارسه الحكومة ضد الشعب بأكلمه، رجالا ونساء، وإلا فموقف الشيخ عبد الحميد في قضية حجاب النساء موقف عامّة أهل السنة والجماعة، كما صرح بذلك مرارا في خطبه يوم الجمعة وفي مناسبات مختلفة، وإن شاء الكاتب فليراجع خطبه في موقعه.
وفي ختام مقالته افترى ابو الوليد على الشيخ لما ادعى أنه طالب بإعطاء الحقوق للطائفة البهائية كأحد طوائف المسلمين!!
ففضيلة الشيخ لم يقل أبدا بتصنيف البهائية كطائفة من المسلمين، بل طالب بمراعاة حقوق المواطنة للبهائية التي تعيش في إيران وبالاجتناب من قمعهم؛ فالبهائية داخل إيران لا تراعى حقوقهم. هذا وقد طالب فضيلته بمراعاة الحقوق الإنسانية لجميع الأقليات الدينية والمذهبية التي تسكن في إيران كاليهود، والنصارى، والزرادشتية، والدراويش، كما طالب بحقوق كافة الأقليات القومية، وهذا من منهج فضيلة الشيخ أنه يرى دعم حقوق الأقليات الدينية والقومية، ويؤمن بأن الإسلام دين الرحمة والسعة، لا مجال فيه لضيق النظر، ويرفض فضيلته القشرية والجمود وقصر الأفق، أينما كانت وممن صدرت، فإن كانت في جماعات محسوبة على أهل السنة فالشيخ يرفضها تماما، ويشهد الداني والقاصي بوسطية منهج الشيخ واعتداله، ولقد سلك الشيخ على هذا الاعتدال في كل مواقفه الحديثة والقديمة، ولا يزال متمسكا به، يمد يد التفاوض والحوار، ويرفض العنف والقمع بكل صوره.
في الختام نرى من اللازم أن ننصح الأستاذ أبا الوليد بأن فضيلة الشيخ عبد الحميد، إمام وخطيب أهل السنة يعيش داخل البلاد؛ يعيش مع الشعب الإيراني شيعة وسنّة، وله صلة وثيقة بمختلف الطبقات من الشعب، ولا شك أنه في قضية الاحتجاجات الشعبية وكذلك قضية الجمعة الدامية صاحب البيت، وصاحب البيت أدرى بما في البيت، وكان على أبي الوليد أن يجعل قول الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة” نصب عينه في كل ما يصله من الأنباء بشأن فضيلة الشيخ عبد الحميد وأهل السنة في إيران وقضاياهم، وليجتنب أخْذ الأنباء من المصادر التي لا تنصف أهل السنة ولا تعدلهم، وليتأكد من صدق الأخبار والروايات ويتبيّن صحتها من مصادرها الرئيسة مثل موقع فضيلة الشيخ عبد الحميد وموقع سني أون لاين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تعليقات