اليوم :29 March 2024

اختبار إبراهيم عليه السلام (تفسير آيتي 124و 125 من سورة البقرة)

اختبار إبراهيم عليه السلام (تفسير آيتي 124و 125 من سورة البقرة)

وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿١٢٤﴾

التفسير المختصر
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما} بأن أعطيك النبوة، أو أزيد من أمتك {قال ومن ذريتي} أي: وتعطى النبوة لذريتي أيضا، {قال} سيتحقق ما طلبته، لكن هذه هي الضابطة : {لا ينال عهدي} أي: النبوة {الظالمين} لكن ستنال بعض المطيعين النبوة.

فقه الحياة أو الأحكام
بيّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية اختبار نبيه سيّدنا إبراهيم، وكيف اجتاز مراحل الاختبار ناجحا، وذكر ما منح من النعم والجوائز من ربّه سبحانه وتعالى، ثم ذكر سؤال إبراهيم ودعائه لذريته بالإمامة، وبيّن تلك الضابطة التي تسبب نيل الإمامة للذرية.

سيّدنا إبراهيم الخليل واختباراته:
وههنا أمور تطلب التأمل والتدبّر في قضية اختبار سيّدنا إبراهيم عليه‌ السلام، وهي كالتالي:
1ـ أنّ الاختبار لا يكون إلا لاستكشاف صلاحية الممتحن، ولا شكّ أن الله خبير بكل حالة، عليم بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فلماذا اختبر خليله إبراهيم، وما هي الغاية من هذا الاختبار؟
2ـ ما هي الموادّ الاختبارية؟
3ـ إلى أي مدى نجح سيدنا إبراهيم في الاختبار؟
4ـ ماذا منح سيدنا إبراهيم من الجوائز وما هي صفتها؟
5ـ ما هي القاعدة الدائمة للحصول على هذه الجائزة؟
وإليكم الإجابة عن هذه الأسئلة فيما يلي:
1ـ لماذا اختبر سيدنا إبراهيم؟ إنّما أراد الله تعالى أن يربيه ويعطيه أوسمة الرقي والكمال تدريجاً، ويدل على هذا قوله تعالى {ربه}، فالربوبية معناها إيصال الشيء إلى الكمال بالتدريج. فوصف الربوبية في الممتحن يقتضي لطفه بعبده ورسوله، فلم يُختبر إبراهيم عليه السلام لأجل خطأ صدر منه، وإنّما ابتلاه ربه واختبره ليجتاز مراحل التربية، ويصل إلى درجات الكمال ويتجلّى رشده، وتعلو مرتبته، وفي تقديم المفعول في آية {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه} إشارةٌ إلى جلالة شأن سيّدنا إبراهيم عليه ‌السلام وعلو مرتبته.
أمّا الموادّ الاختبارية فذكرها القرآن، وعبّر عنها {بكلمات}، فما المراد بالكلمات في قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات}. جرى اختلاف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه‌ السلام، ونقلت عن الصحابة والتابعين أقوال؛ منهم من قال عشرة أشياء، ومنهم من قال: ثلاثون شيئاً، ومنهم من قال غير ذلك، إلا أنّ الأرجح أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، كما ذهب إليه أئمة التفسير كابن جرير، وابن كثير.
قال أبوجعفر ابن جرير ما حاصله: أنّه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه هو المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع.
(ابن كثير: 1/158. قال ابن كثير: وقلت: والذي قاله أولاً من أنّ الكلمات تشتمل على جميع ما ذكر، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله، لأنّ السياق يعطي غير ما قالوه. والله أعلم. 1/159).

الثبات في العمل والصلاح في الخُلُق خير عند الله من البحوث العلمية
ومن الجدير بالذكر أنّ اختبار سيّدنا إبراهيم عليه‌ السلام لم يكن في مجال البحوث العلمية بل كان في المجالات الخلقية والعملية، ومن المعلوم أنّ حسن العمل والخلق خير من التحقيقات العلمية عند الله تعالى.
وإليكم نبذة مما اختبر الله به خليله عليه‌ السلام، فلمّا أراد الله سبحانه وتعالى أن يشرف سيدنا إبراهيم عليه‌ السلام بخلّته ابتلاه واختبره بأمور شاقةٍ، انظر كيف كان عقائد قومه وتقاليدهم؟ كيف كانوا مستغرقين في عبادة الأصنام؟! ثم أمر الله إبراهيم بالدعوة إلى التوحيد، فدعا قومه إلى عبادة الله وحده بالجرأة والاستقامة، وأدان الوثنية، وذمّ التقاليد الشركية، وجاهد في سبيل الله، فقامت القيامة في القوم، فخالفوه، وجادلوه بالباطل، وعزموا على إحراقه وقتله، لكن وقف خليل الله عليه السلام صامداً في وجه هذه المشكلات، ولم يتزعزع، فكتب الله له النجاح، وسخّر له النار، وأمرها أن تكون برداً وسلاماً عليه، فصارت النار برداً وسلاماً، ويقال: إنّ النار صارت باردةً في كل مكان وفي كل قطر؛ لأنّ الأمر كان عامّاً.
ذكرت في قوله تعالى {يا نار كوني برداً وسلاماً} كلمتان «البرد والسلام» وذلك لأنّ البرد إذا اشتد يكون مؤذياً ومضراً إلا أن يكون سلاماً. لأجل هذا جعل الله سبحانه النار برداً وسلاماً كي لا تضرّ نبيه وخليله.
فلمّا خرج إبراهيم عليه‌ السلام من هذا الاختبار ناجحا، اختبره الله بأمر آخر، وهو الأمر بالهجرة إلى الشام، فغادر قومه ووطنه ابتغاء وجه الله، وتوجّه إلى الشام ومعه أهله وأولاده.
(آنكس كه تورا شناخت جان را چه كند فرزند وعيال وخانمان را چه كند).
[ترجمة الشعر]
إنّ الذي وصل إلى معرفتك ماذا يفعل بنفسه وماذا يفعل بأولاده وأهله وأسرته.

أقام إبراهيم عليه‌ السلام بالشام، ولم تمض مدة طويلة على إقامته هنالك حتى جاءه أمر الله سبحانه وتعالى بمغادرة الشام والهجرة منها، فخرج من الشام ومعه أهله وجبرئيل دليله، فكلما مرّوا بمكان خصب اقترح إبراهيم بالنزول فيه، ويقول جبرئيل له: لم نؤمر بالنزول هنا وإنما المنزل قدّامنا، فلما بلغوا منطقة قاحلة ضاحت جبالها واشتد حرّها نزلوا فيها، وهذا هو المكان الذي قدّر الله تعالى أن يكون بلداً آمنا، وههنا بيت الله الحرام يرفع إبراهيم قواعده، ويبنيه من جديد.
ولمّا نزل إبراهيم وأهله في هذه المنطقة القاحلة وفي هذا الوادي الذي لا زرع فيه ولا نبات، اختبره الله بأمر آخر، وذلك أن يترك أهله وذريته ههنا، ويعود وحده إلى الشام، فيمتثل الخليل عليه ‌السلام أمر ربه، ويتوجه إلى الشام، ويعجل في ذلك حتى لا يجد فرصة ليخبر أهله، فتراه زوجته، وينادي يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فتقول له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فتقول له: آلله أمرك بهذا؟ يقول: نعم. فتقول راضية مطمئنة: إذاً لا يضيعنا. ثم ترجع أم إسماعيل، وتمكث في الوادي وليس معها إلا صبيها، وليس عندهما من الطعام والماء إلا ما وضع إبراهيم عليه‌ السلام من تمر في جراب وماء قليل في سقاء، فجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فتنطلق كراهية أن تنظر إليه فتجد الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فتقوم عليه ثم تستقبل الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلا ترى أحدا، فتهبط من الصفا حتى إذا بلغت الوادي ترفع طرف درعها ثم تسعى سعي الإنسان المجهود حتى تجاوز الوادي، ثم تأتي المروة فتقوم عليها فتنظر هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، ففعل ذلك سبع مرات، من مناسك الحج ذكرى لها إلى يوم القيامه كما قال النبي صلّى ‌الله‌‌عليه‌ وسلّم «فذلك سعي الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت، فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وجعلت تغرف الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.
(مقتبس من حديث رواه ابن عباس، وأخرجه الإمام البخاري في صحيحه: 4/143، ط: دار الطوق النجاة)
فلما ظهر ماء زمزم جاءت الطيور أولا، ثم جاء أناس من “جرهم” فنزلوا هناك، فيترعرع إسماعيل عليه ‌السلام ويكبر ويبلغ السعي، وقد يأتي إبراهيم عليه ‌السلام بإذن ربه ويزور أهله وولده ثم يرجع ثم يأتي الامتحان الثالث من الله سبحانه فيؤمر بذبح ولده الوحيد وفلذة كبده، كما قال سبحانه وتعالى: «فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين».
فلما جاء أمر السماء أخذ إبراهيم ولده الوحيد وخرج إلى “منى” لامتثال أمر الله ولكن الله لم يُرد ذبح الولد وإنما أراد اختبار الوالد الشفوق، وهكذا كانت الرؤيا؛ لأنّه لم ير في المنام أنّه ذبحه وإنّما رآى أنّه يحاول ذبحه فلما فعل ذلك ناداه ربّه، قد فعلت ما أمرت به «وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين»(الصافات: 105).
وفداه الله بذبح عظيم وسار عمل إبراهيم سنة باقية خالدة إلى الأبد كما قال النبي صلّى ‌الله‌‌عليه ‌وسلّم حينما سئل عن الأضاحي فقال: “سنة أبيكم إبراهيم” هذه هي الاختبارات الصعبة التي اجتازها الخليل عليه‌ السلام بنجاح، وكلّف أيضا بإنجاز أعمال تسمّى بخصال الفطرة، وقد كلّفت بها الأمم بعده، ومن تلك الخصال الطهارة والنظافة، وقد أوصى الرسول الخاتم أمته بجميع تلك الخصال، ونقل ابن كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنّه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم قال الله تعالى:{وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قلت له وما الكلمات التي ابتلي بهنّ، فأتمهن قال: الإسلام ثلاثون سهماً، منها عشر آيات في “براءة” {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين}، وعشر آيات في أول سورة المؤمنون {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغومعرضون، والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}، وعشر آيات في سورة الأحزاب{ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما }. (تفسير إبن كثير: 1/529، ط: دارالفتح ـ الشارقة).
يعلم من رواية ابن عباس رضي‌ الله ‌عنه أنّ جميع الصفات العلمية والعملية والخلقية التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم، ذكرها الله تعالى في ثلاث سور من القرآن. وهذه هي الصفات التي عبّر عنها بالكلمات، اختبر الله بها الخليل عليه‌ السلام فقال:{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}.
وهنا تمّ الجواب عن السؤالين من الأسئلة الخمسة التي ذكرناها، وبقي الجواب عن الأسئلة الثلثة الأخيرة؛ إلى أي مدى كان نجاح سيدنا إبراهيم في هذا الاختبار؟
فأجاب الله سبحانه وتعالى عن هذا السؤال بقوله:{وإبراهيم الذي وفّى }فشهد القرآن أنّه حصل على النجاح بالشرف الأول وكان السؤال الرابع، ماذا منح سيدنا إبراهيم من الجوائز جزاء للنجاح؟ فالجواب أنّه منح الإمامة كما قال الله سبحانه وتعالى: «قال إني جاعلك للناس إماما» فنال إمامة الأجيال القادمة مدى التاريخ؛ وتبين من هذا أنّ المؤهلات لإمامة الخلق ليست هي الشهادات التي تنالها الإنسان من المعاهد والجامعات بعد الدراسة والتحقيق العلمي، بل ما يؤهل الإنسان لمنصب الإمامة هي الصفات الثلاث التي بينت في القرآن، فإذا حصل الإنسان عليها أوطبقها في نفسه يستحق الإمامة، ولا يكتمل الإنسان إلا بها كما لا يمكن الحصول عليها إلا بالحجة والمصابرة والاستقامة كما قال الله سبحانه وتعالى: «وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون».
وقد لخّصت الصفات الثلاث التي سبق ذكرها في كلمتين «الصبر واليقين»
فالصبر هوالكمال العلمي والخلقي واليقين هوالكمال الاعتقادي والعملي، وقد قيل: لا تنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين.
وكان السؤال الخامس ما هي الضابطة لنيل الإمامة للأجيال القادمة وما معنى قوله تعالى:«لا ينال عهدي الظالمين»؟
وتوضيح ذلك أن منصب الإمامة، وهي الخلافة والنيابة الإلهية لا تمنح لشخص عصى الله وخالف أمره، إذن يجب على المسلمين أن لا يختاروا أميراً أوخليفة لا يطبّق شرع الله على نفسه وعلى المجتمع.

****

فضائل مكّة وخصائص البيت الحرام
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿١٢٥﴾

المفردات اللغوية:
ومثابة مصدر من ثاب يثوب مثابا ومثابة أي مرجعا يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه.

التفسير المختصر
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} موضعا للعبادة {وأمنا} وموضع أمن لا يتعرض لأهله {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وأمرنا أخيرا الأمة المحمدية أن يصلوا إليه لأجل البركة {وعهدنا} في وقت بناء الكعبة {إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي} لأجل العبادة {للطائفين والعاكفين والركع السجود}.

فقه الحياة أو الأحكام
قصّة هجرة الخليل إلى مكّة المكرّمة وبناء البيت:
في هذه الآية إشارة إلى تاريخ الكعبة المشرّفة وبناءها من جديد بعد الخليل وابنه، وإشارة إلى بعض خصائص بيت الله الحرام وأحكامه، قد ذكرنا هذا المطلب في كثير من آيات القرآن في سور مختلفة تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل. جاء في سورة الحج:{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق}.
ذكر ابن كثير عن مجاهد وغيره من أهل العلم هذه القصة في تفسيره: “أن الله لما بَوَّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه بإسماعيل وبأمّه هاجر، وإسماعيل طفل صغير يرضع، وحملوا – فيما حدثني -على البُرَاق، ومعه جبريل يَدُلّه على موضع البيت ومعالم الحَرم. وخرج معه جبريل، فكان لا يمرّ بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضِه. حتى قدم به مكّة، وهي إذ ذاك عضَاة سَلَم وَسَمُر، وبها أناس يقال لهم:”العماليق” خارج مكة وما حولها. والبيت يومئذ ربوة حمراء مَدِرَة، فقال إبراهيم لجبريل: أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجَرَ أمَّ إسماعيل أن تتخذ فيه عَريشًا.
(ابن كثير: 1/205، ط: الرسالة)
ذكر ابن كثير عن مجاهد وغيره أن سيدنا إبراهيم عليه‌ السلام كان يسكن في الشام وكان إسماعيل آنذاك طفلا رضيعاً فلما أمر الله بتطهير بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود جاءه جبرئيل بالبراق فخرج معه سيدنا إبراهيم مع أهله وولده، فكلما مرّوا بقرية يسأل سيدنا إبراهيم جبرئيل هل ههنا ننزل؟ فيقول جبرئيل: المنزل في القدام، حتى إذا وصلوا بواد ليس فيها إلا عضاه وكان يسكن حولها أناس يقال لهم عماليق، وكان في الوادي تلّ وهو مكان البيت، هنالك سأل إبراهيم هل ههنا ننزل؟ قال جبرئيل نعم؛ فنزل إبراهيم مع أهله وولده وأسكن إبراهيم ولده إسماعيل وأمه هاجر هناك وليس معهما إلا تمر وماء قليل في سقاء وتمر في جراب. وأمر إبراهيم أن يغادر مكة وأهله فلما قفى منطلقاً تبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، قالت له: آلله أمرك بهذه؟ قال نعم، قالت إذن لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم عليه‌ السلام حتي إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهولاء الدعوات فرفع يديه فقال: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون»(إبراهيم: 37)
وكان الله تعالى أمر سيّدنا إبراهيم حينما ترك أهله وولده أن يطهر بيته، وكان الخليل يعرف جيداً أنّ المراد بالتطهير أن يطهر البيت من كل رجس حسي أودنس معنوي كعبادة الأوثان والشرك. فدعا إبراهيم عليه‌ السلام: «رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام» وكان يعرف جيداً أنّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بتوفيق الله وعونه فاستنصر ربّه في تحقيق ما أمر به. وسأل الله سبحانه أن يجنّبه وذريته من عبادة الأصنام والشرك، ولعله كان يخاف أن يأتي أناس من ذريته فيتخذوا البيت إلهاً ويقعوا في الشرك فدعا الله أن يحفظه وذريته.
وبعد أن فارقهم بإذن الله أشفق عليهم وسأل ربّه أن يرزقهم من الثمرات، لأنّه كان يعرف الأرض التي أسكنهم فيها أنّها لا تنبت زرعاً. فلما فرغ سيدنا إبراهيم من هذا الدعا توجه إلى بلاد الشام، وبقي إسماعيل وأمه في مكة عند بيت الله المحرم وليس لديها إلا تمر في وعاء وماء قليل في سقاء فنفد التمر والماء فلما أحست الأم بالعطش ورأت ولدها عطشان بحثت عن الماء فلم تجد، فصعدت الصفا فلم تجد فجاءت إلى المروة وهي تسعى لعلها تجد ماء وهذا هو السعي الذي جعله الله من مناسك الحج والعمرة ذكرى للمسلمين.
في سورة الحج حيث قال الله تعالى:{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } إنما أراد الله تطهير البيت وإسكان ذريته عنده فقط؛ ولم يأمره ببناء البيت بعد، وكان إسماعيل آنذاك رضيعاً، لكن في سورة البقرة حيث قال:{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي }أراد بذلك بناء البيت وكان إسماعيل حينئذ شابّاً متزوّجاً فأمر الله الوالد والولد كليهما ببناء البيت يشاركان معاً في هذا العمل الجليل.
وقد أخرج الإمام البخاري «ثم جاء [إبراهيم] بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: “يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر” قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني» (صحيح البخاري، رقم الحديث 3364، ص616، ط: دارالكتب العلمية).
فكان الباني هو إبراهيم عليه ‌السلام والمعين إسماعيل عليه ‌السلام كما يدل على ذلك آية «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل» حيث تشير الآية إلى أنّ إبراهيم هو الصانع وإسماعيل هو المعين له في البناء. ويُعلم من التدبر في الآيات التي نزلت بشأن الكعبة أنّ الكعبة كانت موجودة قبل إبراهيم، وهذا ثابت تاريخياً وتدلّ عليه بعض الأحاديث؛ لأنّ الله سبحانه ذكر في سورة الحج «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت» وذكر في سورة البقرة «وطهر بيتي للطائفين» ولا تدلّ أي آية أنّ إبراهيم أمر ببناء البيت من البداية، ودلّت الروايات أنّ البيت انهدم عند الطوفان في زمن سيدنا نوح عليه‌ السلام ولم تبق إلا قواعده، فرفعها سيدنا إبراهيم بأمر الله تعالى، فليس سيدنا إبراهيم هو الباني الأول إذن من هو الباني الأول للكعبة ومتى بناها؟ فاعلم أنّه لا يوجد حديث صحيح ولا رواية توثق بهذا الشأن، ولكن يثبت من روايات أهل الكتاب أنّ الملائكة هم الذين بنوا البيت قبل أن يخلق آدم عليه‌ السلام، ثمّ جدّد آدم بناءها، وبقي بناء آدم إلى زمن سيدنا نوح عليه‌ السلام، ثم انهدم عند الطوفان وبقي في صورة تلّ إلى زمن سيدنا إبراهيم عليه ‌السلام فرفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قواعده، وجددا بناءه وبقي بناءهما إلى زمن سيدنا محمد صلّى ‌الله ‌‌عليه ‌وسلّم، غير أنّه وقع النقص والزيادة عبر هذه المدة إلى أن هدمه قريش وجددوا بناءه وقد ساهم النبي صلى الله عليه وسلم في بناءه.

الأحكام والمسائل المتعلقة بالحرم
1ـ تدلّ كلمة «مثابة» في قوله تعالى «وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا» أنّ الله سبحانه وتعالى منح الكعبة شرفاً دائماً ومن أجل ذلك كانت مرجعاً للناس فيؤمها الناس مرة بعد مرة، ويتمنون الرجوع إليها دائماً. وقال مجاهد:لا يقضي أحد منها وطراً(القرطبي: 2/110، ط: دارإحياء التراث العربي) [وفي تفسير القرطبي جاء بلفظ (منه)]. فكل من جاءها مرة ازداد شوقاً إليها وقال طائفة من أهل العلم: من علامات قبول الحج أنّ المرء إذا تشرف بالحج ورجع تشوق إليها مرة ثانية وهلّم جرّاً.
وهذا من خصائص بيت الله الحرام، لأنّ الأماكن الأخرى ولوكانت جميلة رائعة إذا زارها الإنسان مرّة واحدة يشبع منها، ولا يعود إليها إلا في بعض الأحايين، أمّا الكعبة والبلدة التي هي فيها يتمنى الإنسان العودة إليها مرة بعد أخرى، مع أنه ليست هناك مناظر طبيعية خلابة، ولا حدائق جميلة، ولا توجد هناك أي تجارة ممتعة رابحة، مع ذلك كله، يشتاق الناس إليها ويتمكن في قلوبهم حنين إليها، ويتحملون نفقات باهظة للوصول إليها، أليست هذه معجزة خالدة خُصّت ببيت الله الحرام؟
2ـ قوله تعالى «أمنا»
معناه المأمن، وليس المراد بالبيت ههنا الكعبة فقط بل المراد بالبيت ههنا الحرم كله، وقد أطلق البيت وأريد به الحرم أكثر من مرّة، مثل قوله تعالى: «هديا بالغ الكعبة» فمعنى الآية أنا جعلنا البيت مكان أمن للناس فلا يجوز لأحد أن يقتل أحداً أو ينتقم منه.(ابن عربي)
قال ابن العربي: وهذا اللفظ وإن كان ورد بالبيت فإن المراد به الحرم كله؛ لأنّ الفائدة فيه كانت وعليه دامت.(تفسير ابن عربي: 1/38، ط: دارالجيل ـ بيروت).
وكان المرسوم المتبقى من الملّة الإبراهيمية عند العرب أن المرء إن وجد قاتل أبيه أو أخيه في الحرم لا يتعرض له كما كانوا يحرمون القتال داخل الحرم، وقد أبقت الشريعة الإسلامية هذا المرسوم القديم، وإنّما أبيح الحرم لمدّة ساعات عند فتح مكة للنبي صلّى‌ الله ‌‌عليه ‌وسلّم ثمّ عادت حرمتها إلى الأبد، وقد أعلن بذلك النبي صلّى‌ الله‌‌ عليه ‌وسلّم في خطبة ألقاها عند فتح مكة.
(صحيح البخاري، ص 774، رقم الحديث: 4295، ط: دارالكتب العلمية) نصّ الحديث: «إنّ مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لإمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس».
ومن الجدير بالذكر أنّ الأمّة أجمعت أنّ الحرم لا يعيذ من يجب عليه الحدّ أو القصاص، بل يطبّق عليه الحد ويقتص منه. (أحكام القرآن للجصاص)
قال ابن العربي: وأما امتناع الحد فيه فقول ساقط، لأنّ الإسلام الذي هو الأصل وبه اعتصم الحرم، لا يمنع من إقامة الحدود والقصاص.(أحكام القرآن: 1/39، ط: دارالجيل)
لأنّ الله سبحانه يقول: “فإن قاتلوكم فاقتلوهم” وههنا مسئلة اختلفت فيها الأئمة هل الحرم يعيذ عاصياً ارتكب معصية خارج الحرم ثم دخله؟
يرى بعض الأئمة تنفيذ الحدود وكذلك القصاص في هذه الصورة أيضا، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله هذا الشخص وإن كان يجب عليه الحد، لأن في صورة إسقاط الحد يفتح باب للجرائم، ويقوم الفساد في العالم، ويتبدل الحرم إلى مأمن للمجرمين، لكن احتراما للحرم لا ينفذ الحد داخل الحرم، بل يجبر المجرم على الخروج من المحرم، وبعد الخروج منه ينفذ الحكم في حقه.

3-قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}
وفي تفسير القرطبي، وفي البخاري: المراد بالمقام هو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه. قال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه غير أنّه أذهبه مسح الناس بأيديهم.
وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة وعطاء، الحج كله. وعن النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم.(تفسير القرطبي: 2/113)
ولعلّهم أرادوا بذلك أنّ ركعتي الطواف يمكن أدائهما في الحرم كله، وهذا هو رأي فقهاء الأمة.
4-لقد ورد الأمر بإتخاذ مقام إبراهيم مصلى في قوله تعالى {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقد طبّق النبي صلّى ‌الله ‌‌عليه ‌وسلّم هذا العمل في حجة الوداع حيث قام خلف مقام إبراهيم وجعل المقام بينه وبين الكعبة وصلى ركعتين. وقال الفقهاء من لم يستطع أن يقوم خلف المقام متصلا به فلا عليه أن يقوم بعيدا من مقام إبراهيم ولكن يجعله بينه وبين الكعبة، فيعد بذلك ممتثلا لأمر الله سبحانه وتعالى.
5ـ دلّت الآية على وجوب ركعتي الطواف.(كذا قال الجصاص) ولكن أداء الركعتين خلف المقام سنة وليس بواجب، فإن أداهما في مكان آخر من الحرم جاز.(أنظر: أحكام القرآن للجصاص: 1/74) عبارة الجصاص: «دلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف ودل فعل النبي صلّى ‌الله ‌‌عليه ‌وسلّم لها تارة عند المقام وتارة عند غيره على أنّ فعلها عنده ليس بواجب.»
قال الشيخ على القاري في المناسك ما معناه: أن ركعتي الطواف واجب، وأفضل الأماكن لأدائها خلف المقام، لكن إن لم يتيسر أدائها خلف المقام، يسقط الوجوب إن أداها في الحرم أو خارج الحرم أينما تيسر له. ولا يجب الدم عليه إن أداها خارج الحرم عند الجمهور، إلا أن الإمام مالك رحمه الله يرى وجوب الدم في هذه الصورة.
6ـ قوله تعالى: {طهّر بيتي} الأمر بالتطهير يشمل التطهير من الأدناس والنجاسات الظاهرة كما يشمل التطهير من النجاسات المعنوية مثل الحسد والبغضاء واتباع الهوى، والكبر، والرياء ودلّت كلمة «بيتي» على أنّ الحكم يشمل المساجد كلّها؛ لأنّها كلها بيوت الله كما قال عز من قائل: {في بيوت أذن الله أن ترفع}.
روى عمر الخطاب رضي‌ الله ‌عنه أنّه سمع صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا؟ أتدري أين أنت؟ (تفسير القرطبي: 1/115)
يجب احترام المساجد، ولا ينبغي رفع الأصوات فيها، ويجب تطهيرها من سائر النجاسات كما ينبغي للداخلين فيها أن يتطهروا وينظفوا ثيابهم، ويجتنبوا من كل ما له رائحة كريهة، وكذلك عليهم أن يطهّروا قلوبهم من الشرك والنفاق وسوء الأخلاق مثل الكبر والحسد والبغضاء والرياء. قال النبي صلّى ‌الله ‌‌عليه ‌وسلّم: من أكل من هذه الشجرة المنتنة (البصل ومثله) فلا يقربنّ مساجدنا.
(الجمع بين الصحيحين للحميدي: 2/243، ط: دارابن حزم. الثانية ـ صحيح ابن حبان: 5/440، ط: مؤسسة الرسالة. الثانية).
وقال عليه‌ السلام جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم.(سنن ابن ماجة: 1/247، ط: دارالفكر ـ بيروت).
وذلك لأنّه يخشى من ناحيتهم سوء الأدب والنجاسة.
7ـ قوله تعالى: «للطائفين والعاكفين والركع السجود» تدلّ كلمات هذه الآية على أنّ الغاية من بناء البيت هوالطواف والاعتكاف والصلاة.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «الطواف قبل الصلاة»
(أحكام القرآن للجصاص: 1/76)
قال الجصاص: دل على أنّ فعل الطواف للغرباء أفضل من فعل الصلاة… وقد دلّ أيضاً على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أونفلاً.(أحكام القرآن للجصاص: 1/76)

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات