اليوم :19 March 2024

رحلة إلى الهند؛ دروس وانطباعات

رحلة إلى الهند؛ دروس وانطباعات

انتباه: دعي فضيلة الأستاذ المفتي محمد قاسم القاسمي والأستاذ المفتي عبد القادر العارفي ـ حفظهما الله ـ إلى المشاركة في مؤتمر المجمع الفقهي بالهند،الذي عقد في مدينة بدر بور مركز ولاية أسام وهذا المجمع أسسه القاضي العلامة مجاهد الإسلام القاسمي عام 1988 في الهند، وتمت الدعوة لأول ندوة فقهية له في ابريل عام 1989 في جامعة (همدرد نغر) في دلهي، اجتمع فيها مائتان وعشرون من أهل العلم والفقه. وعقد للآن أربع عشرة ندوة في مختلف أماكن البلاد، تم فيها نقاش أربعين موضوعاً تتعلق بقضايا معاصرة. والشیخان علاوة على مشاركتهما في هذا المؤتمر اغتنما الفرصة فقاما بزيارة المدارس الدينية والمؤسسات الإسلامية، كندوة العلماء، ودار العلوم ديوبند، ودار العلوم سهارانفور وغيرها من الأماكن. وقد ذكر الأستاذ المفتي محمد قاسم حفظه الله انطباعاته في جلستين مع أساتذة جامعة دار العلوم زاهدان، ولأهمية هذه الرحلة ونفاستها رأینا نقلها إلى العربية ونشرها لينتفع بها قراء الناطقين بالضاد. الإدارة.

نبذة عن الهند:
الهند تشكل أكثرية غير مسلمة وتحتل مكانة عالية في العالم الإسلامي، وهي من معاقلنا الفكرية ومصادرنا العلمية بعد الحرمين الشريفين. وتشبه الهند منطقتنا من الناحيتين؛ الأول: من حيث الثقافة التي تقتضيها طبيعة الجوار، الثاني: من حيث الأقلية حيث مسلمو الهند أقلية، ولكنهم أقلية دينية ونحن أقلية مذهبية وإن كنا الأكثرية الثانية في هذه البلاد. ولكن من اللافت للنظر أن هذه الأقلية لم يحافظوا على عقيدتهم وهويتهم فحسب بل استطاعوا أن يؤثروا على العالم العربي والعجمي، وينجبوا عباقرة في كثير من العلوم والفنون، ويثروا بإنتاجاتهم العلمية والأدبية مكتبات العالم. ومن ناحية أخرى فإن لغة بلادنا (الفارسية) كانت يوما لغة الحكومة الرسمية بل لغة التأليف والتصنيف أيضا، وقد سافر كثير من علماءنا ومشايخنا الكبار من هذه البلاد إلى الهند، واستفادوا من منهل علماءها ومشايخها. لهذا السبب وغيره من الأسباب نرغب إلى زيارة هذه البلاد، ونحب التعرف عليها وعلى طبيعتها ومشايخها وعلماءها.

مجمع الفقه الإسلامي
كان الدافع الأساسي لهذا السفر هو المشاركة في مجمع الفقه الإسلامي الهند Islamic Fiqh Academy India) ) وقد أسس هذا المجمع قبل 25 عاما، أسّسه مولانا مجاهد الإسلام القاسمي، وتوفي قبل عشر سنوات، وكان رجلا قويا مبدعا، فقيها متقنا، خبيرا بقضايا العصر المستجدة، وعارفا بمزاج الناس وطبائعهم، وأسلوبه المبتكر المتميز لا يوجد نظيره في العالم العربي والإسلامي.
عنوان المجمع وإن كان خاصا للفقه إلا أن أعماله وإنجازاته أوسع وأشمل من دائرة الفقه، حيث يعالجون في خلال مؤتمراتهم الفقهية القضايا العالقة في بلادهم، ويستعرضون أحوال العالم الإسلامي مع تقديم حلول طيبة للخروج من الأزمات، ويستدعون في هذا المجال كبار الشخصيات من أنحاء الهند وخارج الهند، مثلا الإمام أبو الحسن الندوي وإن لم يشتهر بالفقه إلا أنه كان عضوا لهذا المجمع ويشترك في حفلاته.
وهذا المجمع الفقهي يعقد مؤتمرات في أنحاء الهند، ويدعو المجامع الفقهية الأخرى في هذه البلاد إلى الانضمام، ويختار محل عقد المؤتمر في كل عام في ناحية من نواحي البلاد حسب الظروف والمتطلبات، وفي هذا العام اختاروا مدينة (بدربور) مركز ولاية آسام ، وهذه المنطقة تقع على تخوم بنغلاديش، وقد كانت بادئ الأمر جزءا من بنغلاديش ثم انفصلت عنها، وللمسلمين هناك ولاية شرعية ولهم مرافعات وقوانين شرعية ولهم أمراء شرعيون، وكان أمير شريعة آسام حبيب الرحمن. والمدرسة التي عقدت فيها الجلسة كانت صغيرة بالنسبة إلى المدارس الكبيرة، وقد رحبوا بنا واستقبلونا استقبالا حارا.
المسائل التي طرحت في هذا المؤتمر هي مسائل تتعلق بالقضايا الراهنة مثل كون الهندوس أهل كتاب أم لا مع العلم بأنهم يدّعون أن لهم كتابا ونبيا؟ وقد دار نقاش طويل حول هذه المسئلة، وأخيرا توصلوا إلى أن الهندوس ليسوا من أهل الكتاب، ولكن كيف يمكن المداراة معهم وهم يجاورونهم ويعايشونهم؟ فقد تكلم في هذا بعض الشخصيات مثل رئيس المدرسة الصولتية بمكة المكرمة، كما تكلم الدكتور سيف الله رحماني ومما قال في ضوء آية “والله يعصمك من الناس”: لو جعلنا الدعوة إلى الله نصب أعيننا مع برمجة وتخطيط دقيق وفقا لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله يعصمنا من كل أّذى، فلو كانت الدعوة على أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأمة تحفظ وتصان مهما كانت التحديات، والدعوة هي التي تضمن حفظنا وصيانتنا. والشيء الآخر هو أن تكون لنا جلسات وحوارات معهم، ونفضل التعايش السلمي معهم.
إن المسلمين هناك مع أنهم في أقلية رافعو الرأس لا يشعرون بمركب النقص والذل، لأنهم أصحاب رسالة ودعوة، ـ وإن كانوا بعض الأحيان يستهدفون من العناصر المتطرفة ولكنها شاذة ـ ، إنهم يعيشون عيشة آمنة لا يخافون في إظهار عقيدتهم ونشر دعوتهم في أي ناحية من نواحي الهند، إنهم أحرار في نشر الدعوة دون أي عدوان، وكانوا يقولون بأنهم ينعمون بنعمة الحرية في البيان ما لا ينعم به العالم العربي والدول الإسلامية.
وقد استغرق هذا المؤتمر ثلاثة أيام، وفي اختتامية المؤتمر عقدت حفلة تكريم للمتخرجين في الجامعة الإسلامية بدر بور التي كانت تستضيف المؤتمر، اشترك فيه 300 ألف من الناس بكل رغبة وأدب تام، وقد اشترك المشارکون في المؤتمر في هذا الحفل وخطبوا، وكانوا صريحين في بيان معتقداتهم، فهذا هو الاستفادة الضمينة من المؤتمر.
وقد أعطيت لنا الفرصة للكلام، وفي كلمتي شكرتهم وقدّرت جهودهم، واقترحت لهم أن يوسعوا نطاق المجمع وأن يجعلوه فكريا ودعويا أيضا.
ومما أعجبي في هذا المؤتمر خطاب لرجل جامعي ملتح اسمه محبوب الحق، ظننته أولا عالما متخرجا ثم بدا لي أنه لم يدرس العلوم الدينية بل علاقته بالدعوة والتبليغ جعله يلتزم بالدين، وكان هذا الرجل رئيس جامعة “العلوم والتكنولوجيا” (Science) في مدينة كوهاتي، دعانا إلى جامعته فذهبنا إلى جامعته فاستقبلنا أهلها استقبالا حارا ورحّبوا بنا، وقد جوّلنا نائب الرئيس الهندي الذي كان له دور كبير في هذه الجامعة في أنحاء الجامعة وعرّف لنا شعبها وفروعها المختلفة، وعقد حفلة جمع فيها الموظفين والموظفات، وجرت بيننا مناقشات وتبادل آراء حول الجامعة والأمور المختلفة، وقال لنا نائب الرئيس إنهم الآن بصدد توثيق العلاقة مع إيران. وقال الرئيس عن سبب بناء هذه الجامعة بأنه لم يكن يملك شيئا في بداية الأمر ليبني مثل هذه الجامعة المتميزة ولكن كان يملك عزما وهمة، وقد قال بأنه إذا كان السيد استطاع أن يؤسس عليكره واستطاع فلان أن يؤسس آكسفورد فلماذا لا أستطيع أن أؤسس جامعة على غرار تلك الجامعات. والشيء الآخر الذي أعانه على تأسيس هذه الجامعة هو دعاء أمه الصالحة التي كانت تدعو له وتهتم بأكل الحلال. فعلمت أن خلف الشخصيات العظيمة أمهات عظيمة. وقال عن كيفية بناء هذه الجامعة بأنه اشترى بعض الحواسيب أولا ثم بعد مدة استطاع أن يشتري أرضا، ثم تدرّج إلى بناء الجامعة. يدرَّس في هذه الجامعة العلوم والتقنيات، ويريدون في المستقبل أن يصنعوا فرعا للعلوم الإسلامية. وقد أصغوا أيضا إلى اقتراحاتنا، وكان من اقتراحاتنا، 1ـ ترفيع مستوى الجامعة الكيفي، 2ـ توثيق العلاقة مع جامعات العالم، 3ـ أن يسهلوا الالتحاق للشباب المسلمين ليحصلوا على شهادات الدكتوراه و….
وكانت لهم آمال بعيدة، شعرت أنها ستكون عليكره جديدة ولكن مع آراء جديدة وسعة نظر، وقد لمست في الرجل همة وطموحا وإقداما وإبداعا، وهكذا أهل الهند، يشغفون لعملهم، ويبدعون فيه، إنهم رجال العمل لا رجال الشهرة. وقد أخذنا درسا كبيرا من أعمال هذا الرجل الطموح، وتوصلت إلا أن الأقلية المسلمة لا بد أن تكون لها إسهام في بناء المجتمع الذي يعيش فيه كما يفعل مسلمو الهند حتى تضطر الحكومة للاعتراف بهم وبدورهم.
وبعد هذه الزيارة اتجهنا إلى (كلكته) وقد اتصلنا بهم سابقا، وقد ذهبنا إلى قرية فيها مسجد صغير يسع صفين، وفيها مدرسة تحتوي على قليل من الطلاب، وتتشكل هذه القرية من 40 أسرة مسلمة وقد هاجر معظمهم إلى باكستان إثر التقسيم، وقال إمام المسجد ومدير المدرسة بأن السيد أرشد بن شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني رحمه الله أوصاه بأن يبقى في هذا المسجد ولا يغادره. وزرنا مدرسة أخرى والتقينا بعلماءها وقد قابلونا بحفاوة، وأكرمونا ورحّبوا بنا أحسن ترحيب، وجمعوا الطلاب بعد الفجر فألقينا كلمة لهم. ثم تحركنا إلى مدينة (لكهنو).

مدينة لكهنؤ:
(لكهنؤ) هي مدينة أبي الحسن الندوي رحمه الله، وقد سئل الطنطاوي عن المكان الذي يتمنى أن يقضي فيه بقية أيامه، فقال: إن لم أستطع أن أعود إلى بلدي (دمشق)، ولم أٌقدر أن أبقى بجوار بيت الله فإن أحب مكان إلي هو (لكهنؤ)، وأن أقيم في معهد ندوة العلماء، فأجمع فيها بين الظل والماء وصحبة العلماء.
يقول الشاعر:
خاک یثرب از دو عالم خوشتر است
ای خنک شهری که آنجا دلبر است
ویقول الشاعر:
أمر على الديــــــار ديار ليـلى … أقبل ذا الـــــــجدار وذا الجـدارا
وما حب الديار شـــــغفن قلبي … ولكن حب من ســـــــكن الديارا
ویقول:
علي بربع العامرية وقفة. … الشوق يملي والدمع كاتب.
ویقول:
قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل, بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ
فتوضح فالمقراة لم يَعفُ رسمهاَ, لما نسجتْها من جَنُوب وشمالِ
وعلى كل، فإن مدينة (لكهنؤ) مدينة الصالحين ومأوى الظامئين، وكان للشعراء شغف خاص بها من قديم الزمان. ذهبنا إلى لكهنؤ والشوق يملأ جوانحنا.
كانت رحلتي الأولى إلى (لكهنؤ) عام 1407هـ ق، في عهد كنت شابا وكان السيد رحمه الله في قيد الحياة، وعند نزولي في هذه المدينة تذكرت تلك الأيام الحلوة، وذلك الحماس الذي كان يملأني وأنا أذهب لزيارة السيد رحمه الله.
جاء لاستقبالنا إلى المطار السيد محمود حسن سبط الدكتور عبد العلي الندوي شقيق سيدنا أبي الحسن الندوي الأكبر ـ رحمهما الله تعالى ـ ، ومعه الأخ عبد الوهاب شكوري الأفغاني أحد خريجي دار العلوم ندوة العلماء. وقد رحّبوا بنا واستقبلونا استقبالا حارا.

دار العلوم ندوة العلماء:
هذه هي المرة الرابعة التي كنت أسافر فيها إلى دار العلوم ندوة العلماء. كان مضيف الندوة واسعا وساذجا، وهو مملوء بالضيوف في كل حين ويأتي الناس من نواحي مختلفة، وقد خصوا لإقامتنا غرفة. ذهبنا إلى زيارة الشيخ محمد رابع والشيخ رشيد واضح، ابنا أخت شيخنا السيد الندوي رحمه الله، ولهما أخ آخر اسمه محمد ثاني، وقد توفي.
ومن روائع ما شاهدناه في دار العلوم ندوة العلماء أن كبار أساتذة دار العلوم ندوة العلماء يجتمعون على مائدة الضيوف في مكان خاص حاملين معهم طعامهم الخاص من بيتهم، يأكلون مع الضيوف ويتبادلون معهم بكل سذاجة وبلا أي تكلف وتصنع، فكان مدير دار العلوم ندوة العلماء الشيخ سعيد الرحمن الأعظمي يحمل طعامه من بيته ويضعه على مائدة الضيوف ويأكل معنا. وقد التقى بي مرة أستاذ من هذه الجامعة فقال لي أريد أن أراك، فقلت ما عندي فرصة، فقال: آتيك عند الفطور، فرأيته جاء عند الفطور ومعه حقيبته، وأخرج من حقيبته طعامه ووزّعه بيننا. ولمثل هذا العمل فائدتان: الأولى: التنوع في الطعام، الثانية: تبادل المحبة. وكان السيد محمد رابع الندوي جميع حركاته وسكناته عجيبا؛ يحاكي السيد في جميع خطواته وأعماله، فكأنه السيد نفسه والاختلاف في الاسم فقط، كان يأكل قليلا، ويوزّع بيننا الخبز والطعام، كان يَطعم ويُطعم، وإطعامه أكثر من طعمه، وهذا العمل قد يترك أثرا طيبا في قلب الضيوف، وهكذا كان دأب السيد أبي الحسن الندوي رحمه الله. وكنا نجتمع في أوقات الطعام الثلاثة في هذا الموضع، وكبار الضيوف أيضا يأتون للطعام إلى هذا المكان، ومن الشخصيات التي تعرفت عليهم عند الطعام الشيخ عيسى منصوري، فقد صافحته وتعرفت عليه، وكان يشبه الشيخ محمد تقي العثماني في هيئته، فتبادلنا قليلا وتوافقنا أن أراه في مضيفه لأتعرف مزيدا على نشاطاته وأعماله، وقد تكلم عن أعماله فقال: إني درست في الهند، ثم خرجت للدعوة في سبيل الله، وحاليا أنا مقيم بلندن، وأعيش هناك، وجئت الآن من دورات أقمتها في لاهور وإسلام آباد، وقد توصلت في لندن بأن التعليم عندنا قسمين؛ الأول: التعليم في المدارس الدينية، الثاني: التعليم في الجامعات العصرية، ورأيت أن المبلّغ يلتحق أقرباءه وعشيرته بالجامعات، ولكن يصطبغ بصبغة غير إسلامية، ويحمل فكرة غير فكرتهم، وربما يتحمس لمبادئ مناهضة لمبادئه، ففكرت في علاج هذه المشكلة، ورأيت أن التعليم لا يمكن تركه، إذن لا بد من تأسيس جامعات شخصية مستقلة مصطبغة بالصبغة الدينية، متحلية بالأخلاق والمبادئ الإسلامية، وتمارس فيها الشعائر الإسلامية، وتعنى فيها بثقافتنا وقيمنا ومثلنا، فجعلت هذا العمل شغلي الشاغل، وأتردد الآن في الجامعات لتكوين رجال لهذه الغاية، وقد كانت لنا خطوات ناجحة في هذا الصعيد، واستطعنا أن ننقذ كثيرا من الشباب من أن ينصهروا في بوتقة التيارات الغربية. وهذا الرجل لا يحمل مؤهلات جامعية، ولكنه كان يحمل فكرة ودعوة ومنهجا للتغيير والتبديل، لذلك استطاع أن يترك أثرا طيبا في الجيل المثقف، ولعله في المستقبل يصل إلى كثير من أهدافه وطموحاته.
والشيء الثاني الذي قام به هو أنه رآى أن كتابات السيد أبي الحسن الندوي رحمه الله تطبع وتنشر في أنحاء العالم، ويتلقاها الجيل المثقف بالدراسة والاستحسان، ولكن فكرته وفلسفته ومنهجه لم تتجذر في الجامعات، ولم تقم منظمة أو مؤسسة بدراسة آراء الإمام الندوي وأفكاره وغربلتها وتطبيقها على أرض الواقع، بس توجد مطالعات شخصية وفردية دون التطبيق. ولهذه الغاية أنشأنا مؤسسة في إسلام آباد تعنى بنشر أفكار واقتراحات الإمام الندوي وإجراءها وتطبيقها، تلك الآراء المتسمة بالاعتدال، التي فيها علاج لمشاكل الشباب النفسية وجواب لشبهات النشء الجديد، وحل للأزمات الراهنة. وقد أعجبتني هذه الفكرة واستحسنتها ودعوت له بالتوفيق والنجاح.
بقينا في ندوة العلماء ليلتين، وكنا نلتقي بالشيخ محمد الرابع في مواعد الطعام الثلاثة، قد يكون بيننا تبادل آراء، وقد لا يكون شيء، ولكنه بكل حال جلسة فيها طعام فكري ومعنوي وغذاء روحي قلما يوجد مثلها في مكان آخر.
دار العلوم ندوة العلماء تضم 3000 آلاف طالب، ويدرس في المركز طلاب المستوى العالي، أما طلاب المستوى النازل فيدرسون في الشعب الأخرى في أنحاء المدينة، فتكون لطلاب القسم العالي جلسة مع الشيخ رابع بمدة نصف ساعة كل ليلة، ويشترك في هذه الجلسة طلاب راغبون، فيقرأ لهم كتاب أو يلقي الشيخ محمد الرابع كلمة، وقد اشتركنا في هذه الجلسة فعرّفنا الشيخ للطلاب، وأفاض في الحديث عن صحبة الصالحين، وكلفنا أن نلقي كلمة للطلاب وألح على ذلك، ، فتكلمت مبينا تأثري بالندوة وإعجابي بها، ثم تكلم الشيخ عبد القادر العارفي وأبدى عن تأثره العميق بالندوة وأصحابها. وقد شعرت أن بين الطلاب والأساتذة تعاطفا ومحبة وتبادلا.
والشيء الآخر الذي لفت انتباهي في ندوة العلماء هو أن نظام التعليم في ندوة العلماء يختلف عن نظام التعليم في المدارس الأخرى، وطرق التعليم تختلف، مثلا يُدرَّس صحيح البخاري في عشرة مواضع لمائة طالب، بينما في المدارس الأخرى قد يدرس ألف طالب في صف واحد، وفي رأي أهل الندوة أن النظام الرائج في المدارس الأخرى لا يمكن السيطرة عليه، لأن ألف طالب مثلا في صف واحد لا يمكن للأستاذ محاسبة الطالب وسماع درسه. والمقارنة بين النظامين لا يمكن هنا مناقشته.
شيء آخر أعجبني أن لندوة العلماء 18 مكتبة سوى المكتبة المركزية، وفي هذه المكتبات توضع الكتب المنهجية والدراسية، والتي تساعد على التحقيق في مجال الدرس مثل شروح الكتب الحديثية الدرسية وغيرها، وكانت هذه المكتبات الخاصة مكتظة بالطلاب، وكان الطلاب يطالعون ويحققون فيها بنهم ورغبة، وقد قام بهذا الابتكار أحد الأساتذة الكبار بهذه الجامعة وهو فضيلة الشيخ عبد العزيز البتكلي رأينا فيه شخصية عجيبة وقف حياته على دار العلوم ندوة العلماء يعيش مع الطلاب ويفكر للطلاب ويبدع للطلاب ويراقبهم ويوجههم ويكرمهم ويذكرهم وكأنه كان روح النظام التعليمي، قد جمع التبرعات من هنا وهناك وأنشأ مثل هذه المكتبات العامرة، وكان الشيخ عبد العزيز فناءا في الطلاب يعطي أكبر قسط من أوقاته للطلاب وشؤونهم، ويدلهم على المطالعة والتحقيق، وكان له باع طويل في العلوم الأدبية والإسلامية، وقد تجرد لهذا العمل دون أن تكون له مشاركة في الأعمال الأخرى، وقد شعرت أن مدارسنا تحتاج إلى أمثال هؤلاء الرجال الذين يقفون أنفسهم لأعمال المدرسة وشؤون الطلاب.
كانت حياة الأساتذة ساذجة، يقتنعون بالنزر اليسير ومن روائع ما شاهدت من نماذج القناعة أننا التقينا برجل قد أخذ الدكتوراه من الأزهر اسمه أشرفعلي، كان يعيش مع أهله في بيت واحد، وقد اعتذر إلينا أنه لا يستطيع أن يدعونا إلى بيته لأجل أن بيته لا يسع ضيفا، فشعرت أن حياة الأساتذة ساذجة وأن الأساتذة يكتفون بالقليل.
كانت بيئة المسجد بيئة روحية، تلاوة وتسبيح وصلاة، بعد كل صلاة عصر يقرأ كتاب لمدة ثلاث دقائق، وكان الكبار أيضا يبكرون إلى المسجد، ومما أعجبني أن الشيخ سعيد الرحمن الأعظمي كان يتلو القرآن قبل الصلاة وبعد الصلاة، ويلتزم بذلك في كل صلاة، وقد سمعت أنه يواظب على هذا العمل ويداوم عليه.

جامعة السيد أحمد عرفان الشهيد
ذهبنا إلى جامعة السيد أحمد عرفان الشهيد، التي أسّسها السيد سلمان الندوي على بعد 30 كيلومترا من مدينة لكهنؤ، وفيها شعب وكليات مختلفة، والهدف من تأسيس هذه الجامعة هو تحقيق آمال الإمام السيد أحمد عرفان الشهيد وإحياء فكرته، وكانت لنا لقاءات وكلمات في هذه الجامعة، ولهذه الجامعة فرع باسم “المعهد العالي لأبي الحسن الندوي” والغاية منه ترويج أفكار الإمام الندوي ونشر آراءه. وفيه كلية الطب يدرس فيها كبار الأطباء والأساتذة الجامعيون ويتخرج فيها الأطباء. وجدنا الأساتذة نشطاء فيهم الحركة والحيوية والطموح، سيما فضيلة الشيخ يوسف بن سلمان حفظه الله.

راي بريلي
ثم ذهبنا إلى (راي بريلي) مسقط رأس سيدنا الإمام أبي الحسن الندوي رحمه الله، بقينا هناك ليلة ويوما، فقد بقيت هذه القرية على سذاجتها وبساطتها على نحو ما كانت عليه قبل 26 سنة في رحلتي الأولى لزيارة سيدنا الندوي رحمه الله سوى تعديلات يسيرة لمسجد شاه علم الله، وشاه علم الله كبير هذه الأسرة ومن مشاهير العرفاء والزهاد، قد أسّس هذا المسجد قبل أربعة قرون على قدر مساحة الكعبة المشرفة. وفي هذا المسجد كان السيد الشهيد رحمه الله يعلّم الرماية والسباحة و… لجنوده، ومن هنا انطلقت قافلة المجاهدين إلى بشاور وأفغانستان. وقد أعجبني إكرامهم البالغ وسذاجتهم وتعاطفهم وأخلاقهم الكريمة ورأيت أنهم لا يروجون الدين بالعلم فحسب بل بالأخلاق والمعاملة الحسنة والسذاجة وعدم التكلف، ومع الأسف إن مجتمعنا يعاني من قلة هذه الصفات الإيجابية النبيلة. وجاء يوم الجمعة، أمروني أن أصلي بهم الجمعة وألقي كلمة للطلاب والمصلين وكان يشق علي أن ألقي كلمة على مسمع مشايخنا الكبار كالسيد محمد الرابع والآخرين، ولكن الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني (حفيد الدكتور عبد العلي) قال: إن الشيخ محمد الرابع يأمرك أن تقوم وتتكلم، فلم يكن لي إلا الطاعة، فتكلمت حول فكرة الإمام الندوي وعوامل تكوين شخصيته.

جامعة دار العلوم ديوبند وسهارانفور
ثم ذهبنا إلى جامعة دار العلوم ديوبند، وبقينا فيها يوما وليلة، والحديث عن دار العلوم كثير، ولا يسعنا المجال هنا للبسط، ولدار العلوم هيبتها وشأنها ولا يكفي لزيارتها الأسبوع فضلا عن يوم وليلة، وعلى كل التقينا بالشيخ سعيد أحمد بالنبوري والشيخ سالم وكذلك زرنا شعب الجامعة المختلفة. وذهبنا إلى دار العلوم (وقف) والتقينا هناك بأساتذتها ومشايخها، يدرس فيها في دورةالحديث قرابة ألف طالب. ولدار العلوم محيطها الروحاني؛ محيط الذكر والتلاوة والصلاة، والشيء الذي لفت أنظارنا في كل من ندوة العلماء وسهانفور وديوبند أن القرآن كان يتلى بخشوع ورغبة مع مراعاة علم التجويد والقراءة.
ثم ذهبنا إلى سهانفور واشتركنا في درس الشيخ يونس شيخ الحديث في دار العلوم سهانفور، والتقينا أيضا بمولانا شاهد حفظه الله.

كاندهلة
ثم ذهبنا إلى كاندهله مسقط رأس المولانا إلياس، وهي قرية من قرى شاعلي، و(شاعلي) منطقة انطلقت منها شرارة صوت الحرية الذي أدى إلى تشكيل دولة باكستان، ولها تاريخها ونضالها ضد الإنجليز. وفي كاندهله زرنا الشيخ افتخار الحسن، شقيق المولانا إحتشام الحق الذي ألّف (مسلمانون كا پستی کا علاج) وأضيف هذا المقال في آخر (كتاب فضائل أعمال)، وقد أعجبنا تواضعه وبساطته، وأكرمنا الشيخ نور الحسن راشد بن الشيخ افتخار الحسن وهو كاتب ضليع ألّف كتبا كثيرة، ولما رأيناه في البداية ما كدنا نصدق أنه هو لولا عرّف نفسه. نعم، علماء الهند يهمهم القلب والفكر أكثر من القالب والشهرة، وقد ضيّفنا وبالغ في إكرامنا، وهو سبط المفتي إلهي بخش الذي أكمل المثنوي.
وزرنا أيضا مركز جماعة الدعوة والتبليغ، والتقيت بالداعية الشيخ سعد الكاندهلوي. وذهبنا إلى المجمع الفقهي، ومما قاله الشيخ أمين العثماني الذي يشرف على هذا المركز وهو بمثابة روح المركز: نحن نحب أن تترجم كتبنا بالعربية والفارسية في إيران، ونحب أن يؤلف خريجو إيران كتبا، ويرسلوا مقالاتهم إلينا لنشرها في مجلاتنا، فقلنا: لا بد من تبادل الثقافات والأفكار، وتوثيق الأواصر الفكرية والثقافية والعلمية.

تعليقات

تعليق واحد لـ : “رحلة إلى الهند؛ دروس وانطباعات

  1. يقول فيض الله امان بنغلاديشي:

    مقالة جيدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات