اليوم :29 March 2024

أبو علي الفارسي (288 – 377 هـ = 900 – 987 م)

أبو علي الفارسي (288 – 377 هـ = 900 – 987 م)
abouali_farsiالعلامة , العَلَم , الناقد , الرحالة , إمام النحو واللغة العربية , أوحد زمانه …
اسمه ونسبه:
هو:  الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان , الفارسي الأصل, الفسوي , المشهور بأبي علي الفارسي : أحد الائمة في علم العربية.

مولده:
ولد بفسا (من أعمال فارس) سنة 288 هـ.

مدينة فسا:
من محافظة “فارس” قريبة من مدينة شيراز.
أخرجت العديد من رجال العلم، والنسبة إليها (فسوى)، ومنها خرج المؤرخ أبو سفيان الفسوي، وأبو يوسف يعقوب بن سفيان بن جوان الفسوي الفارسي وغيرهم.
قال ياقوت الحموي :
فَسا: مدينة بفارس أنزَهُ مدينة بها فيما قبل, بينها وبين شيراز أربع مراحل .
قال الإصطخري: وأمّا كورة “دارابجرد” فإنّ أكبر مُدُنها فَسَا , وهي: مدينة مفترشة البناء, واسعة الشوارع, تقارب في الكبر شيراز, وهي أصحُ هواءً من شيراز, و أوسعُ أبنيةً …
وهي مدينة قديمة, ولها حصن وخندق ورَبض …

نشأته:
نشأ أبو علي في فسا, وتلقّى علومه فيها , وحفظ القرآن الكريم والحديث والفقه وبعض شعر العرب, ثمّ انتقل ـ وهو شاب ـ  إلى مهبط العلم آنذاك بغداد (الضائعة اليوم) والتقى بأعلام في شتّى أنواع العلوم .
فقد عاصر الفارسيّ:  الرّماني، والسيرافيّ، وابن السراج، والزّجاجيّ، وغيرهم، وكان واحداً منهم، و ربّما تفوّق عليهم علماً وشهرة.
غير أنّ الفارسيّ لم يكتفِ بما سمع من هؤلاء فحسب، وإنّما اطّلع على مؤلّفات سابقيه التي استفاد منها كثيراً كـسيبويه، والأخفش الأوسط، والكسائيّ، والفرّاء، والمازني، والمبرّد.. وغيرهم ممن اشتهروا في النّحو وعلا ذكرهم.
وأبو عليّ باتصاله بهؤلاء الأئمّة وأخذه عنهم، واطّلاعه على كتبهم، استطاع بجدارة أن يكون من أئمّة العربيّة، وأغزرهم مادّة وأوسعهم اطّلاعاً.

أساتذته:
سمع مِن علي بن الحسين بن معدان الفارسي, عن إسحاق بن راهويه.
روى القراءة عرضاً عن أبي بكر بن مجاهد، وأخذ النحو عن أبي إسحاق الزجاج وأبي بكر مَبْرَمان , و عن أبي بكر بن السراج وأخذ عنه كتاب سيبويه , وانتهت إليه رياسة علم النحو .

تلامذته:
ومِن تلامذته:
1 ــ أبو الفتح عثمان بن جني.
2 ــ عُبَيد الله الأَزهَريّ.
3 ــ أبو محمّد الجَوهري.
4 ــ وعلي بن عيسى الشيرازي.
5 ــ أَبو القاسم التَّنُوخِي.
روى القراءة عنه عرضاً عبد الملك بن بكران النّهروانيّ .

رحلاته:
قال أبو الحسن علي ابن عيسى الربعي: وطوف كثيراً في بلاد الشام، ومضى إلى طرابلس…
ودخل بغداد سنة 307 هـ ، وتجول في كثير من البلدان.
وقدم حلب سنة 341 هـ ، فأقام مدة عند سيف الدولة.
وعاد إلى فارس، فصحب عضد الدولة ابن بويه، وتقدم عنده، فعلمه النحو، وصنّف له كتاب (الايضاح).

نبوغه في العلم:
وممّا يشهد بصفاء ذهنه وخلوص فهمه: أنه سئل – قبل أن ينظر في العروض – عن خرم متفاعلن، فتفكر وانتزع الجواب فيه من النحو فقال: لا يجوز، لأن متفاعلن ينقل إلى مستفعلن إذا أضمر، فلو خرم لتعرض للابتداء بالساكن. إذا الخرم: حذف الحرف الأول من البيت. والإضمار تسكين ثانية.
وحكى ابن جني عن أبي علي أنّه كان يقول: أخطئ في مائة مسألة لغوية، ولا أخطئ في واحدة قياسية.
قال أبو الفتح بن جني: قال لي أبو علي الفارسي: قرأ علي علي بن عيسى الرّماني كتاب “الجمل” وكتاب “الموجز” لابن السراج في حياة ابن السراج.
قال جماعات من المفسرين، وصاحب المحكم، والجوهرى، وغيرهما من أهل اللغة فى جبريل وميكائيل: إنّ “جبر” و”ميك” اسمان أضيفا إلى إيل وأل. وقال: وإيل وأل اسمان لله تعالى، وجبر وميك معناه بالسريانية عبد، فتقديره عبد الله.
قال أبو على الفارسى: هذا الذى قالوه خطأ من وجهين: أحدهما: أن إيل وأل لا يعرفان فى أسماء الله تعالى.
والثانى: أنه لو كان كذلك، لم يتصرف آخر الإسم فى وجوه العربية، ولكان آخره مجرورًا أبدًا كعبد الله. وهذا الذى قاله أبو على هو الصواب، فإن ما زعموه باطل لا أصل له.
قال أبو العلاء الحسين بن محمد بن مهرويه, في كتابه الذي سماه أجناس الجواهر: كنتُ بمدينة السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي النحوي – رحمه الله – وكان السلطان رسم له أن ينتصب لي كل أسبوع يومين، لتصحيح كتاب التذكرة، لخزانة كافي الكفاة، فكنّا إذا قرأنا أوراقاً منه تجارينا في فنون الآداب، واجتنينا من فوائده ثمار الألباب, و رتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه، والتقطنا الدر المنثور من سقاط فيه، فأجرى يوماً بعض الحاضرين ذكر الأصمعي، وأسرف في الثناء عليه، وفضله على أعيان العلماء في أيامه، فرأيته (أبوعلي)- رحمه الله – كالمنكر لما كان يورده، وكان فيما ذكر من محاسنه، ونشر من فضائله أن قال: من ذا الذي يجسر أن يخطئ الفحول من الشعراء غيره؟
فقال أبو علي: وما الذي رد عليهم؟
فقال الرجل: أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها، وفضل معرفته بأغراضها ومراميها، وأنه سلك نهج الأوائل في وصف المفاوز، إذا لعب السراب فيها، ورقص الآل في نواحيها، ونعت الجريال وقد سبح على جدله، والظليم وكيف ينفر من ظله؟. وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام، حتى كأنهم صرعتهم كؤوس المدام، فطبق مفصل الإصابة في كل باب، وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة، وجارى القروم البزل من أصحاب البلاغة..
فقال له الشيخ أبو علي: وما الذي أنكر على ذي الرمة؟
فقال قوله:
وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم
لأنه كان يجب أن ينونه .
فقال أبوعلي: أمّا هذا فالأصمعي مخطئ فيه، وذو الرمة مصيب، والعجب أن يعقوب بن السكيت قد وقع عليه هذا السهو في بعض ما أنشده.
فقلتُ: إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطأ تفضل به. فأملى علينا: أنشد ابن السكيت لأعرابي من بني أسد:

وقائلة أسيت فقلت جير … أسى إنني من ذاك إنه
أصابهم الحمى وهم عواف … وكن عليهم نحساً لعنه
فجئت قبورهم بدءاً ولما … فناديت القبور فلم يجبنه
وكيف يجيب أصداء وهام … وأبدان بدرن وما نخرنه

قال يعقوب: قوله جير أي حقاً، وهي مخفوضة غير منوة، فاحتاج إلى التنوين.
قال أبو علي: هذا سهو منه، لأنّ هذا يجري منه مجرى الأصوات، وباب الأصوات كلها، والمبنيات بأسرها لا يُنوّن، إلا ما خص منها لعلة الفرقان فيها، بين نكرتها ومعرفتها، فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين، فإذا نكّرته نوّنتَه، ويكون من ذلك أنّك تقول في الأمر: صه ومه، تريد السكوت يا فتى، فإذا نكرت قلت: صه ومه، تريد سكوتاً.
وكذلك قول الغراب: غاق . أي الصوت المعروف من صوته، وقول الغراب غاق، أي صوتاً، وكذلك إيه يا رجل، تريد الحديث، وإيه تريد حديثاً.
وزعم الأصمعي: أن ذا الرمة أخطأ في قوله: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم. وكان يجب أن ينونه ويقول: إيهٍ منونة، وهذا من أوابد الأصمعي، فاحتاج إلى التنوين.
قال أبو علي: هذا سهو من غير علم. فقوله جير بغير تنوين، في موضع قوله الحق، وتجعله نكرة في موضع آخر فتنونه، فيكون معناه: قلت حقاً. ولا مدخل للضرورة في ذلك، إنّما التنوين للمعنى المذكور، وبالله التوفيق. وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير.
(قال يعقوب: قوله: أصابهم الحمى: يريد الحمام. وقوله (بدرن): أي طعن في بوادرهم بالموت. والبادرة: النحر. وقوله: فجئت قبورهم بدءاً: أي سيداً، وبدء القوم: سيدهم. وبدء الجزور: خير أنصبائها. وقوله: (ولما) .أي: ولم أك سيداً إلّا حين ماتوا فإنّي سُدتُ بعدهم).
وكان يقال: النحويون في زماننا ثلاثة: واحد لا يُفهَم كلامه, وهو الرماني. و واحد يفهم بعض كلامه, وهو أبو علي الفارسي. و واحد يفهم جميع كلامه بلا أستاذٍ, وهو السيرافي.

ثناء العلماء عليه:
قال التنوخي: وعلت منزلته في النحو حتى قال قوم من تلامذته: هو فوق المبرد وأعلم منه. وصنف كتباً عجيبة حسنة لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق.
وكان أبو طالب العبدي يقول: لم يكن بين أبي علي وبين سيبويه، أحد أبصر بالنحو من أبي علي.
قال الحموي : أوحد زمانه في علم العربية. كان كثير من تلامذته يقول: هو فوق المبرد.
وحدث ابن نصر قال: قال لي أبو الحسن الزعفراني: نزل علي أبو علي الفارسي لما قدم البصرة وقرأت عليه الكتاب فقال لي: أنت مستغن عني يا أبا الحسن، قلتُ: إن استغنيتُ عن الفهم, لم أغن عن الفخر والجمال.
قال ابن خلكان:
وكان إمام وقته في علم النحو، ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة، وكان قدومه عليه في سنة إحدى وأربعين وثلثمائة، وجرت بينه وبين أبي الطيب المتنبي مجالس، ثم انتقل إلى بلاد فارس وصحب عضد الدولة ابن بويه وتقدم عنده وعلت منزلته حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي الفسوي في النحو …
قال ابن خلكان:
وكنتُ رأيتُ في المنام في سنة ثمان وأربعين وستمائة, وأنا يومئذ بمدينة القاهرة, كأنّني قد خرجتُ إلى “قليوب” ودخلتُ إلى مشهد بها فوجدته شعثاً، وهو عمارة قديمة، ورأيتُ به ثلاثة أشخاص مقيمين مجاورين، فسألتُهم عن المشهد وأنا متعجب لحسن بنائه وإتقان تشييده: ترى هذا عمارة مَن؟!.
فقالوا: لا نعلم، ثم قال أحدهم: إن الشيخ أبا علي الفارسي جاور في هذا المشهد سنين عديدة.
وتفاوضنا في حديثه، فقال: وله مع فضائله شعر حسن، فقلت: ما وقفت له على شعر، فقال: أنا أنشدك من شعره، ثم أنشد بصوت رقيق طيب إلى غاية ثلاثة أبيات، فاستيقظتُ في أثر الإنشاد, ولذة صوته في سمعي، وعلق على خاطري منها البيت الأخير وهو:
الناس في الخير لا يرضون عن أحد … فكيف ظنّك سيموا الشر أو ساموا
وبالجملة فهو أشهر من أن يُذكَر فضله ويعدد…
وكان المَلِك عَضُدُ الدَّولة يقول:أَنا غلام أَبي عَليٍّ في النَّحو، وغلام أبي الحسين الرَّازي في النُجُوم.
قالوا عنه : كان متهماً بالاعتزال لكنّه صدوق في نفسه.

ومما يحكى عنه:
قال أبو علي الفارسي: جئتُ إلى أبي بكر السراج لأسمع منه الكتاب. وحملتُ إليه ما حملتُ، فلمّا انتصف الكتاب عسر علي في تمامه، فانقطعتُ عنه لتمكّني من الكتاب، فقلتُ لنفسي بعد مدة: إن سرتُ إلى فارس، وسُئلتُ عن تمامه، فإن قلتُ نعم، كذبتُ، وإن قلتُ لا، سقطت الرواية والرحلة.
ودعتني الضرورة، فحملتُ إليه رزمة، فلمّا أبصرني مِن بعيد أنشد:

كم قد تجرعت من غيظ ومن حنق … لكن تجدد وجدي هون الماضي
وكم غضبت ولم يلووا على غضبي … فعدت طوعاً بقلب ساخط راضي

قالوا: ولما صنّف أبو علي كتاب الإيضاح، وحمله إلى عضد الدولة، استقصره عضد الدولة، وقال له: ما زدتَ على ما أعرف شيئاً، وإنما يصلح هذا للصبيان. فمضى أبو علي، وصنف التكملة، وحملها إليه. فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ، وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو.
يُحكَى عن أبي علي الفارسي: أنه حضر يوماً مجلس أبي بكر الخياط ، فأقبل تلاميذه يكثرو على أبي بكر المسائل، وهو يجيبهم ويقيم عليها الدلائل. فلما أنفدوا أقبل على أكبرهم سناً، وأكبرهم عقلاً، وأوسعهم علماً عند نفسه. فقال له: كيف تبني من سفرجل مثل عنكبوت؟
فأجابه مسرعاً : سفرروت.
فحين سمعها  أبو علي قام من مجلسه وصفق بيديه، وخرج وهو يقول: سفرروت!!.
فأقبل أبو بكر على تلاميذه، وقال: – لا بارك الله فيكم، ولا أحسن جزاءكم – ، خجلاً مما جرى، واستحياء من أبي علي.
وحكى أبو القاسم ابن أحمد الأندلسي قال: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي وأنا حاضر.
فقال: إنّي لأغبطكم على قول الشعر، فإنّ خاطري لا يوافقني على قوله مع تحقيقي العلوم التي هي من مواده.
فقال له رجل: فما قلتَ قط شيئاً منه؟
قال: ما أعلم أنّ لي شعراً إلّا ثلاثة أبيات في الشيب، وهي قولي:

خضبتُ الشيب لما كان  عيباً … وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خِلّ …  ولا  عيباً  خشيتُ  و لا عتابا
و  لكنّ المشيب   بدا   ذميماً …  فصيرتُ الخضاب  له  عقابا

وذكر الشيخ أبو علي: أنه وقع حريق بمدينة السلام، فذهب به جميع علم البصريين قال: وكنت قد كتبت ذلك كله بخطي، وقرأته على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئاً ألبتة، إلّا نصف كتاب الطلاق عن محمد ابن الحسن. وسألته عن سلوته وعزائه، فنظر إلي عاجباً ثم قال: بقيتُ شهرين لا أكلم أحداً حزناً وهماً، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر علي، وأقمت مدة ذاهلاً متحيراً …
صحب أبو الفتح ابن جني, أبا عليٍ الفارسي أربعين سنة, وكان السبب في صحبته له: أنّ أبا عليٍ اجتاز بالموصل فمرّ بالجامع, وأبو الفتح في حلقةٍ يقرئ النحو, وهو شاب, فسأله أبو علي عن مسألةٍ في التصريف, فقصّر فيها.
فقال له أبو علي: ” زبّبتَ وأنتَ حِصرِم”،(أي أول العنب)
فسأل عنه, فقيل له: هذا أبو عليٍ الفارسي..
فلزمه من يومئذٍ واعتنى بالتصريف, فما أحد أعلم منه به, ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه.
فلمّا مات أبو عليٍ تصدر أبو الفتح في مجلسه ببغداد.
وحكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني, وكان كاتب الإنشاء عند عضد الدولة, عظيم المنزلة منه..
قال: لمّا دخل أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة، وانصرف عنه، أتبعه بعض جلسائه، وقال له: سله كيف شاهد مجلسنا؟
وأين الأمراء الذين لقيهم منا؟
فامتثلتُ أمره، وجاريتُ المتنّبي في هذا الميدان، وأطلتُ معه عنان القول..
فكان جوابه عن جميع ما سمعه مني أن قال:
“ما خدمت عيناي قلبي كاليوم”.
ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه، وكان ذلك من أوكد الأسباب التي حظي بها عند الدولة، وكان أبو علي الفارسي إذ ذاك بشيراز وكان ممر المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي علي الفارسي، وكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء، وكان لابن جني هوى في أبي الطيب، كثير الإعجاب بشعره، لا يبالي بأحد يذمه أو يحيط منه. وكان يسوء إطناب أبي علي في ذمّه، واتفق أن قال أبو علي يوماً :
اذكروا لنا بيتاً من الشعر نبحث فيه، فبدأ ابن جني وأنشد:
حُلْتِ دون المزار لوزر … تِ لحال النحولُ دون العِناق
فاستحسنه أبو علي، واستعاده، وقال لمن هذا البيت فإنه غريب المعنى؟.
فقال ابن جنى: للذي يقول:
أزورهم وسوادُ الليل يشفعُ لي … وانثنى وبياضُ الصبح يُغرى بي
فقال والله هذا حسن بديع جداً، فلِمَن هما؟
قال للذي يقول:
أمضى إرادتهِ فسوف له قدُ … واستقرب الأقصى فثَم له هُنا
فكثر إعجاب أبي علي، واستغرب معناه، وقال لمن هذا؟.
فقال ابن جني: للذي يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا … مضرُّ كوضع السيف في موضع الندى
فقال: وهذا والله، وقد أطلت يا أبا الفتح، فأخبرنا مَن القائل؟!.
قال: هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله، ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام اللب؟
قال أبو علي: أظنّك تعني المتنبي؟
قلت: نعم.
قال : والله لقد حبّبتَه إليّ، ونهض، ودخل على عضد الدولة، فأطال في الثناء على أبي الطيب، ولما اجتازالمتنبي به استنزله، واستنشده، وكتب عنه أبياتاً من الشعر.
قال الربعي: كنتُ يوماً عند المتنبي بشيراز، فقيل له: أبو علي الفارسي بالباب، وكانت تأكدت بينهما المودّة، فقال: بادروا إليه فأنزلوه، فدخل أبو علي وأنا جالس عنده.
فقال: يا أبا الحسن خذ هذا الجزء، وأعطاني جزءاً من كتاب التذكرة، وقال: اكتب عن الشيخ البيتين اللذين ذكرتك بهما وهما:

سأطلبُ حقي بالقنا ومشايخ … كأنهمُ من طُول ما التثموا مُردُ
ثقال إذا لاقوا خِفافٍ إذا دُعوا … كثير إذا شَدُّوا قليل إذا عُدُّوا

ويُحكى أنّ أباعلي كان يوماً في ميدان شيراز يساير عضد الدولة، فقال له: لم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيداً ؟.
فقال الشيخ: بفعل مقدر.
فقال له كيف تقديره ؟
فقال: أستثني زيداً.
فقال له عضد الدولة: هلا رفعتَه, وقدرت الفعل : (امتنع زيد) فانقطع الشيخ، وقال له:
هذا الجواب ميداني.
ثمّ إنّه لمّا رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاماً حسناً, وحمله إليه فاستحسنه، وذكر في كتاب الإيضاح أنه انتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا.

من شعره:
كان أبوعلي رحمه الله قليل الشعر . يقول ابن جني تلميذه:
لم أسمع لأبي علي شعراً قط، إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر، فقال أبو علي: إنّي لأغبطكم على قول هذا الشعر، فإنّ خاطري لا يواتيني على قوله، مع تحققي للعلوم التي هي من موارده.
فقال له ذلك الرجل: فما قلتَ قط شيئاً منه ألبته؟
فقال: ما أعهد لي شعراً إلّا ثلاثة أبيات قلتُها في الشيب، وهي قولي:

خضبت الشيب لما كان عيباً … وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خل …     ولا عيباً خشيت ولا عتابا
ولكن  المشيب   بدا   ذميماً …    فصيرت الخضاب له عقابا
فاستحسناها وكتبناها عنه …
وفي زهر الأكم في الأمثال و الحكم – (ج 1 / ص 113)
ولكن المشيب بدا دميما … فصيرت الخضاب له عقابا

مؤلفاته:
ترك لنا أبوعلي الفارسي مؤلفات قيمة وضخمة في اللغة العربية و آدابها.. منها:
1 ــ “الحجة في علل القراآت”. أي الإحتجاج للقراء السبعة.
2 ــ ” التذكرة ” في علوم العربية، عشرون مجلدا، ولخصه أبو الفتح عثمان بن جني.
3 ــ ” أبيات الأعراب والعرب”.
4 ــ ” الإيضاح الشعري ” وفي فهرست ابن النديم شرح أبيات الإيضاح.
5 ــ ” الإيضاح النحوي ” ألفه بأمر عضد الدولة بن بويه ولذلك يعرف بالإيضاح العضدي وفي كشف الظنون يشتمل الإيضاح على 196 باباً منها 166 نحو والباقي صرف وقد اعتنى جمع من النحاة بشرحه فشرحه السيد عبد القاهر الجرجاني بشرحين مطول ومختصر وشرحه ابن الحاجب وابن البنا وابن الباذش وابن الانباري وابن الدهان وأبو البقاء العكبري وعلي ابن عيسى الربعي والشريشي وابن هشام الخضراوي والمالقي وغيرهم وبلغت شروحه التي عددها 24 شرحاً.
6 ــ “مختصر عوامل الأعراب” وهي مائة عامل.
7 ــ “المسائل الحلبية” وسماه في كشف الظنون “الحلبيات” في النحو.
8 ــ “المسائل البغدادية” في النحو  (البغداديات – مخطوط) وفي مذكرات الميمني – خ، أن في مكتبة شهيد علي باستنبول (الرقم 2516).
9 ــ “المسائل العسكرية.”  وأشار عبد الفتاح اسماعيل إلى أماكن وجود (المسائل العسكريات – خ) نسبة إلى بلدة عسكر مكرم.
10 ــ “المسائل الكرمانية”.
11 ــ “المسائل الشيرازية” في النحو وسماها صاحب كشف الظنون “الشيرازيات”  في الخزانة الحيدرية بالنجف.
12 ــ “المسائل القصرية” أو القيصرية.
13 ــ “المسائل البصرية”. (المسائل البصريات – خ) أمال ألقاها في جامع البصرة .
14 ــ “المسائل المجلسية” ذكرها ابن خلكان وفي الرياض كتاب المجلسيات.
15 ــ “المسائل الدمشقية  “.
16 ــ  “المسائل الأهوازية” .
17 ــ “المسائل المنثورة”.
18 ــ “المسائل المشكلة.”
19 ــ “المسائل المصلحة” يرويها عن الزجاج, وتعرف بالأغفال. هكذا قال ابن النديم. وقال ياقوت: كتاب الأغفال. وهو مسائل أصلحها على الزجاج. وقال غيره كتاب الأغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني في دار الكتب (1: 126).
وقد طبع هذا الكتاب بعنوان: “كتاب الأغفال” رأيتُه بمكتبة جمعة الماجد بدبي.
20 ــ “المقصور والممدود” وشرحه ابن جني.
21 ــ “نقض الهاذور”.
22 ــ “الترجمة”.
23 ــ “أبيات المعاني”.
24 ــ “التتبع لكلام أبي علي الجبائي في التفسير”. نحو مائة ورقة .
25 ــ “التكملة في التصريف” هكذا في بغية الوعاة. ومقتضى ما ذكر في سبب تأليفه أنه تكملة للإيضاح فهو في النحو وصرح في الرياض بأنه في النحو .
26 ــ تعليقة على كتاب سيبويه جزآن.
27 ــ تفسير قوله تعالى ): يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة..(
قال الذهبي رحمه الله : مصنَّفاته كثيرة نافعة.

أنشد أبو الحسن علي أحمد بن خلف النحوي لنفسه بالأندلس، في كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي النحوي:

أضع  الكرى  لتحفظ   الإيضاح  …   وصل    الغدو   لفهمه   برواح
هو  بغية  المتعلمين  و من  بغى  …   حمل   الكتاب   يلجه   بالمفتاح
لأبي  علي  في  الكتاب    إمامة  …   شهد    الرواة   لها   بفوز قداح
يفضي    إلى   أسراره   بنوافذ   …  من علمه  بهرت  قوى  الأمداح
فيخاطب    المتعلمين    بلفظه   …    و يحل  مشكله  بومضة  واحي
مضت العصور فكل نحو ظلمة  …  وأتى  فكان النحو ضوء  صباح
أوصى ذوي الإعراب أن يتذاكروا … بحروفه في الصحف والألواح

وفاته:
وتوفي أبوعلي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ببغداد, يوم الأحد, 17 ربيع الآخر (وقيل ربيع الأول) سنة 377 هـ .
ودُفِن بالشونيزيه عند قبر أبي بكر الرازي الفقيه.
عن 89 سنة. وفي معجم الأدباء عن نيف وتسعين سنة .
وأوصى بثلث ماله لنحاة بغداد , فكان ثلاثين ألف دينار.

الكاتب: الشيخ أبو محمد البلوشي

************************************
من مراجع البحث:
تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية – لابن كثير  (ج 2 / ص 184)
الصبح المنبي عن حيثية  المتنبي –   يوسف البديعي  (ج 1 / ص 42)
تهذيب الأسماء – محي الدين بن شرف النووي  (ج 1 / ص 189)
غاية النهاية في طبقات القراء – ابن الجزري  (ج 1 / ص 90)
زهر الأكم في الأمثال و الحكم – اليوسي  (ج 1 / ص 113)
لسان الميزان ــ ابن حجر العسقلاني   (ج 1 / ص 283)
معجم الأدباء –  ياقوت الحموي    (ج 1 / ص 314)
معجم البلدان –  ياقوت الحموي  (ج 3 / ص 330)
سير أعلام النبلاء –  الذهبي (ج 31 / ص 449)
وفيات الأعيان – ابن خلكان  (ج 2 / ص 80)
الوافي بالوفيات  –  الصفدي (ج 1 / ص 9)
الأعلام للزركلي  –   (ج 2 / ص 179)

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات