اليوم :29 March 2024

نبذة عن حياة الشيخ “عبد الستار كرد” رحمه الله

نبذة عن حياة الشيخ “عبد الستار كرد” رحمه الله
molana-abdussattarضمن سلسلة تراجم العلماء والشخصيات البارزة لأهل السنة في إيران، نبدأ بترجمة نجم آخر من النجوم الساطعة في سماء الخدمة والتضحية والنشاط في سبيل الدين، وهو فضيلة الشيخ “عبد الستار كرد” رحمه الله.

ولد الشيخ “عبد الستار كرد” رحمه الله تعالى في 20 من شعبان المعظم، سنة 1356 من الهجرة في قرية “كزك” من القرى المعروفة التابعة لمدينة “خاش” في بلوشستان. كان والده رحمه الله ملتزما متدينا وقليلا التكلف، وبسيطا في المعيشة، يعرف بإسم “هيبت”، وقد اشتهر في عشيرته بالأمانة والصداقة، وكان يشتغل بالفلاحة وتربية المواشي، يطلب بها قوته وقوت أولاده من الرزق الحلال الطيب.

الدراسة وطلب العلم:
التحق الشيخ عبد الستار رحمه الله سنة 1360 هـ.ق، بالمدرسة الابتدائية في قرية “سنكان”، واشتغل بالتعلم حتى نهاية السنة الخامسة في هذه المدرسة. ولازم أثناء التعلم في المدرسة الإبتدائية مجالس الشيخ “محمد عيسى الشهنوازي” رحمه الله، الذي كان أحد أبرز علماء بلوشستان ومن خريجي جامعة دارالعلوم ديوبند، وقرأ عليه الكتب الإبتدائية في العلوم الشرعية، وأتقن قراءة القرآن الكريم وتجويده.
إن ملازمة الشيخ عيسى والحضور في حلقات درسه قد تركا أثرا كبيرا في الشيخ عبد الستار لطلب العلوم الشرعية والدينية، لذلك غادر القرية بعد إكمال الدورة الإبتدائية سنة 1366هـ.ق، إلى باكستان للدراسة والتعلم، وبدأ التعلم في مدرسة دينية في مدينة “كوندي” في إقليم بلوشستان باكستان، ودرس على أساتذة كبار مثل الشيخ “عبد الحميد نوتي زهي” الذي كان متبحرا في العلوم الإسلامية خاصة في علم الفقه.
نظرا إلى قلة إمكانيات العيش آنذاك كانت الدراسة له في المدرسة الدينية شاقة وعسيرة. مرة ابتلي بمرض  شديد نتيجة الحرارة الشديدة، لكن الحنين البالغ إلى العلم كان يدفعه إلى مواصلة دراسته لتعلم العلوم الشرعية مكابدا جميع المشكلات والمصائب في سبيل ذلك. فقد كان ذكائه المفرط وأخلاقه الكريمة جعل منه شخصية يحبه جميع أساتذته. ثم بعد مدة ( سنة 1381 هـ.ق) انتقل إلى مدرسة “دار الهدى” وهي مدرسة دينية معروفة في إقليم سند بباكستان قريبة من مدينة “خير فور” التابعة لمديرية “تيدي”. واشتغل هناك بالدراسة والتعلم إلى أن أكمل دراسته للعلوم الشرعية سنة 1384هـ.ق.
أثناء التعلم أيضا شارك في حلقات خاصة لعلماء تلك البلاد في مجالات التفسير والميراث وغيرها، وانتفع من مجالس كبار العلماء أمثال الشيخ عبد الله الدرخواستي، والشيخ غلام الله خان والمفسر الكبير الشيخ عبد الغني الجاجروي رحمهم الله، ثم عاد إلى إيران.
أقام الشيخ عبد الستار بعد عودته من باكستان مدة سنة في قرى منطقة سنكان، وبدأ خدمة الإسلام والمسلمين بالقيام إلى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتطرق إلى حل نزاعات الناس واختلافاتهم، وأقام صلة ودية مع أهل المنطقة وعرّفهم على أحكام الشريعة الإسلامية وخصّ مكانا لإقامة الصلاة بالجماعة.
والشيخ عبد الستار رحمه الله كان على صلة مع كبارعلماء المنطقة والشخصيات البارزة مثل الشيخ “عبد العزيز ملا زاده” و”الشيخ شهداد سراواني” والشيخ “تاج محمد” والشيخ “محمد يوسف حسين فور” وغيرهم، وكان يسعى أن يقدم خدمات للشعب في المجالات الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية بالتضامن والوحدة الفكرية مع هؤلاء العلماء والشخصيات الكبيرة.

الإقامة في مدينة”خاش”:
في عهد الشيخ عبد الستار رحمه الله اشتغل رجال لم تكن لديهم المقدرة العلمية الكافية إلى حل قضايا الناس ومسائلهم الشرعية. ونظرا إلى قلة بضاعتهم في العلوم كانوا ضعفاء في تحمل هذه المسؤولية وربما قضاواتهم كانت تأتي خاطئة، فتنتج آثارا سلبية وتثير الكثير من الخصومات. لذلك راسل جمع من رؤساء القبائل وأعيان مدينة “خاش” فضيلة الشيخ عبد الستار، أن يقدم عليهم لتولي قيادتهم الدينية. وأشار فضيلة الشيخ “عبد العزيز” أيضا بالذهاب إلى “خاش” لإرشاد الناس وتوجيههم. وانتقل الشيخ رحمه الله تعالى  إلى “خاش” وسكن أولا في قرية “قاسم آباد” في ضواحى “خاش” ثم انتقل إلى داخل المدينة بعد ست سنوات، واشتغل بإرشاد الناس وتوجيههم في المجالات المختلفة إلى أن وافاه الأجل وهو في خدمة الدين والشعب.

صفاته ونشاطاته رحمه الله تعالى:
الأخلاق الكريمة
كان الشيخ رحمه الله يتمتع بسجايا عالية وصفات كريمة كثيرة، لا نستطيع أن نرى أمثالها إلا في قليل من الرجال. يقول الشيخ “نظرمحمد ديد كاه” حول كمالاته وشخصياته الجامعة: “العلماء الذين هم أصحاب خصائص وصفات سامية، كثيرون، ولكن قلما نجد عالما جامعا للصفات كلها، والشيخ عبد الستار رحمه الله كان من العلماء الذين يجمع العديد من الصفات”.
وقد بلغ تواضعه رحمه الله إلى حد يحسب نفسه أدنى الأشياء في هذه الدنيا، وكان يفضل غيره في كل من الأمور، وربما كان يواجه في ذلك انتقاد الكثيرين من العلماء، ولكنه لم يكن ينتهي من أسلوبه لما كان يبجل العلم  وأهله. لم يكن للكبر والتعالي محل في أخلاقه وتصرفاته. وقد اشتهر جوده وكرمه بين الخاصة والعامة، وكانت لديه رغبة كبيرة إلى إكرام الضيف. ومع ضيق المعيشة كانت بساط كرمه ممدودة دائمة، وضيوفه كانوا من مختلف الطبقات في المجتمع، وكان يلقى كل ضيف حسب مكانته في المجتمع، ويكرمهم بشكل مناسب، ويرعى فيهم أدنى خصائصهم الأخلاقية والنفسية.
كانت مجالسه تمتاز بالنشاط والسرور، يبين فيها المعارف الدينية السامية والمباحث العلمية بشكل جذاب ورائع. وخطابه كان يتفاوت عن غيره بالنصح والإخلاص والشفقة والصداقة والخوف من الله، لم يكن يتعب أحد يحضر مجلسه.
وكان مرجعا لجميع الطبقات من الناس من المثقفين والعلماء، يأتون إليه ويطرحون مسائلهم فيرجعون مطمئنين مقتنعين بالإجابات.
لا أحد يصان الانتقاد ولكن الشيخ رحمه الله يرقب على أعماله وأقواله وتصرفاته بحيث لم يكن يدع مجالا للانتقاد، مع أنه لم يكن يتسامح في بيان الحق والتصريح به.
من خصائصه أيضا أنه كان يتفقد أحوال العلماء وكان يساعدهم حسب طاقته، خاصة العلماء الذين واجهوا مشاكل في حياتهم فكان يجمع التبرعات من أهل الخير وينفقها على أسرهم.
كان الشيخ “عبد الستار” رحمه الله تعالى مشفقا ورحيما، قد بلغت شفقته إلى حد يزعم كل من كان له صلة بالشيخ رحمه الله أن الشيخ يشفق عليه إشفاقا لا يشفقه أحد.
كما أنه كان قليلا التكلف في معيشته. لم يكن يتفكر في جمع الأموال، وقد ترك من بعده فقط 60 ألف تومان، إضافة أن كان حذرا محتاطا في أموال بيت المال، وكان لا يستعمل سيارات المدرسة لأعماله الشخصية.

الإيثار والتضحية
كان رحمه الله من أكثر الناس إيثارا وتضحية، فكان يؤثر ويفضل غيره على نفسه دائما، وكان إيثاره سبب حيرة للجميع. فمع أن الشيخ رحمه الله كان مؤسس المسجد وإمام  وخطيب الجمعة و عالما كبيرا في مدينة خاش، إلا أنه لم يكن يرضى بأن يعرف كرئيس لمدرسة دينية أو خطيب الجمعة أو تجعل له مكانة خاصة، كما أنه كان يوصي أساتذه المدرسة أن لا يكتبوا إسمه كرئيس للمدرسة بل يكتبوا إسم الشيخ “يار محمد” كرئيس المدرسة وكان يقول دائما: “رئيس المدرسة في الواقع من يقوم بالخدمة فيها ليلا ونهارا لا أنا”. كما أنه عندما يحل القضايا الإختلافية لم يكن ينسبها إلى نفسها بل يصرح بأن القضية حلت بسبب فلان وفلان، ويذكر إسمه كشاهد من شهود القضية.

التفقه والقضاء والخطابة
كان الشيخ رحمه الله يملك ملكة فقهية عالية و تبحرا وأسلوبا منفردا في حل قضايا الشعب، مع ذلك كان يقلل من الفتاوى ويحيل الناس إلى غيره من العلماء نظرا إلى التواضع. عندما كان يأتي إليه رجل من منطقة أخرى، كان يقول له يوجد في منطقتكم العالم الفلاني ومع وجوده لم تكن حاجة إلى المجيء إليّ، ويدل السائل على عالم منطقته.
إن أسلوبه الخاص في حل مناقشات الناس ونزاعاتهم وبيان مسائلهم الشرعية كان من المواهب الفطرية التي أودعها الله فيه. فكان رحمه الله لا يكتفي بجواب السؤال من وجهة نظر الشريعة، بل كان يوصي طرفي النزاع بالحكمة والموعظة الحسنة إلى قبول حكم الشريعة، ثم يبدأ بحل القضية بالمهارة والبراعة التي يخضع الخصمان أمام قضائه، ويقومان من مجلسه وهما راضيان بقضائه، لا يحمل طرف على آخرغلا في قلبه، مطمئنان على أن الشيخ لم يرجح في قضائه طرفا على آخر.
وعند تضرر المحكوم عليه، كان يشجع الطرف الآخر على الفتوة والرأفة والفروسية ليترك قسطا من حقه، وكثيرا ما كانت شفاعته هذه تتلقى بالقبول ، وتحل المشكلة بهذه الطريقة.
لذلك كان محببا بين الناس بسبب هذه الأخلاق الكريمة والتعامل الحسن في حل مشاكل الناس حيث لم يكن يرضون أن يذهبوا إلى غيره للتحاكم في خصوماتهم.
وكان رحمه الله أيضا خطيبا بارعا، ولبيانه أثر كبير على المستمعين، ويقوم رحمه الله ببيان أصعب المسائل بأصدق وأبسط اللهجات يدركها الخاصة والعامة. وكان يوصي العلماء دائما أن الحق مر فحاولوا أن تجعلوه في أفواه الناس وهو حلو.

بذل الجهود للتقارب والوحدة
لقد بذل رحمه الله جهودا قيمة في سبيل التقارب والوحدة بين مختلف طبقات الشعب، فكان دائما يسعى أن يقيم الصلة بين الناس والمسؤولين. وأثناء دفاعه عن حقوق الناس كان يقدم نصائحه للمسؤولين بطريقة لا تنشأ من كلامه الفوضى ولا قصور في جانب بيان الحق، وكان يسعى دائما على جمع القوى المبعثرة ليمكن المزيد من الاستفادة منها خاصة في الشؤون الدينية، لذلك لما أسس مدرسة “مخزن العلوم” في خاش، دعا العلماء البارزين من منطقة خاش ليأتوا إلى هذا المركز الديني ويجمعوا قدراتهم وطاقاتهم للمزيد من النشاط. ربما نصحه بعض أهل العلم على تأسيس مدرسة جديدة، فكان رحمه الله يقول: “بدل تأسيس مدرسة جديدة، عليكم بتقوية المدرسة الحالية”. كما أنه قدم رحمه الله في آخر أيام حياته جهودا كثيرة لإقامة الجمعة والعيدين في مكان واحد، وقد نجح لحد كبير في إستمالة واسترضاء الكثيرين من خطباء الجمعة، ولكن وافته المنية قبل أن تتحقق هذه الأمنية.

تأسيس مدرسة “مخزن العلوم” الدينية في خاش
في سنة 1392 هـ.ق، أراد فضيلة الشيخ “عبد الستار” بإشارة من الشيخ “عبد العزيز” رحمه الله تعالى وبتعاون وتضامن مع جمع كبير من علماء المنطقة  ورؤساء القبائل في مدينة خاش، تأسيس مدرسة في هذه المدينة.  وقام أحد المتبرعين في مدينة خاش بإعطاء قطعة أرض لبناء المدرسة، واقترح متبرعون آخرون أراضي أخرى في نواحى مختلفة من المدينة.  فوجد نوع من الخلاف بين المتبرعين في قضية الأرض التي ستبنى فيها المدرسة، لأجل ذلك جاء الجميع إلى الشيخ “عبد العزيز” رحمه الله تعالى، وسافر فضيلة الشيخ “عبد العزيز” مع الشيخ “يارمحمد ريغي” إلى “خاش” وقاموا بجولة في جميع الأراضي المقترحة لبناء المدرسة، ثم فوض الجميع الحل النهائي إلى الشيخ “عبد العزيز” رحمه الله، وطلب رحمه الله أن يدعوا الجميع أولا ثم اقترح بالمقارعة بينهم، فخرجت القرعة باسم متبرع معروف في خاش وهو الحاج “محمد كرد”. ولم يلبث أن أعدت غرف الدرس والنوم للطلبة في تلك الأرض. ووجّه الشيخ “عبد الستار” إلى علماء كانوا مشتغلين في القرى والأرياف بتعليم الصبيان في المساجد والمدارس الصغيرة دعوة للمجيء إلى مدرسة خاش والاشتغال فيها بالتعليم. وقد استجاب الكثيرون منهم دعوة الشيخ، فكان من أول أساتذة هذه المدرسة: الشيخ “عبد الرحمن الشهنوازي”  والشيخ “در محمد روحاني” والشيخ “محمد ريغي”. و بذل الشيخ رحمه الله مساعي كبيرة في تطوير هذه المدرسة علميا وروحيا وتربويا. ولقد وسعت المدرسة  ببركة دعاء هؤلاء الأكابر وكذلك مساندة أهل المدينة نشاطاتها يوما فيوما. ومست الحاجة إلى جامع كبير بجنب هذه المدرسة، فأعدت قطعة أرض واسعة لذلك وبني الجامع فيها. ثم عين الشيخ “يارمحمد” كرئيس لهذه المدرسة بعد وفاة الشيخ رحمه الله، وعين الشيخ “محمد غل” كمفتي لهذه المدينة للإجابة على مسائل الناس الشرعية وحل نزاعاتهم. كان الشيخ “يارمحمد” من العلماء المخلصين والأتقياء المتواضعين في المنطقة، ولقد عمل كثيرا لتطوير المدرسة، وأسست في عهده مدرسة خديجة الكبرى للطالبات سنة 1398 هـ.ق، تحت إشراف مدرسة مخزن العلوم. وتولى رئاسة المدرسة بعد وفاة الشيخ “يار محمد”، الشيخ “محمد غل” الذي لم يألو جهدا في سبيل رقي المدرسة وازدهارها العلمي والديني. وأقيمت في عهده أيضا دار لتحفيظ كتاب الله تعالى، وبلغ عدد الطلبة والطالبات إلى أكثر من سبعمائة وعدد المؤظفين إلى أربعين شخصا. كما أن شعبة للإفتاء أفتتحت، واشتغل مجموعة من العلماء الشباب للرد على مسائل الناس وفتاواهم ليلا ونهارا.

الوفاة:
لم يكن أحد يزعم أن الشيخ رحمه الله يغادر الدنيا بهذه المفاجأة، ويترك من ورائه فراغا كبيرا بسبب وفاته، وقد علق الناس آمالا كثيرة بهذه الشخصية العظيمة، ولكن ما أراد الله كان وما لم يرد لم يكن.
لقد أصيبت يد الشيخ رحمه الله بعلة غريبة، وتمت عملية الجراحية مرارا عليها إلى أن فقدت الأنامل حسها كاملا. واقترح نفسه رحمه الله على الأطباء أنهم إن رأوا من الضروري قطع اليد فليفعلوا ذلك. في البداية لم يرض الأطباء بذلك ولكنهم لم يروا حلا غير ذلك في النهاية. فأجريت عملية الجراحية سنة 1415 هـ.ق، في مستشفى مسيح الدانشوري في طهران، وقطعت معصم يده، وتحسنت حاله بعد ذلك. ولكن عندما أراد أن يغادر طهران وهو قد تحسنت حاله في الظاهر، التحق بالدار الآخرة مودعا الدارالفانية في الركعة الثانية من صلاة الفجر صباح الجمعة 2 من ربيع الثاني 1415هـ.ق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ونقل جثمانه من طهران إلى خاش وتم دفنه في مقبرة “خسرو آباد” التي تقع في ضواحى المدينة. وقد شارك آلاف من الناس في صلاة جنازته، وقد غشى الغم كل المشاركين في صلاة الجنازة وتشييع جثمانه كأنهم فارقوا أعز أعضاء أسرتهم.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات