اليوم :25 April 2024

أبو بكر محمد بن زكريا الرازي رحمه الله

أبو بكر محمد بن زكريا الرازي رحمه الله
zakaria-raziلا بدَّ أن نعلم أن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن التفوق لا يكون إلا بجهد وتعب وبذل وتضحية، كما أن الإبداع لا يكون عشوائيًّا أبدًا، إنما يحتاج إلى تخطيط وتدريب ومهارة، وهكذا كانت حياة الرازي.

لقد بحث الرازي عن العلم في كل مصادره، واجتهد قدر استطاعته في تحصيل كل ما يقع تحت يده من معلومات، ثم أتبع ذلك بتفكير عميق وتجارب متعددة ودراسة متأنية.. حتى بدأ يعدِّل في النظريات التي يقرؤها، وأخذ ينقد ويحلل، ثم وصل إلى الاختراع والإبداع.
لم يكن الرازي طبيبًا فحسب، ولا معلمًا فقط … ولكنه أبدع كذلك في مجالات الأخلاق والقيم… كما أبدع في مجال الإنسانية، حتى أصبح علمًا من أعلام الفضيلة، كما كان علمًا من أعلام الطب…
كان الرازي طبيبا وجراحا فاضلا، يقرأ كثيرا ويربط بين العلم والعمل. وكانت له الشجاعة الكافية، فنقد أساطين الطب فيما لا يتفق مع الحقيقة كما يراها وأسهم بنصيب وافر في بناء صرح العلم ، بما دوّنه من آراء خاصة ومشاهدات دقيقة.

اسمه ونسبه:
هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي … الأستاذ الفيلسوف، رأس الأطباء، يسميه كتاب اللاتينية (رازيس). Rhazes.

مولده:
ولد في مدينة الري القريبة من طهران . سنة251 هـ .
وتعلم بها. وسافر إلى بغداد بعد سن الثلاثين.

الري:
مدينة الري تقع على بعد ستة كيلو مترات جنوب شرقي طهران.
واسمها عند اليونان راكس ((raxes وفي المئة الرابعة للهجرة خرب أكثرها وتحول أهلها إلى طهران القريبة منها.
وفي العصر الإسلامي كانت الري مدينة كبيرة. وقد حكى الاصطخري أنها كانت أكبر من أصبهان.
وطهران العاصمة كانت في العصر الإسلامي من قرى الري. ولكن حاليا صارت الري من توابع طهران الكبيرة.

حياته و نشأته:
لقد سجل مؤرخوا الطب و العلوم في العصور الوسطى آراء مختلفة ومتضاربة عن حياة أبي بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي .
وعلى الأرجح أنه ولد في سنة 251 هـ / 865 م .
وكان منذ طفولته محبًّا للعلم والعلماء، فدرس في بلدته “الري” العلوم الشرعية والطبية والفلسفية, ولكن هذا لم يُشْبع نَهَمَه لطلب العلم؛ فلم تكن مدينة الري – على اتساعها وكثرة علمائها – بالمدينة التي تحوي علوم الأرض في ذلك الوقت؛ ولذلك قصد الرازي عاصمة العلم في العالم في ذلك الوقت, وهي “بغداد” عاصمة الخلافة العباسية، فذهب إليها في شِبه بعثة علمية مكثفة، تعلم فيها علومًا كثيرة.

نشأته العلمية:
أولع بالموسيقى والغناء ونظم الشعر، في صغره.
واشتغل بالسيمياء والكيمياء، ثم عكف على الطب والفلسفة في كبره، فنبغ واشتهر.
عمل رئيسا للبيمارستان المعتضدي في بغداد.
وكان من رأي الرازي أن يتعلم الطلاب صناعة الطب في المدن الكبيرة المزدحمة بالسكان ، حيث يكثر المرضى ويزاول المهرة من الأطباء مهنتهم . ولذلك أمضى ريعان شبابه في مدينة السلام، فدرس الطب في بيمارستان بغداد .
وتولى تدبير مارستان الري، ثم رياسة أطباء البيمارستان المقتدري في بغداد.
قال ظهير الدين البيهقي صاحب تتمة صوان الحكمة:
كان محمد بن زكريا الرازي في بدء أمره صائغاً، ثم اشتغل بعلم الإكسير، فرمدت عيناه بسبب أبخرة العقاقير المستعملة في الإكسير، فذهب إلى طبيب ليعالجه، فقال له الطبيب: لا أعالجك حتى آخذ منك خمسمائة دينار!.
فدفع ابن زكريا الدنانير إلى الطبيب..
وقال الرازي: هذا هو الكيمياء لا ما اشتغلتُ به.
فترك صناعة إلاكسير واشتغل بعلم الطب، حتى نسخت تصانيفه تصانيف مَن قبله مِن الأطباء المتقدمين.
قال الذهبي في سير: وقد كان في صِباهُ مُغنِّيا، يُجيد ضربَ العود.
قيل:إِن أوّل اشتِغاله كان بعد مُضيِّ أَربعين سنة مِن عمره، ثمَّ اشتغل على الطبيب أَبي الحسن عليِّ بن ربّن الطَّبريّ الذي كان مَسيحِياً، فأسلم، وصنّف.
وقال الذهبي رحمه الله في العبر: فاشتغل في صباه باللهو والعبث، وعمل في صنعة الغناء والضرب بالعود، حتى اشتهر بذلك، ولبث على ذلك حتى بلغ الأربعين، بعدها بدأ في الاشتغال في علم الفلسفة والطب فضرب فيهما بأطنابه، وبلغ فيهما القدح المعلى، وأكثر من السفر والتنقل والترحال.
درس الرازي الرياضيات و الطب و الفلسفة و الفلك و الكيمياء و المنطق و الأدب.

أساتذته:
وكان أستاذه الأول في هذا المجال هو أبو الحسن علي بن سهل بن ربن الطبري وهو صاحب أول موسوعة طبية عالمية (فردوس الحكمة).
أخذ الفلسفة عن البلخي الفيلسوف، حتى فاق أستاذه، وبلغ فيها درجة الفارابي وابن سينا وضل بسبب ذلك ضلالاً بعيدًا …

تلامذته:
وعلى الرغم من كثرة تلامذة الرازي , أهمل المؤرخون ذكر أسماءهم…
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: وكانَ لاِبنِ زَكريَّا عِدَّةُ تلامِذَة،
ولم يذكر أسماءهم.

رحلاته:
سافر إلى بغداد بعد سن الثلاثين.
وبعد إتمام دراساته الطبية في بغداد، عاد الرازي إلى مدينة الري بدعوة من حاكمها، منصور بن إسحاق، ليتولى إدارة بيمارستان الري. واشتهر الرازي في مدينة الري، ثم انتقل منها ثانية إلى بغداد ليتولّى رئاسة البيمارستان المعتضدي الجديد ، الذي أنشأه الخليفة المعتضد بالله .
وتنقل الرازي عدة مرات بين الري وبغداد- تارة لأسباب سياسية- وأخرى ليشغل مناصب مرموقة لكلّ من هذين البلدين. ولكنّه أمضى الشطر الأخير من حياته بمدينة الري، وكان قد أصابه الماء الأزرق في عينيه، ثم فقد بصره وتوفى في مسقط رأسه.

مؤلفات الرازي:
ولم يكن الرازي يكتفي فقط بالتدريس والتعليم والامتحانات لنقل العلم، بل اهتم بجانب آخر لا يقل أهمية عن هذه الجوانب وهو جانب التأليف، فكان  مُكثرًا من التأليف وتدوين المعلومات وكتابة الكتب الطبية، ألف قرابة 224 كتابًا في الطب والفلسفة.. وقد ترجم بعضها إلى اللاتينية لتستمر المراجع الرئيسية في الطب حتى القرن السابع عشر.
وقد كان من أعظم مؤلفات الرازي كتاب “الحاوي في علم التداوي”، وهو موسوعة طبية شاملة لكافة المعلومات الطبية المعروفة حتى عصر الرازي، وقد جمع فيه  كل الخبرات الإكلينيكية التي عرفها، وكل الحالات المستعصية التي عالجها، وتتجلى في هذا الكتاب مهارة الرازي ، ودقة ملاحظاته، وغزارة علمه، وقوة استنتاجه..
وقد تُرجِم هذا الكتاب إلى أكثر من لغة أوروبية، وطُبع لأول مرة في بريشيا بشمال إيطاليا سنة 891هـ/ 1486م، وهو أضخم كتاب طُبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، وكان مطبوعًا في 25 مجلدًا، وقد أُعيدت طباعته مرارًا في البندقية بإيطاليا في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي), ويذكر المؤرخ “ماكس مايرهوف” أنه في عام 1500 ميلادية كان هناك خمس طبعات لكتاب الحاوي, مع عشرات الطبعات لأجزاء منه..
ولكن ما سلم هذا الكتاب من الاضطراب , لأنه رُتِّبَ وجُمِع بعد وفاته.
قال ابن أبي أصبيعة في تاريخ الأطباء: نقلا عن عبيد الله بن جبريل: “إن الرازي عمّر إلى أن عاصر الوزير ابن العميد وهو الذي كان سبب إظهار كتابه الحلوى بعد وفاته بأن بذل لأخته مالاً حتى أخرجت المسودات له فجمع تلاميذه الأطباء بالري حتى رتبوا الكتاب فخرج الكتاب على ما هو عليه من الاضطراب” انتهى.
ومن كتبه أيضًا “المنصوري”، وقد سماه بهذا الاسم نسبة إلى المنصور بن إسحاق حاكم خراسان، وقد تناول فيه موضوعات طبية متعددة في الأمراض الباطنية والجراحة والعيون، وقد تعمَّد الرازي الاختصار في هذا الكتاب, فجاء في عشرة أجزاء!! لذلك رغب العلماء الأوروبيون في ترجمته عدة مرات إلى لغات مختلفة، منها اللاتينية والإنجليزية والألمانية والعبرية! وقد تم نشره لأول مرة في ميلانو سنة 1481م، وظل مرجعًا لأطباء أوربا حتى القرن السابع عشر الميلادي.
ومن أروع كتبه كذلك كتاب “الجدري والحصبة”، وفيه يتبين أن الرازي أول من فرق بين الجدري والحصبة، وقد أُعيدت طباعة هذا الكتاب في أوروبا أربع مرات بين عامي ( 903 : 1283هـ) (1498 : 1869م).
ومن كتبه أيضاً كتاب “الأسرار في الكيمياء”، الذي بقي مدة طويلة مرجعًا أساسيًّا في الكيمياء في مدارس الشرق والغرب.
ومن كتبه المهمة كذلك كتاب “الطب الروحاني” الذي ذكر فيه أن غايته من الكتاب هو أصلاًح أخلاق النفس.. وحضَّ في كتابه هذا على تكريم العقل، وعلى قمع الهوى, ومخالفة الطباع السيئة, وتدريب النفس على ذلك.
ومن مؤلفاته أيضاً : كتاب فِي أن للإنسان خالقاً حكيماً, كتاب ايساغوجي وهو المدخل إِلَى المنطق. كتاب جمل معاني قاطيغورياس. كتاب هيئة العالم. كتاب الرد عَلَى من استقل بفصول الهندسة. كتاب الشكوك عَلَى جالينوس. كتاب كيفيات الأبصار. كتاب فيما يقدم من الفواكه والأغذية وَمَا يؤخر. كتاب الرد عَلَى المسمعي المتكلم فِي رده عَلَى أصحاب الهيولي. كتاب الخلاء والملاء والزمان والمكان. كتاب تفسيره كتاب أناتو إِلَى فرفوريوس فِي شرح مذهب أرسطوطاليس فِي العلم الآلهي. كتاب الرد عَلَى أبي القاسم البلخي فِي نقضه المقالة الثانية فِي العلم الآلهي. كتاب الحصى فِي الكلى والمثانة. كتاب الأدوية الموجودة بكل مكان. كتاب الطب الملوكي. كتاب الرد عَلَى الجاحظ فِي نقض الطب. كتاب الفالج. كتاب هيئة العين. كتاب هيئة القلب. كتاب هيئة الصماخ. كتاب أوجاع المفاصل. كتاب المثبت الانتقاد والتحرير عَلَى المعتزلة. كتاب تقسيم الأمراض وعلاجاتها. كتاب النقض عَلَى الكيال فِي الإمامة. كتاب فِي جواهر الأجسام. كتاب فِي وجوب الأدعية. كتاب الحاصل فِي العلم الإلهي. كتاب دفع مضار الأغذية. كتاب فِي علة جذب حجر المغناطيس. كتاب الرد عَلَى سهيل فِي إثبات المعاد. كتاب ميزان العقل. كتاب فِي الشكر مقالتان. كتاب فِي الأوهام والحركات والعشق. كتاب خواص التلاميذ. كتاب الآراء الطبيعية. كتاب ترتيب أكل الفواكه. كتاب مَا يعرض فِي صناعة الطب. لحائن فِي الشعر. قصيدة فِي العظة اليونانية. رسالة فِي الجبر. رسالة فِي تعطيش السمك والعلة فِيهِ. رسالته فِي غروب الشمس والكواكب. رسالة فِي كيفية النحو. كتاب أطعمة المرضى. كتاب العلل القاتلة. رسالة فِي صناعة الطب ووصفها وتمييزها. رسالة لم صار جهال الأطباء والنساء فِي المدن أكثر من العلماء…

أمانته العلمية:
غير أن أهم ما ميز الرازي في ذلك كله، هو البُعد الأخلاقي عنده؛ فقد تميز بالأمانة العلمية التامة في كتاباته؛ فكان لا يذكر أمرًا من الأمور اكتشفه غيره إلا أشار إلى اسم المكتشف الأصلي، ولذلك حفلت كتبه بأسماء جالينوس وأبقراط وأرمانسوس وغيرهم، كما ذكر في كتبه المحدثين من الأطباء أمثال يحيى بن ماسويه، وحنين بن إسحاق.
وكان الرازي يحض تلامذته على اتباع نهج الكتابة والتأليف، فكان يقول لهم: “إذا جمع الطالب أكبر قدر من الكتب، وفهم ما فيها، فإن عليه أن يجعل لنفسه كتابًا يضمنه ما غفلت عنه الكتب التي قرأها”.
فهو ينصح كل طلبته أن يسجلوا المعلومات التي يلحظونها في أثناء دراستهم وعلاجهم للمرضى – والتي لم تُذكر في الكتب السابقة – وبذلك يستفيد اللاحقون بعلمهم وتأليفهم.

من ملامح أخلاقه وصفاته:
محمد بن زكريا أبو بكر الرازي طبيب المسلمين غير مدافع وأحد المشهورين فِي علم المنطق والهندسة… إِلاَّ أنه توغل فِي العلم الإلهي وَمَا فهم غرضه الأقصى فاضطرب لذلك وتقلّد أراء سخيفة, وانتحل مذاهب خبيثة …
قال أبو الحسن الوراق: قال لي رجل من أهل الري شيخ كبير, سألته عن “الرازي” فقال: كَانَ شيخاً كبير الرأس مسقطه.
ولم يكن الرازي عالمًا فقط، بل كان إنسانًا خلوقًا من الدرجة الأولى، فقد اشتهر بالكرم والسخاء، وكان بارًّا بأصدقائه ومعارفه، عطوفًا على الفقراء وبخاصة المرضى، فكان ينفق عليهم من ماله الخاص، ويجري لهم أحيانًا الرواتب الثابتة!!
وكان يوصي تلامذته أن يكون هدفهم هو إبراء المرضى أكثر من نيل الأجور منهم، ويوصيهم كذلك بأن يكون اهتمامهم بعلاج الفقراء تمامًا كاهتمامهم بعلاج الأمراء والأغنياء.. بل إنه من شدَّة اهتمامه بالفقراء ألَّف لهم كتابًا خاصًا سماه “طب الفقراء”، وصف فيه الأمراض المختلفة وأعراضها ثم وصف طرق علاجها عن طريق الأغذية والأعشاب الرخيصة بدلاً من الأدوية مرتفعة الثمن أو التراكيب النادرة.
ومن شدة اهتمامه بالأخلاق الحميدة ألَّف كتابًا خاصًا بهذا الأمر سماه “أخلاق الطبيب”، يشرح فيه العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، وبين الطبيب والطبيب، وضمَّنه كذلك بعض النصائح للمرض في تعاملهم مع الأطباء.
وكان يجلس في مجلسه ودونه تلاميذه، ودونهم تلاميذهم، ودونهم تلاميذ أخر، فيجئ المريض فيذكر مرضه لأوّل مَن يلقاه، فإن كان عندهم علم وإلّا تعدّاهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي في ذلك.
وكان الرازي دائمًا ينصح تلاميذه أن يساعدوا الفقراء بأن يعالجوهم مجانًا، ويعلّمهم أنّ مهنتهم مهنة الرحمة بالضعفاء والمعذبين، وأنّ عليهم مساعدة مرضاهم على الشفاء بالكلمة الطيبة، وإحياء الأمل في نفوسهم ورفع روحهم المعنوية، كما كان ينصحهم بالمدوامة على القراءة والبحث والاطلاع في المراجع الطبية مهما بلغوا من العمر والخبرة، كما نصحهم بالتعفف عند الكشف على النساء، والالتزام بالشريعة الإسلامية السمحة، ونهاهم عن الكبر والخيلاء.

الرازي.. معجزة الطب عبر الأجيال
أما عن شهرته في الطب فلقد فاقت شهرته في الفلسفة، حتى قيل: «إن الطب كان ميتًا حتى أحياه (جالينوس) ومتفرقًا حتى جمعه (الرازي) وناقصًا حتى أتمه (ابن سينا)» فلقد كان الرازي من أذكياء أهل زمانه، واسع المعرفة بالطب، ألف قرابة 224 كتابًا في الطب والفلسفة أشهرها «الحاوي».
اهتمَّ الرازي أيضًا بالعلوم التي لها علاقة بالطب، كعلم الكيمياء والأعشاب، وكذلك علم الفلسفة؛ لكونه يحوي آراء الكثير من الفلاسفة اليونان والذين كانوا يتكلمون في الطب أيضًا، وكان أستاذه الأول في الفلسفة هو “البلخي”. وهكذا أنفق الرازي عدة سنوات من عمره في تعلم كل ما يقع تحت يديه من أمور الطب، حتى تفوق في هذا المجال تفوقًا ملموسًا.
ثم عاد الرازي بعد هذا التميز إلى الري, فتقلَّد منصب مدير مستشفي مدينة الري، وكان من المستشفيات المتقدمة في الإسلام، وذاعت شهرته، ونجح في علاج الكثير من الحالات المستعصية في زمانه، وسمع بأمره الكبير والصغير والقريب والبعيد، حتى سمع به “عضد الدولة بن بويه” كبير الوزراء في الدولة العباسية, فاستقدمه إلى بغداد ليتولى منصب رئيس الأطباء في المستشفى العضدي، وهو أكبر مستشفى في العالم في ذلك الوقت، وكان يعمل به خمسون طبيبًا.
والحق أنه لم يكن مستشفى فقط, بل كان جامعة علمية, وكليَّة للطب على أعلى مستوى. وقد أصبح الرازي فيه مرجعية علمية لا مثيل لها، ليس في بغداد فقط، وإنما في العالم كله، وليس على مدى سنوات معدودة، ولكن لقرون متتالية، فكان معجزة الطب عبر الأجيال!!
ولعلَّه من المهم جدًّا أن نقف وقفة ونتساءل: كيف وصل الرازي إلى هذا المجد، وإلى هذه المكانة؟
لا بدَّ أن نعلم أن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن التفوق لا يكون إلا بجهد وتعب وبذل وتضحية، كما أن الإبداع لا يكون عشوائيًّا أبدًا، إنما يحتاج إلى تخطيط وتدريب ومهارة، وهكذا كانت حياة الرازي.
لقد بحث الرازي عن العلم في كل مصادره، واجتهد قدر استطاعته في تحصيل كل ما يقع تحت يده من معلومات، ثم أتبع ذلك بتفكير عميق وتجارب متعددة ودراسة متأنية.. حتى بدأ يعدِّل في النظريات التي يقرؤها، وأخذ ينقد ويحلل، ثم وصل إلى الاختراع والإبداع.

إنجازات الرازي:
بل إن الرازي وصل إلى ما هو أروع من ذلك، حيث أرسى دعائم الطب التجريبي على الحيوانات، فقد كان يجرب بعض الأدوية على القرود فإن أثبتت كفاءة وأمانًا جربها مع الإنسان، وهذا من أروع ما يكون، ومعظم الأدوية الآن لا يمكن إجازتها إلا بتجارب على الحيوانات كما كان يفعل الرازي.
ولقد كان من نتيجة هذا الأسلوب العلمي المتميز للرازي، أن وصل إلى الكثير من النتائج المذهلة، وحقق سبقًا علميًّا في كثير من الأمور.
فالرازي هو أول مبتكر لخيوط الجراحة، وقد ابتكرها من أمعاء القطة! وقد ظلت تستعمل بعد وفاته لعدة قرون، ولم يتوقف الجراحون عن استعمالها إلا منذ سنوات معدودة في أواخر القرن العشرين، عند اختراع أنواع أفضل من الخيوط، وهذه الخيوط هي المعروفة بخيوط أمعاء القط.. “cat gut”.
والرازي هو أول من صنع مراهم الزئبق.
وهو أول من فرَّق بين النزيف الوريدي والنزيف الشرياني، واستخدام الضغط بالأصابع لإيقاف النزف الوريدي، واستخدم الربط لإيقاف النزيف الشرياني، وهذا عين ما يستخدم الآن!!
وهو أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون..
وهو أول من استخدم الأفيون في علاج حالات السعال الجاف..
وهو أول من أدخل المليِّنات في علم الصيدلة..
وهو أول من اعتبر الحمَّى عرضًا لا مرضًا.
وكان يهتم بالتعليق على وصف البول ودم المريض للخروج منهما بمعلومات تفيده في العلاج.

حدة الذكاء:
لم يكن الرازي مبدعًا في فرع واحد من فروع الطب، بل قدم شرحًا مفصلاً للأمراض الباطنية والأطفال والنساء والولادة والأمراض التناسلية والعيون والجراحة وغير ذلك..
وقد منحه الله ذكاء فوق العادة، ويؤكد ذلك وسيلته في اختيار المكان المناسب لإنشاء مستشفي كبير في بغداد.. فقد اختار أربعة أماكن تصلح لبناء المستشفي، ثم بدأ في المفاضلة بينها، وذلك بوضع قطعة لحم طازجة في الأماكن الأربعة.. ثم أخذ يتابع تعفُّن القطع الأربع، ثم حدد آخر القطع تعفنًا، واختار المكان الذي وُضعت فيه هذه القطعة لبناء المستشفي؛ لأنه أكثر الأماكن تميزًا بجو صحي، وهواء نقي يساعد على شفاء الأمراض.
ولم يكن الرازي مجرد طبيب يهتم بعلاج المرض، بل كان معلمًا عظيمًا يهتم بنشر العلم وتوريث الخبرة، وكان  يدرس تلامذته الطب في المدرسة الطبية العظيمة في المستشفي العضدي ببغداد، وكان يعتمد في تدريسه على المنهجين: العلمي النظري، والتجريبي الإكلينيكي؛ فكان يدرس الكتب الطبية، وبعض المحاضرات، ويدير الحلقات العلمية، وفي ذات الوقت يمر مع طلبته على أسِرَّة المرضى.. يشرح لهم ويعلمهم وينقل لهم خبرته، وكان يُدرِّس لهم الطب في ثلاث سنوات، ويبدأ بالأمور النظرية ثم العملية، تمامًا كما يحدث في كليات الطب الآن، وكان في آخر السنوات الثلاث يعقد امتحانًا لطلبة الطب مكونًا من جزأين: الجزء الأول في التشريح، والثاني في الجانب العملي مع المرضى، ومن كان يفشل في الجانب الأول “التشريح” لا يدخل الامتحان الثاني.
وكان الرازي من أوائل الأطباء الذين يعالجون مرضاهم بأسلوب نفسي بدون أدوية.. ويأتي بالقصاصين إلى المستشفى ليقصُّوا على المرضى القصص والحكايات ليرفهوا عنهم، وينسوهم آلام المرض، واستمر الرازي في خدمة مرضاه، وكلما اكتشف شيئًا جديدًا؛ ازداد تواضعًا وحبًّا لعمله…

الثناء عليه:
هذا، وقد اعترف القاصي والداني لأبي بكر الرازي بالفضل والمجد والعلم والسبق، وذكره محمد بن إسحاق النديم فِي كتابه فقال: أبو بكر محمد بن زكريا الرازي من آل الري, أوحد دهره وفريد عصره, قَد جمع المعرفة بعلوم القدماء لا سيما الطب.
وقال الذهبي رحمه الله: الأُستاذ، الفيلسوف، أبو بكر محمَّد بن زكريَّا الرَّازيّ الطّبيب, صاحب التَصانيف، مِن أذكياء أهل زمانه، وكان كثيرَ الأسفار، وافِر الحُرمة، صاحبَ مُرُوءةٍ وإِيثار ورَأفة بالمَرضى، وكان واسِعَ المَعرفة، مُكبّاً على الاشتغال، مَليحَ التأْليف.
وقال غيره: كان إمام وقته في علم الطب والمشار إليه في ذلك العصر، وكان متقناً لهذه الصناعة حاذقاً فيها عارفاً بأوضاعها وقوانينها، تشد إليه الرحال في أخذها عنه.
بل اهتم غير المسلمين أيضًا بإنجازات الرازي وابتكاراته..
فنجد – فضلاً عن ترجمة كتبه إلى اللغات الأوربية وطبعها أكثر من مرة – إشارات لطيفة وأحداثًا عظيمة تشير إلى أهمية ذلك العالم الجليل، ومن ذلك أن الملك الفرنسي الشهير لويس الحادي عشر، الذي حكم من عام 1461م إلى 1483م، قد دفع الذهب الغزير لينسخ له أطباؤه نسخة خاصة من كتاب “الحاوي”؛ كي يكون مرجعًا لهم إذا أصابه مرض ما!!
ونجد أن الشاعر الإنجليزي القديم “جوفري تشوسر” قد ذكر الرازي بالمدح في إحدى قصائده المشهورة في كتابه “أقاصيص كونتربري”!!
ولعله من أوجه الفخار أيضًا أنه رغم تطور العلم وتعدد الفنون إلا أن جامعة بريستون الأمريكية ما زالت تطلق اسم الرازي على جناح من أكبر أجنحتها، كما تضع كلية الطب بجامعة باريس نصبًا تذكاريًّا للرازي، إضافةً إلى صورته في شارع سان جيرمان بباريس.

من كلام أبي بكر محمد بن زكريا الرازي:
ومما نقل عنه:
الطب حفظ الصحة، ومرمة العلة.
وقال: السموم ثلاثة: أكل الشواء المغموم، واللبن الفاسد، والسمك المنتن.
ومن كلامه: مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية، مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب.
من كلامه: إذا كان الطبيب عالماً والمريض مطيعاً فما أقل لبث العلة.
قال: “عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظرية تأييدًا لمشاهير العلماء..
قال: الحقيقة في الطب غاية لا تدرك، والعلاج بما تنصه الكتب دون إعمال الماهر الحكيم برأيه خطر.
وقال: الاستكثار من قراءة كتب الحكماء، والإشراف على أسرارهم، نافع لكل حكيم عظيم الخطر.
وقال: العمر يقصر عن الوقوف عى فعل كل نبات في الأرض، فعليك بالأشهر، مما أجمع عليه، ودع الشاذ؛ واقتصر على ما جربت.
وقال: من لم يعن بالأمور الطبيعية، والعلوم الفلسفية، والقوانين المنطقية، وعدل إلى اللذات الدنيائية، فاتهمه في علمه؛ لا سيما في صناعة الطب.
وقال: متى اجتمع جالينوس وأرسطوطاليس على معنى فذلك هو الصواب؛ ومتى اختلفا صعب على العقول إدراك صوابه جداً.
وقال: الأمراض الحارة أقتل من الباردة لسرعة حركة النار.
وقال: الناقهون من المرض إذا اشتهوا من الطعام ما يضرهم فيجب للطبيب أن يحتال في تدبير ذلك الطعام وصرفه إلى كيفية موافقة، ولا يمنعهم ما يشتهون بتة.
وقال: ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبداً الصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك فمزاج الجسم تابع لأخلاق النَّفْس.
وقال: الأطباء الأميون والمقلدون، والأحداث الذين لا تجربة لهم، ومن قلت عنايته وكثرت شهواته، قتالون.
وقال: ينبغي للطبيب أن لا يدع مساءلة المريض عن كل ما يمكن أن تتولد عنه علته من داخل ومن خارج، ثم يقضي بالأقوى.
وقال: ينبغي للمريض أن يقتصر على واحد ممن يوثق به من الأطباء، فخطؤه في جنب صوابه يسير جداً.
وقال: من تطبب عند كثيرين من الأطباء يوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم.
وقال: متى كان اقتصار الطبيب على التجارب دون القياس وقراءة الكتب خذل.

ومن شعر الرازي:
لعمري ما أدري وقد آذن البلى …  بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه … من الهيكل المنحل والجسد البالي
قال الصفدي صاحب “الوافي” : وكنت وقفت عليهما بدمشق سنة 731، فقلتُ راداً عليه:
إلى جنة  المأوى  إذا كنتَ خيراً … تخلد  فيها  ناعم  الجسم والبال
وإن كنت شريراً ولم تلق رحمة … من الله فالنيران أنت لها صالي

وفاته:
لقد كان الرازي بحق صورة رائعة من صور الحضارة الإسلامية، قلَّما تتكرر في التاريخ، لقد كان طبيبًا وعالمًا ومعلمًا وإنسانًا.. ومات عن عمر بلغ ستين عامًا، لكن من الصعب أن نقول: إنه مات؛ فالمرء يُكتَب له الخلود بقدر ما ينفع الناس، وصدق الرسول الكريم عند ما ذكر في الحديث الذي رواه عنه أبو هريرة ، أنه قال: “إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ”وذكر منها: “أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ”.
وفي ليلة من ليالي عام 311هـ/923م مات الرازي، بعد أن ترك تراثًا طبيًّا عظيمًا.
وعمي في آخر عمره.
وذكر أن سبب عماه, أنه صنف للملك منصور المذكور كتاباً في الكيمياء فأعجبه ووصله بألف دينار وقال: أريد أن تخرج ما ذكرت من القوة إلى الفعل، فقال: إن ذلك مما يحتاج إلى مؤن وآلات وعقاقير صحيحة وأحكام صنعة، فقال له الملك: كل ما تريده أحضره إليك وأمدك به، فلما كع عن مباشرة ذلك وعمله فقال الملك: ما اعتقدت أن حكيماً يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة يشغل بها قلوب الناس ويتعبهم فيما لا فايدة فيه, والألف دينار لك صلة ولا بد من عقوبتك على تخليد الكذب في الكتب، وأمر أن يضرب بالكتاب الذي عمله على رأسه … فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء في عينيه.
ومات ببغداد. رحمه الله تعالى.

**********************************************
من منابع البحث:

مشاهير أعلام المسلمين /علي بن نايف الشحود.
أخبار العلماء بأخيار الحكماء – القفطي (ج 1 / ص 115)
موقع / مفكرة الإسلام.
العبر في خبر من غبر – للذهبي (ج 1 / ص 115)
الأعلام للزركلي – (ج 6 / ص 130)
(موقع قصة الإسلام)
تتمة صوان الحكمة – ظهير الدين البيهقي (ج 1 / ص 2)
الوافي بالوفيات – للصفدي (ج 1 / ص 330)
وفيات الأعيان – ابن خلكان. (ج 5 / ص 157)
سير أعلام النبلاء – للإمام الذهبي (ج 27 / ص 403)
عيون الأنباء في طبقات الأطباء – ابن أبي أصيبعة (ج 1 / ص 274)
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

الكاتب: الشيخ أبو محمد البلوشي

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات