وفي الظروف السابقة كان الجيش يتمتع بحصانة خاصة، وكان لا يمكن مطلقًا أن يتم إحالة رجاله إلى القضاء المدني، ولكن في حالة وجود أية مخالفات فكان يتم تحويل المتورطين إلى القضاء العسكري، والذي كان يبرئ الجنرالات في العادة من أية شبهة، ولكن اليوم أصبحنا نرى جنرالات الجيش يخضعون لمحاكمات في المحاكم المدنية ويتم تجييش الإعلام والصحافة التركية من أجل مهاجمة ذلك السلوك الذي أصبح مشينًا في تركيا الجديدة، بعد أن استطاع إردوجان ورفاقه أن يبسطوا هيمنتهم على الحياة السياسية في البلاد.
وبالأمس وجهت محكمة تركية الاتهام لجنرالين متقاعدين في الجيش بقضية التآمر للإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية، في إجراء يتوقع أن يزيد حدة التوتر بين الحكومة من جهة والمؤسسة العسكرية والقوى العلمانية من جهة أخرى، وقالت قناة سيانان تورك التلفزيونية إن الضابطين الكبيرين هما جيتين دوغان القائد السابق للجيش الأول التركي، وإنجين آلان القائد السابق للقوات الخاصة، وهما أبرز شخصيتين يتم اعتقالهما رسميا بعد احتجاز نحو خمسين ضابطا، وجه الاتهام لثلاثين منهم يوم الاثنين الماضي.وفي وقت سابق أمس، اعتقلت الشرطة التركية 17 آخرين من ضباط الجيش العاملين وضابطا متقاعدا في عملية شملت 13 مدينة في أرجاء تركيا.
وهذا العدد الكبير من ضباط الجيش الذين يتم تحويلهم إلى المحاكمة يكشف لنا عن أمرين هامين، أولهما عدد الضباط المتورطين في تلك المؤامرة والذين يحملون عداءً حقيقيًا للتجربة الإسلامية ككل ولحزب العدالة والتنمية بصفة خاصة، أما الأمر الثاني فهو قدرة حزب العدالة والتنمية على ترسيخ أقدامه في الحياة السياسية في البلاد، وقدرته على تحويل أولئك الضباط إلى المحاكمة، بالرغم مما تحمله المؤسسة العسكرية من نفوذ كبير داخل تركيا.
لقد تمكن حزب العدالة والتنمية من أن يحقق توافقًا داخل البلاد على ضرورة إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية لهذا البلد العريق، والذي يمثل ثقلاً كبيرًا للعالم الإسلامي، هذا التوافق استطاع أن يجمع بين طياته الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء، بل هناك الكثير من رجال الجيش الذين باتوا يؤمنون بنهج العدالة والتنمية في تحديث تركيا وفي تحقيق مكانتها المستحقة بين الأمم، حيث إن تركيا تمتلك التاريخ والجغرافيا والمصادر والريادة، وكلها أمور تؤهل أحفاد الخلافة العثمانية من أن يستيقظوا من جديد وأن يحتلوا مكانتهم اللائقة في العالم.
فمع قدوم حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في عام 2002، بدأ إردوجان ورفاقه بتطبيق سياسة أحمد داود أوغلو وزير الخارجية الحالي، والتي تتخلص في “العمق الاستراتيجي” و”صفر مشكلات”، وبدأت تركيا في التمدد في جوارها الإقليمي محققة عمقها الاستراتيجي، وعقدت عدة اتفاقات مع سوريا ومع العراق، بالإضافة إلى محاولة حلها للمشكلات مع أرمينيا وغيرها من الدول، وبسط نفوذها في القوقاز وفي البلقان، وتقديم نفسها كمركز ترانزيت لنقل الغاز والنفط من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى البحار الدفيئة في الجنوب، هذا بالإضافة إلى موقف إردوجان الصارم تجاه الكيان الصهيوني ورئيسه شمعون بيريز في دافوس، وكلك إلغاء مناورة نسر الأناضول مع جيش الدولة الصهيونية، وكل تلك الإجراءات كانت من متطلبات تمدد تركيا في عمقها الاستراتيجي، والذي يبدو أن “إسرائيل” تمثل عقبة كؤود أمام ذلك التمدد، فما كان إلا أن غيرت تركيا من سياستها مع “إسرائيل”، حيث إن الاستفادة الأساسية من علاقاتها مع الكيان الصهيوني هو استيراد الطائرات بدون طيار منها لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني في جبال الجنوب الشرقي الوعرة، ولكن بعد تصفير المشكلات من غيرالمتوقع أن تكون تركيا بحاجة ماسة إلى “إسرائيل”.
ويبدو أن الجيش التركي بدأ يستوعب ذلك التحول في البوصلة التركية، حيث تحافظ تركيا بتوجهها ذلك على علاقاتها بالغرب كعضو أساسي في حلف شمال الأطلنطي، وكذلك كمرشح قوي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، هذا بالإضافة إلى علاقاتها الجيدة والاستراتيجية مع الولايات المتحدة ـ الموفر الأول للسلاح لتركيا ـ وبذلك يكون الجيش في مأمن من حيث تصدير السلاح، وبالتالي فإن الجيش بذلك بدأ يستوعب الاستراتيجية التركية الجديدة ويبدو أنه يؤيدها على أعلى مستويات القيادات، بما في ذلك قائد الأركان ذاته الجنرال إلكر باشبوج.
فقد عقد الرئيس التركي عبد الله جل ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وقائد القوات المسلحة اجتماعا طارئا استمر ثلاث ساعات الخميس الماضي ووجه إردوغان تحذيرا بأنه “لا أحد فوق القانون في تركيا” وتعهد بتقديم جميع المتورطين إلى المحاكمة. كما قال أردوغان في اجتماع لحزب العدالة والتنمية الحاكم “لا يمكن لأحد الإفلات من العقاب”.وفي كلمة تلفزيونية, اتهم أردوغان وسائل الإعلام بتأجيج القلق بين المستثمرين الذين شعروا بتوتر يوم الاثنين بسبب اعتقال نحو خمسين ضابطا يشتبه باشتراكهم في “المؤامرة، وقال : “ليس من حق أحد أن يقلب اقتصاد البلاد رأسا على عقب, ولن نسمح بذلك”.
تلك اللهجة القوية من رئيس الوزراء التركي لم تكن ممكنة من قبل في تركيا، لكن إردوجان نجح في أن يحظى بالإجماع الشعبي، واستطاع أن يستقطب أصوات العلمانيين والمسلمين على حد سواء، حتى أصوات الأكراد التي استهدفها بعد أن قام بما أسماه “الانفتاحة الكردية”، بالسماح لهم بحرية ممارسة ثقافتهم ولغتهم، مما جعل لحزب العدالة والتنمية أغلبية كبيرة في البرلمان تؤمنه من أية تحركات من متطرفي العلمانية.
وفي ظل العدالة والتنمية ارتفعت نسبة اللاتي يرتدين الحجاب في البلاد، وكذلك ارتفعت نسبة الذين باتوا يعرفون أنفسهم بأنهم “مسلمون” قبل أن يكونوا أتراك، ولكن على الجانب الآخر ارتفعت نسبة استهلاك الخمر أيضًا، هذا إلى جانب العديد من مظاهر العلمانية التي لا تزال موجودة في تركيا مثل منع المحجبات من دخول الجامعات بالرغم من إقرار البرلمان لقانون يسمح لهم بذلك، وهو ما رفضته المحكمة الدستورية التركية، وظل الحظر ساريًا.
إن تركيا تتقدم خطوات إلى الأمام باتجاه تحقيق الهوية الإسلامية لتركيا، بالرغم من أنها خطى وئيدة، وبالرغم من بعض الانتكاسات، إلا أن تركيا بمثابة من يخطو خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، ولكن هذا يعني في النهاية أن تركيا تتقدم باتجاه الإسلام ولو طال الأمد.
محمد الزواوي
مفكرة الإسلام
تعليقات