مولده:
ولد الزهري رحمه الله سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه، وهي السنة التي توفيت فيها السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.
قال الذهبى: مولده فيما قاله خليفة بن ابن صالح فى سنة خمسين، وفيما قاله خليفة بن خياط سنة إحدى و خمسين. وروى عنبسة: حدثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب ( أى : الزهري) قال : وفدت إلى مروان وأنا محتلم، فهذا مؤيد للتاريخ الذي مر ذكره. فإن مروان هو ابن الحكم بن أبى العاص أبو عبد الملك الأموى، ولى الخلافة فى آخر سنة أربع وستين، ومات سنة خمس وستين ، وله ثلاث أو إحدى وستون سنة. فقول الزهري: وفدت عليه و أنا محتلم، يعنى: وقد بلغ العام الثالث عشر أو الرابع عشر من عمره، فهذا يؤيد أن مولده سنة إحدى وخمسين أو قبلها.
قال الذهبي: وأبى ذلك يحيى بن بكير. وقال: ولد سنة ست وخمسين، حتى قال له يعقوب الفسوي: فإنهم يقولون:إنه قد وفد إلى مروان، فقال: هذا باطل، إنما خرج إلى عبد الملك بن مروان، وقال: لم يكن عنبسة موضعاً لكتابة الحديث.
نشأته:
نشأ الزهري رحمه الله فقيراً وأكب على العلم، ولازم بعض صغارالصحابة وعلماء التابعين الكبار، فأدرك من الصحابة أمثال: أنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما، ومن التابعين، فقهاء المدينة السبعة، وعبيد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب وغيرهم من كبار التابعين. وفي سماعه من عبد الله بن عمر رضي الله عنه عنه كلام سنتطرق إليه في أخر هذه المقالة. ويذكر أنه رأى ابن الزبير والحسن والحسين رضي الله عنهم وسمع منهم.
قال ابن سعد فى الطبقات الكبرى: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، قال : سمعت الزهرى يقول: نشأت و أنا غلام لا مال لى مُقطعاً من الديوان، و كنت أتعلم نسب قومى من عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري. وكان عالماً بنسب قومى، وهو ابن أختهم وحليفهم ، فأتاه رجل فسأله عن مسألة من الطلاق، فعيى بها، وأشار له إلى سعيد بن المسيب، فقلت فى نفسى: ألا أرانى مع هذا الرجل المسن، يعقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على رأسه، وهو لا يدرى ما هذا! فانقطعت مع السائل إلى سعيد بن المسيب فسأله، فأخبره، فجلست إلى سعيد، وتركت عبد الله بن ثعلبة، وجالست عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام حتى فقهت”.
ثم رحل الزهري إلى الشام واستقر بها، ودعاه عبد الملك بن مروان، وأخذ يسأله عن أنساب قريش، فأعجب بعلمه الوافر، وخصص له راتباً. ولما توفي عبد الملك لزم ابنه الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن عبد العزيز، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: “عليكم بابن شهاب، فإنكم لاتجدون أحداً أعلم بالسنة الماضية منه”. ثم لزم يزيد فجعله على قضائه، ثم لزم هشام بن عبد الملك فأسند إليه تعليم أولاده.
قال ابن أبى حاتم فى الجرح والتعديل: روى عن أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي الطفيل، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن ثعلبة بن صعير، ومحمود بن الربيع، وعبد الرحمن بن أزهر، ورأى ابن عمر، وروى عن أبان بن عثمان، ولم يسمع منه، وغيرهم .
وروي عن الزهري قوله: “ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته”. وكان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يوماً: “والله لهذه الكتب أشد عليّ من ثلاث ضرائر”. وعنه أيضا: “ما استعدت حديثا ولا شككت في حديث قط إلا حديثا واحدا فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت”.
كان رحمه الله من أسخى الناس، يتصدق على الفقراء، فإذا فرغ مامعه من الأموال يستدين ليتصدق ويعين المحتاجين، وكان يطعم الناس الثريد ويسقيهم العسل. ويُروى أنه كان يختم حديثه بقوله: “اللهم أسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، وأعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة”. ويروى أنه ترك الحديث فترة فأتاه رجل وقال له: إما أن تحدثني، وإما أن أحدثك. فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث؟ حدثني، قال الرجل: قال عليّ رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا، حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. فأخذ الزهري عنه، وعاد إلى علمه وتعليمه.
ثناء الأئمة عليه:
قال الامام أحمد بن حنبل: أصح الأسانيد الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه.
وقال مالك بن أنس: ما أدركت فقيها محدثا غير واحد. فقلت من هو؟ فقال ابن شهاب الزهري.
وعنه أنه قال: إن علم الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم والله لقد أدركت ها هنا، وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا كلهم يقول، قال فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم آخذ عن أحد منهم حرفا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ولقد قدم علينا محمد بن شهاب الزهري وهو شاب فازدحمنا على بابه لأنه كان من أهل هذا الشأن.
وقال أيوب: ما رأيت أحدا أعلم من الزهري. فقال صخر بن جويرية: ولا الحسن؟ قال: ما رأيت أحدا أعلم من الزهري.
وعن جعفر بن ربيعة قال: قلت لعراك بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أما أعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان، وأفقههم فقها وأعلمهم بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثا فعروة ابن الزبير. وقال عراك: فأعلمهم عندي جميعا ابن شهاب فإنه جمع علمهم جميعا إلى علمه.
وعن معمر: قال رجل من قريش: قال لنا عمر بن عبد العزيز: أتاتون الزهري؟ قلنا نعم. قال: فأتوه، فإنه لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه، قال: والحسن ونظراؤه يومئذ أحياء. وعن مالك بن أنس قال أول من دون العلم إبن شهاب. وعن عمرو بن دينار قال: ما رأيت أحدا أهون عليه الدينار والدرهم من ابن شهاب، وما كانت عنده إلا مثل البعر.
أشهر تلاميذ الزهري:
إن قائمة من أخذوا العلم خاصة الحديث النبوي من الزهري لطويلة جدا وممن أشتهرأخذه عن الزهري نستطيع أن نشير إلى جماعة هم أكبر سنا منه أمثال عطاء بن رباح وعمر بن عبدالعزيز وعمرو بن دينار وعمرو بن شعيب وقتادة بن دعامة، وإلى بعض من أقرانه مثل أيوب السختياني ومنصور بن المعتمر وصالح بن كيسان، وأما من اشتهر تلمذهم على الزهري فمنهم سفيان بن عيينة والدراوردي وسفيان بن الحسين وموسى بن عقبة ومعمر بن رشاد والأوزاعي، وشعيب بن أبي حمزة، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، وإبراهيم بن سعد.
وروى عنه أيضا: عراك بن مالك، وأخوه عبد الله بن مسلم، وبكير بن الأشج، ومنصور بن المعتمر، وعمرو بن شعيب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسليمان بن يزيد، وعقيل، والزبيدي، وغيرهم.
الزهري وسماعه عن ابن عمر رضي الله عنه:
هل يصح سماع الزهري من ابن عمر رضي الله عنه أم لا؟ بناء على الاختلاف المذكور في مولد الزهري، فلو أخذنا أي عدد من المذكور في الآراء من 51 أو 58 وغيرها، فهو بذلك يكون قد أدرك ابن عمر، وذلك لأن وفاة ابن عمررضي الله عنه كانت سنة 73 أو 74. ثم هناك أقوال لعلماء الحديث في سماعه عن ابن عمررضي الله عنهما. فقال أحمد العجلي: سمع ابن شهاب من ابن عمر ثلاثة أحاديث. وقال عبد الرزاق حدثنا معمر، قال: سمع الزهري من ابن عمر حديثين. و قال مالك بن أنس كنا نجلس إلى الزهري وإلى محمد بن المنكدر فيقول الزهري قال بن عمر كذا وكذا فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه فقلنا له الذي ذكرت عن بن عمر من أخبرك به قال ابنه سالم. وهذا يدل على أن الأحاديث التي رواها الزهري عن إبن عمر أخبره بها سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن حرب قال: سمعت أبا طالب أحمد بن حميد قال: قلت لاحمد بن حنبل: الزهري سمع من ابن عمر ؟ قال: لا.
وفاته رحمه الله:
قال الواقدي: ومرض وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق، وتوفي لسبع عشرة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة وهو ابن خمس وسبعين سنة.
دفن بشغب،آخر حّد الحجاز وأول حد فلسطين.
قال الزبير بن بكار: مات وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
قال الحسن بن المتوكل: رأيت قبره بأدامى، وهي أول حدود فلسطين وآخر حدود الحجاز.
ولفائد بن أقرم الشاعر يمدح الزهرى:
ذر ذا وأثن على الكريم محمد و اذكر فواضله على الأصحاب
و إذا يقال: من الجواد بماله؟ قيل : الجواد محمد بن شهاب.
تعليقات