اليوم :25 April 2024

رائد علم التفسير والتاريخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224 – 310 ه = 839 – 923 م)

رائد علم التفسير والتاريخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224 – 310 ه = 839 – 923 م)
tabariإمام الأئمة وشيخ الأمة، ورائد علم التفسير والتاريخ، صاحب التصانيف المشهورة، الإمام الجليل، المجتهد المطلق، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، عملاق من الرجال أجبر ذاكرة التاريخ على المثول أمامه، لتلتقط علومه الفريدة، وأعماله الخالدة، ومصنفاته الباهرة، والتي أصبحت فيما بعد منارة للعلماء، ونبعاً ثرياً لرجال الفكر والمعرفة.

أصله:
من طبرستان (مازندران). إحدى محافظات إيران.
وهي:  المنطقة الجبلية التي تحيط بجنوب بحر الخزر (قزوين) وتضم بلدانا واسعة … كان من أعيان مدنها آمل. وتعرف الجبال التي تمتد حولها بجبال البرز.
ويطلق على طبرستان اسم (مازندران) وكانا اسمان مترادفين، ثم فشا اسم (مازندران) وشاع فلا تسمى المنطقة بغيره.

سبب تسمية هذا الموضع بطبرستان:
قال ياقوت: والذي يظهر لي وهو الحق, ويعضده ما شاهدناه منهم أن أهل تلك الجبال كثيرو الحروب , وأكثر أسلحتهم بل كلّها الأطبار؛ حتى إنّك قلّ أن ترى صعلوكاً أو غنيا إلّا وبيده الطبر, صغيرهم وكبيرهم, فكأنّها لكثرتها فيهم سميت بذلك.
ومعنى طبرستان من غير تعريب, موضع الأطبار( ناحية الطبر) واللهَ أعلم.
قال البحتري:
وأقيمَت به القيامة في قم        على خالعٍ وعاتٍ عنيدِ
وثنى معلماً إلى طَبرستان       بخيل يَرُحْنَ تحت اللُبُود

خرج من نواحيها من لا يُحصى كثرة , من أهل العلم والأدب والفقه , والغالب على هذه النواحي الجبال.
فمن أعيان مدن مازندران: بابل, بابلسر, تنكابن, جويبار, جالوس, رامسر, ساري, و آمل… ومن أهم المدن السياحية في هذه المحافظة : مدينة نوشهر .
وقال ياقوت الحموي:
زعم أهل العلم بهذا الشأن أن أهل طبرستان من ولد كماشج بن يافث بن نوح عليه السلام .

فتح طبرستان:
وقد فُتح هذا الإقليم في عهد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه.

اسمه ونسبه:
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري.
ولُقب بالطبري لأن أهل طبرستان جميعًا يُنْسَبون إليها؛ فيقال لكل واحد منهم طبري.

ولادتـه ونشـأتـه:
في بلاد (طبرستان).. بلاد العلم والأدب والفقه، وفي أجمل مدنها… مدينة (آمُل) العريقة عاصمة طبرستان، (مازندران) وُلد حجَّة العلوم، وعالم العلماء في عصره، الإمام (محمد بن جرير الطبري) سنة 224هـ،
وفي هذه البيئة السهلة اللينة، المتمردة العاصية، التي تجمع بين الجبال الشاهقة والسهول المنبسطة، نشأ محمد بن جرير الطبري، وما كاد يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدّمه والده إلى علماء آمل. وشاهدته دروب المدينة ذاهباً آيباً يتأبط دواته وقرطاسه. وسرعان ما تفتّح عقله، وبدت عليه مخايل النبوغ والاجتهاد، حتى قال عن نفسه: ” حفظتُ القرآنَ ولي سبع سنين، وصلّيتُ بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة “.
وقد رأى أبوه رؤيا في منامه أن ابنه واقف بين يدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه مخلاة مملوءة بالأحجار، وهو يرمي بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقص الأب على مُعَبِّرٍ رؤياه فقال له: ” إن ابنك إن كبر نصح في دينه وذبَّ عن شريعة ربه “.

أساتذته:

قرأ القرآن على سليمان بن عبد الرحمن الطلحي.
وروى الحروف سماعاً عن العباس بن الوليد, وأبي كريب محمد بن العلاء, وأحمد بن يوسف التغلبي…
سمع الحديث من: محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارِب، وإِسماعيل بن موسى السُّدِّيّ، وإِسحاق بن أبي إسرائيل، ومحمد بن أَبي مَعشَر , ومحمَّد بن حُمَيد الرَّازِيّ، وأَحمد بن مَنِيع، وأَبي كُرَيبٍ محمَّدَ بن العلاء، وهنَّاد بن السَّرِيّ، وأَبي همَّام السَّكُوني، ومُحمَّدَ بن عبد الأَعلى الصَّنعاني، ومحمد بن المثنّى، وسفيان بن وكِيع، والفضل بن الصّبّاحِ، وأَحمد بن المقدام العِجلِيّ، وبِشرَ بنَ معاذ العَقَدِيّ،  وتَمِيم بن المُنتصر…

من تلاميذه:
حدَّث عنه: أَبو شُعَيب عبد الله بن الحسن الحَرَّانِيّ – وهو أكبر منه – وأبو القَاسم الطَّبرانيُّ، وأحمد بن كامل القَاضي، وأبو بكر الشافعي، وأبو أحمد بن عديٍّ،  والقَاضي أَبو محمَّد بن زَبرٍ، وأحمد بن القَاسم الخشّاب…
روى الحروف عنه: محمد بن أحمد الداجوني, وعبد الواحد بن عمر, وعبد الله بن أحمد الفرغاني، وقرأ عليه أيضاً محمد بن محمد بن فيروز الكرجي شيخ الأهوازي.
وتفقّه عليه خلق كثير.

رحلتـه في طلـب العلـم:
رحل من بلده في طلب العلم، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، سنة (236) هـ .
أول رحلة كانت إلى الرَّي فأخذ عن محمد بن حميد الرازي.
ثم رحل به والده بعد سنوات قليلة من تحصيله لبعض العلوم الشرعية, وكانت هذه الرحلة إلى بغداد حيث بها إمام أهل السنة والجماعة، والعالم الذي أطبقت شهرته الآفاق، أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ إلا أنّ الأقدار لم تحقق للولد أمنيته فقد مات العالم الجليل قبل أن يصل محمد بن جرير إلى بغداد، فتعلّم الفقه ببغداد، والمغازي والسير في الكوفة.
واتجه إلى البصرة, وهي موطن العلم ومهبط القضاء، فجلس بين يدي علمائه، وأخذ عن شيوخها كمحمد بن بشار المعروف ببندار، ومحمد بن الأعلى الصنعاني…
ثم توجّه ناحية مصر، وفي طريقه إليها مرَّ ببيروت، وقضى بها عدّة أيام حتى قرأ القرآن برواية الشاميين.
ثم واصل مسيرته، وفي مصر تلقى الطبري العلم، فأخذ من علمائها قراءة (حمزة) و(وَرْش) وهناك اجتمع بمحمد بن إسحاق بن خزيمة، العالم المؤرخ، حيث قرأ عليه كتابه في السيرة، وأخذ عن شيوخه، كيونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان صاحب الشافعي ـ رحمهما الله ـ وإسماعيل بن يحيى المزني، وغيرهم.
وعاد أبو جعفر إلى بغداد بعد رحلة طويلة، بعد أن أذن له أبوه بذلك.
وانقطع للدرس والتأليف وقد شغله كل ذلك عن أن يتزوج أو أن ينشغل بمطالب الحياة، فعاش عَزباً ـ رحمه الله.
يقول الطبري عن نفسه: ” ما حللتُ سراويلي على حرام ولا حلال قط “.

ملامح شخصيته وأخلاقه:
كان ابن جرير شأنه كشأن العلماء الربانيين، الذين لا يبتغون بعلمهم إلا وجه الله، فلقد كان زاهدًا, ورعًا, منقبضًا عن الدنيا والمناصب وأبواب السلاطين والخلفاء، وكان الخلفاء والوزراء يفيضون عليه بالأموال والعطايا وهو لا يقبلها رغم فاقته وحاجته الشديدة التي كانت تدفعه في بعض الأحيان لبيع ملابسه.
تمتّع الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ بمواهب فطرية متميّزة، جبله الله عليه، وتفضل عليه به، كما حفلت حياته بمجموعة من الصفات الحميدة، والأخلاق الفاضلة، والسيرة المشرفة، ومن هذه الصفات:

1- نبوغ الطبري وذكاؤه:
وكان الطبري- رحمه الله ـ موهوب الغرائز، وقد حباه الله بذكاء خارق، وعقل متقد، وذهن حاد، وحافظة نادرة، وهذا ما لاحظه فيه والده، فحرص على معونته على طلب العلم وهو صبي صغير، وخصص له موارد أرضه لينفقها على دراسته وسفره وتفرغه للعلم. ومما يدل على هذا الذكاء أنه ـ رحمه الله ـ حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس وهو ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين.

2- حفظ الطبري:
كان الطبري رحمه الله ـ يتمتع بحافظة نادرة، ويجمع عدة علوم، ويحفظ موضوعاته، وأدلتها وشواهده، وإن كتبه التي وصلتنا لأكبر دليل على ذلك.

3- ورع الطبري وزهده:
وكان الطبري ـ رحمه الله ـ على جانب كبير من الورع والزهد والحذر من الحرام، والبعد عن مواطن الشبه، واجتناب محارم الله تعالى، والخوف منه، والاقتصار فى المعيشة على ما يرده من ريع أرضه وبستانه الذي خلفه له والده.
قال عنه ابن كثير: ” وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام فى الحق لا تأخذه لومة لائم، وكان من كبار الصالحين “.

4ـ عفة الطبري وإباؤه:
وكان الطبري ـ رحمه الله عفيف اللسان، يحفظه عن كل إيذاء…
ولما كان يناظر مرة داود بن علي الظاهري فى مسألة، فوقف الكلام على داود، فشق ذلك على أصحابه، فقام رجل منهم، وتكلّم بكلمة موجعة لأبي جعفر، فأعرض عنه، ولم يرد عليه، وترفع عن جوابه، وقام من المجلس، وصنّف كتابا في آداب المناظرة.

5ـ تواضع الطبري وعفوه:
كان الطبري شديد التواضع لأصحابه وزواره وطلابه، دون أن يتكبر بمكانته، أو يتعالى بعلمه، أو يتعاظم على غيره…
وكان رحمه الله لا يحمل الحقد والضغينة لأحد، وله نفس راضية، يتجاوز عمن أخطأ فى حقه، ويعفو عمن أساء إليه.
ومع كل هذا التواضع، وسماحة النفس، والعفو والصفح، كان الطبري لا يسكت على باطل، ولا يماليء في حق، ولا يساوم فى عقيدة أو مبدأ، فكان يقول الحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ثابت الجنان، شجاع القلب، جريئا فى إعلان الصواب مهما لحق به من أذى الجهال، ومضايقة الحساد، وتخرصات الحاقدين.

6ـ مروءته:
وكان ربما أهدَى إليه بعض أصدقائه الشَّيء فيقبله، ويكافئه أضعافاً لعِظَمِ مُروءته.
نعم … كان رحمه الله عفيفاً في نفسه منضبطاً في أخلاقه، وكان يرفض دائماً هدايا الوزراء والحكام, مترفعاً عن قبول نفحات السلاطين.
ويذكر المؤرخون أن الخاقاني لما تقلّد الوزارة، أرسل إلى ابن جرير مالاً كثيراً فأبى أن يقبله، فعرض عليه القضاء فامتنع، فعاتبه أصحابه وقالوا له: لك في هذا ثواب، وتُحي سنةً قد دَرَسَت، وطمعوا أن يستجيب لهم ويقبل ولاية المظالم، فانتهرهم قائلا: ” لقد كنتُ أظنّ أنّي لو رغبتُ في ذلك لنهيتموني عنه ” فخجلنا منه.
وقال العلماء في صفاته الخِلقية: كان أسمر، أعين، نحيف الجسم، فصيحا .

مـرتبتـه العلميـة:
كان ابن جرير ـ رحمه الله ـ عالما موسوعيا ومفكراً إسلامياً ، شغف منذ صباه بالعلم, ووهبه جُلَّ حياته، وقصر عليه أيامه ولياليه.
ولكثرة تعمّقه في العلوم الشرعية، صار مجتهداً في الفقه صاحب مذهب بعد أن كان على مذهب الشافعي ـ رحمه الله.
يقول أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري، أحد تلاميذه: ” كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه، لأنّه جمع من علوم الإسلام ما لا نعلمه اجتمع لأحد من الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له “.
وقال عنه الذهبي ـ رحمه الله: كان ثقة حافظاً صادق، رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ و أيام الناس، عارفاً بالقراءات، واللغة، وغيره.
وما ذكرناه غيض من فيض من كلام العلماء وثناءهم على ابن جرير، وإن كانت كتبه تغنيه عن شهادات الشهود، وما بقي فيها يدل على أنه كان من أفذاذ الموسوعيين في العالم، وحسبنا من تواليفه تاريخه وتفسيره.

آراء العلماء فيه:
قال ابن كثير: ” كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله”.
وقال عنه محمد بن إسحاق بن خزيمة :”ما أعلم تحت أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير “.
وقال عنه ياقوت الحموي: أبو جعفر الطبري المحدث، الفقيه، المقريء، المؤرخ، المعروف، المشهور.
وقال الإمام الذهبي: الإِمام, العَلَم، المجتهد، عالم العصر، أبو جعفر الطَّبري، صاحب التّصانيف البديعة … قلَّ أَن تَرى العيونُ مثلَه … وكان من أفراد الدَّهر عِلماً، وذكاءً، وكثرة تصانيف.
وقال أبو محمد الفَرْغانيّ: كان ابن جرير ممن لا تأخذُه في الله لومةُ لائم، مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشنَّاعات، من جاهل، وحاسد، ومُلْحِد، فأما أهل العلم والدين فغير مُنكرين علمَه، وزهدَه في الدنيا ، ورفضَه لها ، وقناعتَه باليسير، وعُرِض عليه القضاء فأبى. وقال عنه ابن تغري بردي : وهو أحد أئمة العلم، يُحكم بقوله، ويُرجع إلي رأيه، وكان متفننا فى علوم كثيرة، وكان واحد عصره.

مؤلفات الطبري:
ترك لنا الطبري ثروة علمية تدلّ على غزارة علمه، وسعة ثقافته، ودقّته في اختيار العلوم الشرعية والأحكام المتعلقة به. وكان له قلم سيال، ونفس طويل، وصبر في البحث والدرس، فكان يعتكف على التصنيف، وكتابة الموسوعات العلمية في صنوف العلوم، مع ما منّ الله عليه من ذكاء خارق، وعقل راجح متفتح، وجلد على تحمل المشاق.

ومن هذه المؤلفات:
1- جامع البيان عن تأويل القرآن، المعروف بــ (تفسيرالطبري). مطبوع.
2- تاريخ الأمم والملوك، المعروف بــ “تاريخ الطبري”، وهو موجود ومطبوع.
3- اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام، المعروف” باختلاف الفقهاء” وهو في علم الخلاف، وبقي منه جزء وطبع.
4- الخفيف في أحكام شرائع الإسلام، وهو فى تاريخ الفقه، وهو مختصر لكتابه اللطيف.
5- بسط القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو في تاريخ الفقه الإسلامي ورجاله وأبوابه.
6- تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار.
7- أداب القضاة، وهو في الفقه عن أحكام القضاء وأخبار القضاة.
8- كتاب المسند المجرد، ذكر فيه الطبري حديثه عن الشيوخ، بما قرأه على الناس.
9- الرد على ذي الأسفار. وهو رد على داود بن علي الأصبهاني, مؤسس المذهب الظاهري.
10- كتاب القراءات وتنزيل القرآن، ويوجد منه نسخة خطية في الأزهر.
11- صريح السنة، وهي رسالة في عدة أوراق في أصول الدين.
12- البصير في معالم الدين. وهو رسالة في أصول الدين، كتبها لأهل طبرستان فيما وقع بينهم و من الخلاف في الاسم والمسمى، وذكر مذاهب أهل البدع، والرد عليهم.
13- فضائل علي بن أبي طالب. ولم يتمه الطبري ـ رحمه الله .
14 – فضائل أبي بكر الصديق وعمر، ولم يتمه.
15 ـ فضائل العباس. ولم يتمه.
16- مختصر مناسك الحج.
17- مختصر الفرائض.
18- الرد على ابن عبد الحكم على مالك، فى علم الخلاف والفقه المقارن.
19- الرمي بالنشاب، أو رمي القوس، ويشك فى نسبته إلى الطبري.
20- العدد والتنزيل.
21- مسند ابن عباس.
22- كتاب المسترشد.
23- اختيار من أقاويل الفقهاء. وغير هذا كثير .

ولكن هذه الكتب قد اختفى معظمها من زمن بعيد ، ولم يحظ منها بالبقاء إلى يومنا هذا وبالشهرة الواسعة ، سوى بعض الكتب منها: كتاب التفسير ، وكتاب التاريخ .

أولا: تفسير الطبري:
المسمي [جـامـع البيـان في تـأويـل آي القـرآن]:
يُعد تفسير الطبري باتفاق العلماء موسوعة علمية كبري، ودائرة معارف متنوعة… لأنه يحتوي مختلف صنوف العلوم الدينية واللغوية، مما يندر وجوده في تفسير آخر، ولذلك بلغ القمة، واستقر على الذروة، وبقي فى المكان الشامخ، يقصده كل دارس، ويستفيد منه كل مفسر، ويستعين به كل من تناول علما من علوم القرآن.

أقوال العلماء فى تفسير الطبري:
احتل تفسير الطبري سويداء القلب عند العلماء على مر العصور فى القديم والحديث، وحظي بالرعاية والعناية، وأثني عليه الأئمة والعلماء والمؤرخون والمفسرون، وسطروا الجمل المذهبة حوله، وعلقوا عليه أوسمة الفخار…
قال أبو حامد الإسفراييني إمام الشافعية: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير ابن جرير لم يكن كثيراً.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” وتفسير محمد بن جرير الطبري وهو من أجل التفاسير …  وقال: ” وأما التفاسير التي فى أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير الكلبي “.
وقال السيوطي في الإتقان: ” وكتابه أجل التفاسير وأعظمها فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط, فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين.

مصـادر الطبري فى تفسيره:
الطابع المميز لتفسير الطبري اعتماده على المأثور عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى آراء الصحابة والتابعين، ثم أضاف إلى التفسير بالمأثور ما عرف في عصره من نحو وبلاغة وشعر، كما رجع إلى القراءات وتخير منها ورجح ما تخيره، وعرض كثيراً من آراء الفقهاء في مناسباته، ورجح ما رآه موافقاً للدليل، وكذلك استعان بكتب التاريخ فنقل عن ابن إسحاق وغيره. وقد حوى ابن جرير جميع تراث التفسير الذي تفرق قبله في كتب صغيرة منذ عصر عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري.
وكان يعرض لآراء المتكلمين ويسميهم أهل الجدل ويناقشها ويصوب الرأي السلفي الذي يدين به.
والإدلاء برأيه بعد المناقشة سمة ظاهرة في تفسيره… فكان يرفض ويعلل لرفضه وكان يرجح ويدلل على ترجيحه… وكان يؤيد ويبرهن على تأييده.
وكما كان لهذا التفسير أوَّليَّة زمانية فقد كان له كذلك أوَّليَّة موضوعية، فهو لم يقتصر على لون واحد من التفسير، بل اشتمل على ألوان من التفسير، رفعت من شأنه، وجعلت له تلك المنـزلة عند العلماء…

المآخذ على تفسير الطبري:
الطبري رحمه الله ليس معصوما من الخطأ، وكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد عليه  إلا صاحب النبوة، كما قال الإمام مالك رحمه الله، وكتاب الطبري الذي بلغ ستة آلاف صفحة ليس غريبا أن ترد عليه بعض الملآخذ، وأن تصدر منه أخطاء، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول فى الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة :” كل ابن آدم خطاء”.
ولذلك لم يسلم تفسير الطبري من النقد، وكشف الأخطاء التي وقع فيه، والغلط الذي جاء فى تفسيره. ويمكن إجمالها فيما يلي:

1- لم يطبق الطبري منهجه النقدي الكامل للأسانيد على جميع ماجاء فى التفسير، وإنما فعل ذلك فى بعض الروايات النادرة، وترك غيرها مع ما فيها من أسانيد ضعيفة كان جديرا به أن ينبه عليها ويكشفه.

2- حشد الطبري فى تفسيره كثيرا من الروايات الإسرائيلية والنصرانية والأساطير والخرافات، وقصص الوعظ الخيالية، وكان المفروض على الطبري أن ينبه على حقيقته، دون أن يكتفي بذكرها وإشاعتها والسكوت عنه.

3- ورد في تفسير الطبري بعض الروايات المتناقضة لابن عباس (رضي الله عنهما) ولم يرجح رواية منها على أخرى، ولم يتعرض لبيان الصواب من ذلك، كما اعترض بعض العلماء على الطبري فى نقده لبعض القراءات، وإبهامه لأسماء بعض علماء العربية الذين أخذ منهم، وأشار إلى أسمائهم إشارة.
وهذه الأخطاء ـ والحمد لله ـ ليست فى العقيدة، ولا فى أصول الدين، ولا فى أركان الإسلام، ولا فى قواعد الدين، ولا فى الأحكام القطعية، ولا فى النصوص الثابتة ولا فى معاقد الإجماع.

ثانيا: تاريخ الطبري: المسمى [ تاريخ الأمم والملوك ]
بهذا الكتاب لمع اسمه, و تخلد، وذاع صيته…
ويعتبر تاريخ الطبري ذروة التأليف التاريخي عند المسلمين فى القرون الثلاثة الأولى، وهو أوثق مصدر للتاريخ الإسلامي.

محتوى تاريخ الطبري:
انقسم تاريخ الطبري إلى قسمين:
1-القسم الأول تناول الطبري فيه تاريخ العالم قبل الإسلام، وبدأه بخلق آدم أبي البشر، وقصته مع إبليس، ثم عرض الطبري لسيرة الأنبياء من أولاد آدم حتى الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام ) وأرخ بصفة خاصة لبعض الأمم مثلا لفرس، وكذلك الروم وملوكهم، وكذلك اليهود وأنبيائهم، ثم تحدث عن العرب وتحدث عن أجداد الرسول (صلي الله عليه وسلم ) وحال قريش ومكة…
2- القسم الثاني يتناول فيه تاريخ العالم بعد الإسلام، ابتدأ من نزول الوحي وحتي سنة 302هـ ويشمل هذا القسم أربعة عهود متميزة:
أ ـ العهد النبوي
ب ـ العهد الراشدي
ج ـ العهد الأموي
دـ العهد العباسي حتى سنة 302 الهجري.

أهمية تاريخ الطبري وقيمته العلمية:
1- كتاب الطبري هو أول كتاب فى التاريخ العام.
2- أقدم مصدر كامل للتاريخ العربي وفي اللغة العربية منذ أوائل الزمان إلى أول القرن الرابع الهجري.
3- جمع الطبري في تاريخه كثيرا من أخبار العرب فى الجاهلية وحفظها من الضياع، كما أرخ للقرون الأولى بعد الإسلام.
4- دون الطبري فى تاريخه تاريخ الفرس، وأبدع فى ذكر كثير من الحقائق والتي لا توجد عند غيره.
5- كان الطبري رحمه الله دقيقا جدا في ذكره لتاريخ الرومان، وذكر أسماء الأباطرة حتي عصر هرقل سنة 641م 21هـ.
6- يعتبر كتاب الطبري المنبع الصافي لكثير من المؤرخين الذين جاؤا بعد ذلك، فقد استقوا منه المادة التاريخية، وتفننوا فى عرضها مثل مسكويه (421هـ ) وابن الأثير (630 هـ ) وابن خلدون (808هـ ).
7- إن كتاب الطبري حافل بالنصوص الأدبية التي ذكرها فى تراجم أصحابه، سواء كانت شعرا أو خطبا أم رسائل أدبية أم محاورات ولا توجد فى كتاب آخر.

آراء العلماء في تاريخ الطبري:
تعددت أقوال العلماء في هذا الخصوص اعترافا منهم بفضل الطبري ومكانته التاريخية، وسجلوا ذلك بعبارات مضيئة، وأحرف من نور منه:
قال الخطيب البغدادي ” وله الكتاب المشهور فى تاريخ الأمم والملوك “.
وقال ابن الأثير ” فى مقدمة كتابه الكامل ” ولقد جمعت فى كتابي هذا ما لم يجتمع فى كتاب واحد ـ فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو المعول عليه عند الكافة، والرجوع إليه عند الاختلاف، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أخل بترجمة واحدة منها “.

المآخذ على تاريخ الطبري:
قلما يسلم عمل أي إنسان من النقص، أو يصدر بشكل كامل، فإن الكمال لله وحده، وكل عمل للبشر معرض للنقص والخطأ، والنقد والمآخذ، ولذلك سجل علماء التراجم والتاريخ عدة ملاحظات على تاريخ الطبري والمادة العلمية فيه، وعلى منهجه الذي سلكه ومن هذه المآخذ:
1- أسرف الطبري فى ذكر الإسرائيليات والخرافات والأوهام والحكايات فيما يتعلق ببدء الخلق وقصص الأنبياء والتاريخ القديم، دون أن يمحص ذلك ويعرضه على النقض والمنطق والعقل ومما جاء فى القرآن والسنة.

2- اهتم الطبري في تاريخه بالأحداث السياسية، فحصر تاريخه غالبا فى المشاكل الداخلية للدولة، وما يتصل بالسياسة الداخلية للدولة، وأغفل كثيرا الحديث عن الفتوحات الإسلامية مثل الأندلس.

3- اقتصر الطبري في تاريخه عما نقله من المصادر والأسناد الماضية، وهذا صرفه عن النظر في أحداث عصره، فلم يسجلها في كتابه، ولم يؤرخه، فجاءت الأحداث التي عاصرها مختصرة جد، مع أن الطبري كان على إطلاع واسع به.
يقول الأستاذ شاكر مصطفي ” وعلى كل حال، فإن ما قد يوجه إلى تاريخ الطبري من نقد لا يمكن أن يلغي شيئا من قيمته كمؤرخ أول  …
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن اتساع صدور أئمة السنة – من أمثال أبي جعفر الطبري – لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم، دليل على حريتهم، وأمانتهم، ورغبتهم في تمكين قرّائهم من أن يطّلعوا على كل ما في الباب.

مبلغه من العلم والعدالة :
كان ابن جرير أحد الأئمة الأعلام ، يُحكم بقوله ، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظـًا لكتاب الله ، بصيرًا بالقرآن ، عارفـًا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن ، عالمـًا بالسنن وطرقها ، وصحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفـًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ، ومسائل الحلال والحرام ، عارفـًا بأيام الناس وأخبارهم .. هذا هو ابن جرير في نظر الخطيب البغدادي، وهي شهادة عالم خبير بأحوال الرجال ، وذكر أن أبا العباس بن سريج كان يقول : محمد بن جرير فقيه عالم ، وهذه الشهادة جد صادقة ؛ فإن الرجل برع في علوم كثيرة ، منها : علم القراءات ، والتفسير ، والحديث ، والفقه ، والتاريخ ، وقد صنف في علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنف.
وقد اعتبر الطبري أبا للتفسير ، كما اعتبر أبا للتاريخ الإسلامي ، وذلك بالنظر لما في هذين الكتابين من الناحية العلمية العالية ، ويقول ابن خلكان : إنه كان من الأئمة المجتهدين ، لم يقلد أحدًا ، ونقل : أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكره في طبقات الفقهاء في جملة المجتهدين .
قيل : وله مذهب معروف ، وأصحاب ينتحلون مذهبه ، يقال لهم الجريرية ، ولكن هذا المذهب الذي أسسه ، و وجد له أتباعـًا من الناس ، لم يستطع البقاء إلى يومنا هذا كغيره من مذاهب المسلمين.

العالم المتخصص:
وقد تمكن ابن جرير من نواحي العلم، وأدلى بدلوه فيها، حتى أصبح إمام عصره بغير منازع، وقد قيل عنه: كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو…

علو همتـه :
كان أكثر علماء عصره همة في طلب العلم وتحصيله وفي تأليف أمهات الكتب حتى روي أنه كان يكتب أربعين صفحة في كل يوم.
و قال عند تفسيره للقرآن : أتنشطون لتفسير القرآن ؟ قالوا : كم يكون قدره ؟ قال : ثلاثون ألف ورقة ، فقالوا : هذا ما يفني الأعمار قبل تمامه فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة .
وكان الطبري عالي الهمة، عظيم الاجتهاد؛ ومما يحكى عنه: أن رجلاً جاءه يسأله في العَرُوض (وهو علم يعرف به الشعر من النثر) ولم يكن الطبري له إلمام كبير بهذا العلم فقال له: علي قولٌ ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض، فإذا كان في غد فتعالَ إلي، ثم طلب أبو جعفر كتاب العروض، فتدارسه في ليلته، وقال: أمسيتُ غير عَرُوضي، وأصبحتُ عروضيًّا.
وقال الفرغاني : إن قوماً من تلامذة ابن جرير حسبوا له منذ بلغ الحلم إلى أن مات ثم قسموا على تلك المدة أوراق مصنفاته فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة.

اتهامه بالتشيع :
وتعصب العوام على ابن جرير ورموه بالتشيع وغالوا في ذلك، وهو منه براء، حتى منعوا الناس من الاجتماع به، وخلطوا بينه وبين أحد علماء الشيعة واسمه متشابه مع ابن جرير، وهو «محمد بن جرير بن رستم» وكنيته أيضًا أبو جعفر، ولقد نبه العلاَّمة الذهبي على هذا الخلط في تاريخه وفي كتابه القيم سير أعلام النبلاء، فذكر ترجمة ابن جرير بن رستم مباشرة بعد ترجمة ابن جرير الطبري، للتمييز بين الرجلين، وهذه المحنة واحدة من سلسلة طويلة من المحن التي وقعت للعلماء بسبب التعصب والجهل.
وقال الذهبي في سير: كان ابن جرير من رجال الكمال، وشُنِّعَ عليه بيسير تشيُّع، وما رأينا إلّا الخَير، وبعضهم ينقل عنه أنّه كان يُجيز مسحَ الرجلين في الوضوء، ولم نَرَ ذلك في كتبه.

مواقف من حياته:
قيل إن المكتفي أراد أن يحبس وقفا تجتمع عليه أقاويل العلماء, فأحضر له ابن جرير فأملى عليهم كتابا لذلك فأخرجت له جائزة فامتنع من قبولها.
فقيل له: لا بد من قضاء حاجة.
قال: أسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة, ففعل ذلك.
وكذا التمس منه الوزير أن يعمل له كتابا في الفقه, فألّف له كتاب “الخفيف” فوجه إليه بألف دينار, فردّها. ولم يقبلها.
يقول أبو العباس البكري: جمعت الرحلة بين ابن جرير, وابن خزيمة, ومحمد بن نصر المروزي, ومحمد بن هارون الروياني, بمصر فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم, وأضر بهم الجوع, فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه, فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام, فخرجت القرعة على ابن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي صلاة الخِيرة. فاندفع في الصلاة, فإذا هم بالشموع ورجل من قبل والي مصر يدق الباب ففتحوا.
فقال: أيكم محمد بن نصر؟
فقيل: هو ذا.
فأخرج صرة فيها خمسون دينارا, فدفعها إليه. ثم قال: وأيكم محمد ابن جرير؟ فأعطاه خمسين دينارا.
وكذلك للروياني وابن خزيمة.
ثم قال: إن الأمير كان قائلا بالأمس(نام في الظهيرة) فرأى في المنام أنّ المحامد جياع قد طووا كشحهم فأنفذ إليكم هذه الصرر, وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إلي أحدكم.
وقال أبو محمد الفرغاني( في ذيل تاريخه على تاريخ الطبري) : حدثني هارون بن عبد العزيز أن أبا جعفر (الطبري) لما دخل بغداد وكانت معه بضاعة يتقوت منها فسرقت, فأفضى به الحال إلى بيع ثيابه وكمي قميصه.
فقال له بعض أصدقائه: تنشط لتأديب بعض ولد الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
قال: نعم, فمضى الرجل فأحكم له أمره وعاد فأوصله إلى الوزير بعد أن أعاره ما يلبسه, فقربه الوزير ورفع مجلسه وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر, فاشترط عليه أوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة وسأل استلافه رزق شهر, ففعل.
وأدخل في حجرة التأديب وخرج إليه الصبي وهو أبو يحيى, فلما كتبه أخذ الخادم اللوح ودخلوا مستبشرين فلم تبق جارية إلا أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير فرد الجميع, وقال: قد شرطت على شيء فلا آخذ سواه.
فدرى الوزير ذلك فأدخله إليه وسأله فقال: هؤلاء عبيد وهم لا يملكون فعظم ذلك في نفسه.
ولقد تعرض ابن جرير الطبري لمحنة شديدة في أواخر حياته بسبب التعصب المذموم والتقليد المذهبي الأعمى، فلقد وقعت ضغائن ومشاحنات بين ابن جرير الطبري ورأس الحنابلة في بغداد «أبي بكر بن داود» أفضت إلى اضطهاد الحنابلة لابن جرير، وكان المذهب الحنبلي في هذه الفترة هو المسيطر على العراق عامة وبغداد خاصة.
يقول محمد بن عليّ بن سهل – صاحب محمد بن جرير- :
سمعتُ محمد بن جرير وهو يُكَلِّم ابن صالحٍ الأَعلم، وجرَى ذكر عليٍّ – رضي الله عنه – ثم قال محمّد بن جرير: مَن قال إِن أَبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدَىً، أَيش هو؟
قال:مبتدع.
فقال ابن جرير إِنكارا عليه:  مبتدع مُبتدِعٌ!!  هذا يُقتَل.

من شعره:
إِذَا أَعسَرتُ لم يَعلَم  رَفِيقِي             و أَستَغني فيَستَغني صديقي
حيائي حافظٌ لي ماءَ  وَجهِي            و رِفقِي في مطالَبتِي رفيقي
ولو أَنِّي سَمحتُ بماءِ وَجهي         لكنتُ إلى الغنى سهلَ الطريقِ

وله:
خُلقَانِ لا أَرضَى فَعَالَهُمَا                       بَطَرُ الغِنَى وَمَذَلَّةُ الفَقرِ
فإِذا غَنِيتَ فلا تَكُن بَطِراً                   وإِذَا افتَقَرتَ فَتِهْ علَى الدَّهرِ

وفاته:
بارك الله في حياة الطبري فعاش ستة وثمانين عاما فى سبيل العلم ونشره، لتبقي ذكراه خالدة فى التاريخ، واسمه يتردد على الألسنة، وكتبه تتنقل من جيل إلى جيل، وعلمه ينتفع به الناس إلى يوم القيامة، وبقي الطبري مستوطنا فى بغداد, يؤدي رسالته، ويلتف حوله طلاب العلم والعلماء، وهكذا عاش الطبرى راهبا فى محراب العلم والعمل حتى جاءته الوفاة ولا رآد لأمر الله.
قال الخطيب: ” واجتمع عليه – حال الجنازة – من لا يحصيهم عدداً إلا الله، وصُلِّي على قبره عدة شهور ليلاً ونهارا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب “، وكان ذلك في يوم 26 من شهر شوال سنة 310 هـ .
قال أبو محمد الفرغاني: حدثني أبو بكر الدينوري قال: لما كان وقت صلاة الظهر من يوم الاثنين الذي توفي في آخره ابن جرير طلب ماءً ليجدد وضوءه, فقيل له : تؤخر الظهر, تجمع بينها وبين العصر؛ فأبى.
وصلى الظهر مفردة والعصر في وقتها أتم صلاة وأحسنها، وحضر وقت موته جماعة, منهم أبو بكر بن كامل.
فقيل له قبل خروج روحه: يا أبا جعفر! أنت الحجة فيما بيننا وبين الله فيما ندين به, فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا، وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا؟
فقال: الذي أدين الله به وأوصيكم هو ما ثبت في كتبي, فاعملوا به وعليه.
وكلاما هذا معناه, وأكثر من التشهد وذكر الله ـ عز وجل ـ ومسح يده على وجهه , وغمض بصره بيده, وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا.
رحم الله الطبري رحمة رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته.

رثاء الطبري:
ورثاه أبو بكر بن دريد بقصيدة أولها:
لَنْ تَسْتَطِيْعَ لأَمْرِ اللهِ تَعْقِيْبَا                  فَاسْتَنْجِدِ الصَّبْرَ أَوْ فَاسْتَشْعِرِ الحُوْبَا
وَافْزَعْ إِلَى كَنَفِ التَّسْلِيم وَارْضَ بِمَا          قَضَى المُهَيْمِنُ مَكْرُوْهَا وَمَحْبُوبَا
إِنَّ الرَّزِيَّة لاَوَفْرٌ تُزَعْزِعُهُ                        أَيْدِي الحَوَادِثِ تَشْتِيْتاً وَتَشْذِيْبَا
وَلاَ تفرُّق أُلاَّفٍ يَفُوْتُ بِهِم                     بَيْنٌ يُغَادِرُ حَبْلَ الوَصْلِ مَقْضُوبَا
لَكِنَّ فِقْدَانَ مَنْ أَضحَى بِمَصْرَعِهِ               نُوْرُ الهُدَى وَبهَاءُ العِلْمِ مَسْلُوْبَا
إِنَّ المنيَّةَ لَمْ تُتْلِفْ بِهِ رَجُلاً                        بَلْ أَتْلَفَتْ عَلَماً لِلدِّيْنِ مَنْصُوبَا
أَهْدَى الرَّدَى للثَّرَى إِذْ نَالَ مُهْجَتَهُ        نَجْماً عَلَى مَنْ يُعَادِي الحَقَّ مَصْبُوبَا
كَانَ الزَّمَانُ بِهِ تَصْفُو مَشَارِبُهُ                    فَالآنَ أَصْبَحَ بِالتَّكْدِيْرِ مَقْطُوبَا
كَلاَّ وَأَيَّامُهُ الغُرُّ الَّتِي جَعَلَتْ                        لِلْعِلْمِ نُوْراً وَلِلتَّقْوَى مَحَارِيْبَا
لاَ يَنْسَرِي الدَّهْرُ عَنْ شِبْهٍ لَهُ أَبَداً         مَا اسْتَوْقَفَ الحَجُّ بِالأَنصَابِ أُرْكُوبَا
إِذَا انتَضَى الرَّأْي فِي إِيضَاحِ مُشْكِلَ          أَعَادَ مَنْهَجَهَا المَطْمُوْسَ مَلْحُوبَا
لاَ يُوْلِجُ اللَّغْو وَالعَوْرَاء مَسْمَعَهُ                     وَلاَ يُقَارِفُ مَا يُغْشِيْهِ تَأْنِيْبَا
تَجْلُو مَوَاعِظُهُ رَيْنَ القُلُوبِ كَمَا              يَجْلُو ضِيَاءَ سَنَا الصُّبْحِ الغَيَاهِيْبَا
لاَ يَأْمَنُ العَجْزَ وَالتَّقْصِيْرَ مَادِحُه              وَلاَ يَخَافُ عَلَى الإِطنَابِ تَكْذِيْبَا
وَدَّتْ بِقَاعُ بِلاَدِ اللهِ لَوْ جُعِلَتْ                        قَبْراً لَهُ لَحَبَاهَا جِسْمُهُ طِيْبَا
كَانَتْ حَيَاتُكَ لِلدُّنْيَا وَسَاكِنِهَا                  نُوْراً فَأَصْبَحَ عَنْهَا النُّوْرُ مَحْجُوْبَا
لَوْ تَعْلَمُ الأَرْضُ مَنْ وَارَتْ لَقَدْ خَشَعَتْ           أَقْطَارُهَا لَكَ إِجلاَلاً وَتَرْحِيْبَا
إِنْ يَنْدِبُوْكَ فَقَدْ ثُلَّتْ عُرُوْشُهُمُ                      وَأَصْبَحَ العِلْمُ مَرْثِياً وَمَنْدُوبَا
وَمِنْ أَعَاجِيْبِ مَا جَاءَ الزَّمَانُ بِهِ                 وَقَدْ يُبِيْنُ لَنَا الدَّهْرُ الأَعَاجِيْبَا
أَنْ قَدْ طَوَتْكَ غُمُوْضُ الأَرْضِ فِي لِحفٍ     وَكُنْتَ تَمْلأُ مِنْهَا السَّهْلَ وَاللُّوبَا

وقال أبو سعيد بن الأعرابي:
حدثٌ مفظعٌ وخطب جليل *** دقّ عن مثله اصطبار الصبور
قام ناعي العلوم أجمع لما *** قام ناعي محمد بن جرير

***************************************
أهم مصادر الدراسة:

معجم البلدان – لياقوت الحموي (ج 3 / ص147)
تعريف بالأماكن الواردة في البداية والنهاية لابن كثير – (ج 2 / ص 112)
العبر في خبر من غبر – (ج 1 / ص 114) الذهبي
slamstory  تاريخ قصة الاسلام
موقع مفكرة الإسلام
الوافي بالوفيات – الصفدي (ج 1 / ص 267)
غاية النهاية في طبقات القراء – (ج 1 / ص 325)
الأعلام للزركلي – (ج 6 / ص 69)
طبقات المفسرين – (ج 1 / ص 16)
مشاهير أعلام المسلمين   / علي بن نايف الشحود
سير أعلام النبلاء –  للإمام الذهبي (ج 27 / ص 298)
الإمام الطبري المنهاج الإسلامية

الكاتب: أبو محمد البلوشي

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات